قضايا وآراء

الهلال الصاعد: هل تشهد تركيا احتضار العدالة والتنمية أم نهضته؟ (4)

باسم خفاجي
1300x600
1300x600
استقالة أحمد داود أوغلو، ومجموعة من الشخصيات بحزب العدالة والتنمية التركي، وخسارة عدد من انتخابات بلديات المدن الكبرى في تركيا، ومنها إسطنبول وأنقرة، تطرح تساؤلات مشروعة حول مستقبل التجربة التركية الحالية، والتي يقودها حزب العدالة والتنمية طوال 18 عاما مضت. فهل هذه التجربة التركية توشك أن تحتضر؟ أم أنها تجربة تجدد نفسها، وقادرة على استمرار الصعود والتنافس على المكانة الأولى للصوت الانتخابي التركي، وللموقع والمكانة الدولية أيضا؟

لكي نفهم ونقيم واقع أي تجربة أو أي كيان سياسي، من المهم أن نتفهم أن الأحزاب السياسية تمر بمراحل تطور ونمو، يمكن أن تسمى "المراحل العمرية" للكيانات. ولكل مرحلة من تلك المراحل طبيعتها، ومشكلاتها ومزاياها، ولكل مرحلة أيضا بصمات يمكن من خلالها معرفة أن الكيان السياسي يمر بهذه المرحلة من مراحل التطور. وبمعرفة المرحلة التي يمر بها أي كيان سياسي، يمكننا التقييم الصحيح للكيان، والحديث عن مستقبله بشكل أكثر واقعية وعقلانية، وأقرب إلى استشراف صحيح لمستقبل الكيان.

"المراحل العمرية" للأحزاب والكيانات السياسية

تمر الأحزاب والكيانات السياسية بمراحل عمرية قريبة من مراحل عمر الإنسان. هناك الولادة والنشأة تتبعها المراهقة ثم الشباب ويعقبه الاكتمال ثم أزمات منتصف العمر ثم المزيد من العطاء، إلى أن تظهر علامات الشيخوخة، يليها الاحتضار أو الانزواء أو النهاية.

وكما يحدث للإنسان أيضا، تموت أحيانا الأحزاب موت الفجأة، وتتعرض للحوادث التي يمكن أن تقطع مسيرة العطاء أو المساهمة في نهوض الدول والمجتمعات التي تنتمي لها.

ويمكن النظر إلى المراحل العمرية الطبيعية للكيانات السياسية على أنها سبع مراحل غالبا، وقد تطول أو تقصر هذه المراحل، وأحيانا يمكن أن تحدث قفزة في المراحل، وتجاوز لبعض المراحل أيضا. هذه المراحل يمكن إجمالها في:

المرحلة الأولى: النشأة

غالبا ما ينشأ الحزب السياسي من فكرة، وشخصية أو شخصيات آسرة محورية. وإذا اجتمع أنصار الفكرة مع لحظة سياسية مواتية، مع عزيمة كافية لتكوين نواة صلبة تستطيع أن تدافع عن الفكرة، وتحمي نموها الأولي، مع حاجة في المجتمع لفكرة الحزب أو مبادئه، وتقدير كاف في المجتمع لقيمة الحزب، يمكن أن ينشأ الحزب، ويتحول من فكرة لواقع عملي.

المرحلة الثانية: النمو والتطور

يتطور الحزب بعد النشأة متمركزا ومتمحورا حول الفكرة التي نشأ عليها، ويستدعي الأعضاء والمتعاطفين إلى التضحية من أجل الفكرة، والعمل الدؤوب من أجل المشاركة السياسية الحقيقية، وتحقيق مكاسب تدعم نمو الحزب وتحويل الفكرة إلى واقع عملي. في هذه المرحلة تكون العاطفة هي المحور الأساس لجمع الأعضاء وحثهم على العمل، وتتميز المرحلة عموما بالتقارب بين أبناء الحزب والحرص على مصالحه، والتضحية الحقيقية من أجل التطور.

المرحلة الثالثة: المراهقة والتساؤلات

بعد أن تنجح الأحزاب في تجاوز مرحلة النشأة ومرحلة النمو والتطور الأولي، وتحقيق بعض النجاحات السياسية والعملية، تظهر الكثير من التساؤلات حول طريقة الإدارة وطبائع الأشخاص وتتوارى الفكرة والتضحية من أجل المناصب والمكانة والاستفادة من الحزب.

وتظهر الحاجة إلى إعادة تأكيد الهوية والقيمة، والإجابة على الأسئلة التي تسبق النضوج، والتحول من الالتفاف حول الفكرة إلى الالتفاف حول النتائج. وعادة ما يحدث كثير من الاستبدال والتغيير للشخصيات في هذه المرحلة لأسباب متعددة. والمراهقة مرحلة خطرة في حياة الأحزاب والكيانات، وعدم حسن إدارتها يؤدي أحيانا إلى فقدان الحزب القدرة على استمرار النمو والتأثير، ويدخل الحزب في صراعات داخلية تنقله سريعا إلى مراحل متأخرة من العمر.

المرحلة الرابعة: الاستقرار والنضوج

إذا استطاع الحزب أو الكيان السياسي تجاوز مرحلة المراهقة بسلام، ونجح في تطوير نفسه ليتبنى الفكرة الأصلية من جديد عبر تحقيق النتائج وليس جمع التعاطف، عندها ينتقل الحزب إلى مرحلة سياسية جديدة يمكن أن تطول، وتكون علاماتها الأساسية هي المؤسسية والاستقرار، والنضوج السياسي والقدرة على تحمل الضربات، وتحول نوع الارتباط بالحزب من الناحية العاطفية إلى المزاج العملي البرجماتي (النفعي) أو حسابات النتائج والمكاسب والخسائر.

تظهر في الحزب في تلك المرحلة شخصيات ذات طبيعة مختلفة من ناحية الكفاءة والقدرة، وتتوارى الشخصيات المؤسسة صاحبة الالتزام العاطفي، لتستبدل بشخصيات فاعلة قادرة على تحقيق النتائج باستمرار، وقد تحمل فقط الحد الأدنى من التعاطف مع الفكرة الأساسية والمبادئ التي نشأ عليها الحزب.

المرحلة الخامسة: العقبات (أزمات منتصف العمر)

يتحول الاستقرار في الكيانات السياسية مع الوقت إلى أزمات. فهناك في الأحزاب السياسية كما هو في الأشخاص، أزمات منتصف عمر. فبعد فترات من النضوج والاستقرار وتحقيق النتائج، تتحول الرتابة إلى عبء، وتظهر رغبات لإعادة تأكيد أن الحزب ليس خاملا، وإنما هو حي متجدد.

وفي هذه المرحلة يستقوي خصوم الحزب عليه أيضا؛ لأن فترة الاستقرار تؤدي إلى ارتخاء الدفع العاطفي بالحزب، واكتشاف الخصوم للثغرات السياسية التي يمكن إضعاف الحزب عبرها.

في المقابل، يمكن أن تتحول أزمات منتصف العمر في الأحزاب السياسية إلى ماكينة لدفع التجديد والتطوير وإعادة التركيز على الفكرة وعلى القيمة. ويمكن أن تتحول تلك الأزمات أيضا إلى صراعات داخلية حادة؛ تؤدي إلى الانقسامات وتفكك الحزب إلى كيانات صغيرة أكثر هشاشة وأكثر تصارعا مع بعضها البعض.

المرحلة السادسة: التجديد وإعادة الانطلاق

إذا تجاوز الكيان السياسي أزمة منتصف العمر بنجاح، تنتج مرحلة من التجديد والتطوير والنمو من جديد، ويعود الحزب إلى تجديد كوادره وآليات عمله، وطبيعة برامجه السياسية بشكل يتناسب مع الخبرات المكتسبة وثقة الناخب وطلباته، وكذلك مواكبة التغيرات السياسية والاقتصادية والفكرية محليا وإقليميا ودوليا.

يعيد الحزب في هذه المرحلة صياغة أفكاره ومبادئه وتطويرها، بما لا يضر بأصل الفكرة التي اجتمع حولها الأنصار، ولكن تطوير الفكرة لتناسب المكانة والظرف والاحتياجات.

ويمكن أن تستمر دورة المرحلة الرابعة إلى السادسة أكثر من مرة في عمر الكيان، فيمكن أن يستقر ثم يمر بعقبات ثم يجدد نفسه ثم يستقر وهكذا، وإذا إن لم ينجح الحزب في تطوير وتجديد كياناته، فإنه يتجه نحو الشيخوخة بعد ذلك.

المرحلة السابعة: الشيخوخة والموت البطيء

وهي مرحلة تتوقف فيها الرغبة في التجديد، ويتحول الكيان للحديث عن الماضي والإنجازات السابقة، والشخصيات التي مرت على الحزب، وتنشأ صراعات بين أنصار شخصيات انتهت وأنصار شخصيات لا تزال تعمل ضمن الحزب، ويكثر الحديث حول الهوية المفقودة والأحلام الضائعة.

تقييم المكانة والمستقبل بعد معرفة المرحلة العمرية

من الخطأ أن نحاول الحكم على تجربة ما، أو كيان سياسي، دون أن نحدد أولا المرحلة العمرية التي يمر بها. فلكل مرحلة عمرية مشكلاتها الطبيعية، أيضا مشكلاتها غير المتوقعة.

فإذا نظرنا لشخصية تمر بمرحلة المراهقة مثلا، فليس غريبا وجود بعض الارتباك في اتخاذ القرارات، ومن الطبيعي تقلب المواقف والآراء مثلا. هذا النوع من المشكلات طبيعي لمرحلة المراهقة، لكنه مرضي إذا استمر في مراحل الشباب مثلا. وهكذا أيضا الكيانات والأحزاب.

عندما يمر أي كيان بالمشكلات الطبيعية التي تتناسب مع المرحلة العمرية له، فليس هناك داع للقلق في التعامل مع تلك المشكلات، فهي غالبا تزول عندما يتجاوز الكيان تلك المرحلة العمرية، لتظهر مشكلات أخرى تتناسب مع المرحلة الجديدة. النجاح السياسي للكيانات غالبا هو حسن إدارة المشكلات الطبيعية للمراحل العمرية التي يمر بها.

ليس من الممكن أن يعمل حزب وينشط دون أن يعاني من المشكلات، فالمشكلات أمر طبيعي في أي كيان يريد أن يتقدم وأن يتطور. السؤال الأهم ليس هو وجود مشاكل من عدمه، السؤال المحوري: هل تتناسب المشاكل مع المرحلة العمرية للكيان؟ دون معرفة المرحلة العمرية التي يمر بها كيان ما، من الصعب الحكم الصحيح على طبيعة وتأثير تلك المشكلات التي يمر بها.

المرحلة العمرية لحزب العدالة والتنمية التركي

ولد الحزب منذ 18 عاما (مرحلة النشأة). كانت الولادة تحمل فكرة وهما، وهمة وعزيمة. كان هناك في تلك الفترة الزمنية خصم سياسي شرس، ودولة متحكمة ونظام حكم تسيطر عليه المؤسسة العسكرية التركية بشكل شبه كامل، لكنها أيضا كانت دولة ضعيفة في الاقتصاد والواقع والحياة.

انطلق حزب العدالة والتنمية التركي في مسار نمو متسارع (مرحلة النمو والتطور) حتى عام 2008م. ومر بأزمات المراهقة السياسية، وتجاوزها بحد أدنى من الخسائر (مرحلة المراهقة والتساؤلات)، ثم استمر الحزب نحو الاستقرار في الحكم، وحدث قدر كبير من النهوض والنضوج الفكري والسياسي والاقتصادي (مرحلة الاستقرار والنضوج).

ثم بدأت منذ عام 2016 مرحلة جديدة تميزها كثرة الأزمات والعقبات الداخلية، والتي تشير إلى أن الحزب الآن في المرحلة الخامسة من عمره. إنها مرحلة العقبات وأزمات منتصف العمر السياسي له.

تقديرنا أن حزب العدالة والتنمية يمر بمرحلة أزمات منتصف العمر السياسي، وأن المشكلات التي يمر بها الآن مشكلات طبيعية لهذه المرحلة، ويمكن للحزب أن يتجاوزها دون مشقة كبرى إذا فهم الحزب والقائمون عليه أهمية إدراك طبيعة المرحلة العمرية للحزب، وما تستلزمه من تغييرات في الأشخاص وطرق العمل والسياسات أيضا.

تجربة النهضة التركية بشكل عام تمر بنفس المرحلة العمرية للحزب، وهو ما يؤكد الحاجة إلى فهم طبيعة تلك المرحلة حتى يمكن للتجربة أن تستمر في الصعود، وتقديم نموذج مهم للأمة الإسلامية تمكن الاستفادة منه لنهوض الأمة.

قد يرى البعض أن حزب العدالة والتنمية التركي يمر بمرحلة الشيخوخة له، أو مرحلة بدايات الانحسار.. الحقيقة في ظننا هي العكس تماما، فهذا الحزب على مفترق طرق طبيعي متناسب مع مراحل نمو الكيانات السياسية الناشئة.

ومفترق الطرق هذا إما أن ينطلق بالحزب وبتركيا نحو المزيد من النهوض والتجديد، وهذا أمر ممكن وضروري ويجب السعي نحوه، وهو الاحتمال الأقوى في ضوء ما يحدث الآن. أما الخيار الآخر، في حال الفشل في إدارة هذه المرحلة، فيمكن أن يسير بالحزب نحو الانكفاء، والدخول في الشيخوخة ثم الانحسار، وهو الاحتمال الأضعف بناء على المعطيات.

المقومات المتاحة للحزب تشير إلى قدرته الطبيعية على تجاوز أزمة منتصف العمر السياسي. مخطئ من يظن أن التجربة التركية تنحسر، أو أن حزب العدالة والتنمية يتقلص أو سينقسم. فإمكانات الحزب، سواء على المستوى القيادي أو المستوى التنفيذي أو درجة التواصل مع الشعب، تعطيه وتؤهله لفرصة نادرة لتصحيح المسار وإعادة الانطلاق. هذا ما يجب الحديث عنه ودراسته، وليس توقعات الفشل والانكسار، لمجرد المرور بعدد من المشكلات الطبيعية التي تتناسب مع عمر التجربة وطبيعة نموها.

مستقبل حزب العدالة والتنمية التركي

على المستوى الدولي، قد يبدو أن العالم كثير الانتقاد لقيادات حزب العدالة والتنمية، وخاصة الدول الغربية. لكن الحقيقة المجردة أن هذه الدول الغربية ذاتها تفضل أن تتعامل مع شخصية قادرة فاعلة تحترم كلمتها، رغم انتقاد تلك الدول لهذه الشخصية، أكثر من التعامل مع أنصاف الحكام في الدول المجاورة، ممن يشكلون أعباء حقيقية على النظام العالمي، ولا يستطيعون الحفاظ على كلمتهم أو وعودهم.

ومن الناحية الأخرى، فإن فكرة "تصفير المشاكل" التي قدمها أحمد داود أوغلو في بداية حياته السياسية مع الحزب لم تكن فكرة ناجحة عمليا، وهي لا تتناسب مع دولة تبحث عن إعادة تحديد مكانتها الدولية. فدولة صاعدة بلا مواجهات سياسية إقليمية لا يمكن أن تحتل المكانة اللائقة بها. لذلك، فإن مسار السياسة الخارجية التركية الذي يصطنع أحيانا أو دوما مشكلات خارجية؛ هو مسار طبيعي لدولة تريد إعادة التموضع دوليا، واحتلال مكانة أفضل في القرار السياسي الدولي، وليس علامة تهور أو تخبط، كما يحلو لبعض المحللين السياسيين أن يتهموا تركيا به.

على المستوى المحلي والداخلي، فإن خروج عدد من القيادات السابقة من الحزب واستقالتهم أو إقالتهم أو تهميشهم؛ أمر مؤلم مزعج، لكنه متناسب مع طبيعة أزمات هذه المرحلة العمرية للحزب، ومرتبط بالتوجه نحو التجديد والاستعداد لمرحلة جديدة من حزم الطاقة السياسية من أجل استمرار النمو، وضمان أن يستعيد الحزب قوته وارتباطه بفكرة نشأته، مع تحديث أدوات العمل السياسي له لتناسب المرحلة الجديدة والطموحات الأكبر.

ومن الطبيعي أيضا للمرحلة أن يحدث تغير في مزاج المرتبطين بالحزب من الارتباط العاطفي بالفكرة، إلى الارتباط العملي بالنتائج. وهذه ملامح مرحلة أخرى مهم دراستها.. وليس انتقادها.
التعليقات (1)
معاوية العوض
الأربعاء، 18-09-2019 10:48 م
لايمكن لجاحد ان ينكر دور حزب العدالة والتنمية في تطوير وتحسين اداء العديد من المؤسسات العاملة داخل وخارج تركيا ولايمكن لجاحد ان ينكر الدور الريادي الذي يلعبه الحزب في حل العديد من المشاكل القديمة والجديدة الناتجة عن التصارع الدولي وبالتالي التاثير على السياسة الداخلية للدولة ولايمكن لجاحد ان ينكر الخطط والطرق التي تدار بها الاوضاع بشكل عام سؤالي هل هناك خطط معدة او موجودة لايجاد اشخاص او شخصيات تحل محل الاشخاص والشخصيات المقالة او المستقيلة بدءا من راس الهرم وليس انتهاء بنهاية الهرم وشكرا لجهودكم معاوية العوض انقرة 05550082662