كتاب عربي 21

رئيس تونس القادم

محمد هنيد
1300x600
1300x600

الصراع على أشده بين المتنافسين على كرسي الرئاسة المزمع تنظيمها خلال أقل من أسبوعين في تونس وقد قارب عدد المترشحين ثلاثين مترشحا. يُسجّل هذا الفرز النهائي بعد استبعاد عدد من المتنافسين الذين لم يستوفوا شروط الترشح التي وضعتها الهيئة المستقلة للانتخابات باعتبارها السلطة المشرفة على المسار الانتخابي بكامله. 

الحدث على قدر كبير من الأهمية والرمزية أو هكذا يبدو في ظاهره، حيث يشكّل منصب الرئيس في دول سايكس بيكو منصب الحاكم بأمره الذي لا يعلو سلطان على سلطانه. إنه بكل بساطة موقع المستبد العربي المحبذ، حيث يمارس كل طغيانه وجبروته وفساده، فهو حيّز بورقيبة وابن علي والقذافي ومبارك وبشار وعلي صالح وكل الطغاة العرب. 

أما تونسيا فقد تأسس النظام السياسي خلال مرحلة الوكالة الاستعمارية الأولى إبان بورقيبة وفترة الوكالة الاستعمارية الثانية إبان ابن علي على نظام رئاسي مطلق لا يخضع فيه الرئيس إلى أي سلطة باستثناء سلطته هو أو توجيهات السفارات الأجنبية التي ترسم له مجال الفعل والحركة.

بورقيبة أو الزعيم الإله 

يمكن القول دون أدنى مبالغة إن الحبيب بورقيبة كان أول من وضع أسس النظام الرئاسي المطلق في تونس منذ توليه السلطة بعد كذبة الاستقلال الموهوم سنة 1956. أطلق الرجل على نفسه كل ألقاب الفخامة والإجلال في إشارة فاضحة إلى مرض الزعامة وعقدة النقص التي كان يعاني منها طوال تاريخ حكمه وحتى وفاته وحيدا عاجزا لا يزوره أحد. أطلق على نفسه لقب زعيم الأمة ولقب محرر تونس واحتفل التونسيون عقودا من الزمن بعيد ميلاد الزعيم الذي كان يتواصل أسابيع طويلة في مسقط رأسه بمدينة المنستير الساحلية. 

نصّب الزعيم تماثيله في كل مكان وفي مداخل المدن الكبرى وهو على حصانه يعلن النصر على الاستعمار، كما وضع سيرته في كل كتب التاريخ التي دوّنت له سيرة أشبه بسيرة الأنبياء والرسل وكبار الصالحين. لكن أحبّ ألقاب الزعيم إلى نفسه هو لقب المجاهد الأكبر الذي نحته لنفسه ليكون التفضيل بلام التعريف المطلقة التي تجعل الرجل في مرتبة أعلى من مرتبة الإله.

 

أما تونسيا فقد تأسس النظام السياسي خلال مرحلة الوكالة الاستعمارية الأولى إبان بورقيبة وفترة الوكالة الاستعمارية الثانية إبان ابن على على نظام رئاسي مطلق


لكنّ المجاهد الأكبر لم يكن في الحقيقة إلا العميل الأكبر والخائن الأكبر الذي صفّى كل رفاق النضال والمقاومين الصادقين من فرحات حشاد وصولا إلى صالح بن يوسف ليخلوَ له مجال تزوير التاريخ والدخول بالبلاد إلى نفق الاستبداد عقودا من الزمان. كما عمل على التخلص من كل المناضلين والمجاهدين والمقاومين بأوامر فرنسية عليا حتى يحصل على منصب رئيس مدى الحياة. 

كان العميل بورقيبة مولعا بالمحتل إلى حدّ الهيام، بل كان يرى فيه النموذج الأرقى للحضارة والتمدن وهو الأمر الذي يفسر كرهه الشديد للثقافة الإسلامية وعداءه للانتماء العربي وحربه المفتوحة على الإسلام في كل مناسبة وعيد. 

كان بورقيبة يرى نفسه إلها مكلفا بنحت ثقافة جديدة وشخصية جديدة تفصل أهل تونس عن تاريخهم العربي الإسلامي لتربطهم بالحضارة الغربية وقيمها ولغتها. كما كان الرجل معروفا باحتقاره لشعب تونس وخاصة فقراء المناطق العميقة وساكنة الجنوب والشمال الغربي الذين خرجت من بينهم أعتى فرق المقاومة المسلحة في وجه الاحتلال الفرنسي. لم يكن بورقيبة في الحقيقة سوى وكيل استعماري وضيع نصّبه المحتل على رقاب التونسيين ليضع البلاد على سكة التخلف والفقر بعد أن باع ثروات البلاد ومواردها الطبيعية من أجل البقاء في كرسي الحكم. 

ابن علي الرئيس البلطجي

لم يأت ابن على من القمر بل خرج من رحم البورقيبية عندما نجح في تنفيذ انقلاب طبي على المستبد العجوز الذي صار عاجزا عن الحركة حين كان ابن علي وزيرا للداخلية ووزيرا أول. لم يكن الانقلاب ممكنا دون ضوء أخضر أوروبي عندما حان وقت تغيير العميل الأول بعميل جديد يستطيع مواصلة النسق الاستبدادي الذي يضمن نهب الثروات ووضع اليد على البلاد بشرا وحجرا.
 
واصل ابن علي نسق سابقه فضاعف عدد السجون والمعتقلات التي أسسها بورقيبة ونكّل بخصومه السياسيين تنكيلا شديدا وأسس لواحدة من أضخم شبكات الفساد والنهب المنظم عبر تاريخ تونس. كان الطاغية الجديد يحتاج هو الآخر إلى صناعة مجده الشخصي فصنع له جملة من الألقاب والتسميات مثل "رجل التغيير" و"صانع التغيير" و"رجل التحوّل المبارك" وغيرها من الألقاب التي ستنكشف عن واحد من أخطر العملاء والمجرمين. 

لم تكن القوى الدولية تسمح للعميل الجديد بنسف النسق كاملا أي أنه لم يكن بمقدوره الإطاحة بالنسق الذي وضعه العميل الأول لأنه يمثل امتدادا طبيعيا له، حيث حافظ الثاني مُكرها على صورة المستبد الأول ورمزيته حتى لا يتسبب في نسف أسس البناء الاستبدادي في مخيال العوامّ من التونسيين. 

لكن ابن علي نجح في ما لم ينجح فيه العميل الأول بشكل كلّي إذ تمكن من تدجين كل النخب التونسية المعارضة باستثناءات نادرة جدا وساهم في تدمير جزء كبير جدا من منظومة القيم الاجتماعية كما وضع أسس أخطر عصابات النهب المنظم التي حولت البلاد إلى مزرعة تملكها حفنة من العائلات وهي تسيطر على كل مفاصل الاقتصاد التونسي. 

الرئاسة في زمن الثورة

اندلعت ثورة الحرية والكرامة من رحم الفقر والمعاناة في المناطق التي كان المستبدان بورقيبة وابن علي يحتقرانها احتقارا لا يوصف وأطاحت بالنظام الرئاسي المطلق ولم يعد لمنصب الرئيس البريق الذي كان له. تحول المنصب أو هو بصدد التحول إلى وعاء شرفي لا يملك صلاحيات كبيرة مثل تلك التي يملكها رئيس الحكومة. لكنه لا يزال رغم ذلك يحظى بجاذبية كبيرة وهو الأمر الذي يفسر تكالب النخب التونسية عليه خلال الانتخابات الأخيرة.

 

انتهى عصر الزعيم الأوحد والمجاهد الأكبر والبطل الخارق وأصبح منصب الرئيس منصبا إداريا ككل المناصب الشرفية الأخرى وهو في نظرنا أعظم إنجازات ثورة الحرية والكرامة التونسية.

 
لم تنجح مجموعة الشخصيات التونسية التي تعاقبت على المنصب منذ الثورة في استعادة بريق الرئاسة أو بالأحرى استعادة سلطاتها المطلقة، وهو الأمر الذي يؤشر على انحسار المنطق الاستبدادي وتراجعه ولو بشكل نسبي. هذا المؤشر الذي يعلن عن توزّع السلطات وتفتتها بين الحكومة ومجلس نواب الشعب ورئاسة الجمهورية يشكّل في الحقيقة انتقالا نوعيا في المسار السياسي التونسي. صحيح أن هذا النظام يبقى هشا غير متماسك بسبب طبيعة التجربة التونسية الوليدة لكنه يبقى رغم ذلك علامة من علامات البناء الديمقراطي التي تقطع بشكل نسبي مع طبائع الاستبداد. 

لن يكون الرئيس القادم مهما كانت مرجعيته إلا عنصرا من عناصر البناء السياسي التي لن تستطيع دون التوافق مع بقية مراكز القوى الوطنية إنجاز أي وعد من الوعود التي تطلقها كل يوم. لقد انتهى عصر الزعيم الأوحد والمجاهد الأكبر والبطل الخارق وأصبح منصب الرئيس منصبا إداريا ككل المناصب الشرفية الأخرى وهو في نظرنا أعظم إنجازات ثورة الحرية والكرامة التونسية.

التعليقات (2)
أحمد يوسف علي
الجمعة، 06-09-2019 03:32 ص
كما أشرت لدول سايكس بيكو المشارقية فأن الرؤساء العرب لا يتزحزحوا حتى الموت. لكن في تونس الأمر مختلف. ليس للرئيس أي صلاحيات من العيار الثقيل لكن المشكلة في المفكرين الذين يقدمون أنفسهم رؤوساء وهم حتى الأن ذاهبون لامتلاك جميع السلطات فآن وجدت أحدهم قد طبع خطة خمسية فمعنى هذا أنه لن يعبر الحكومة ولا النواب ولن يحترم القضاء ولن يسمع الاعلام. المفكر حين يتحول لرئيس عربي يرى في منامه كوابيس يزين له الشيطان أنها احلام وردية فيذهب فور استفاقته لتطبيقها متجاوزا جميع السلط. كارثة أن يصبح المفكر رئيسا.
ياسمين1988
الجمعة، 06-09-2019 01:55 ص
احلى روبورتاح شفتو لا فض فوك دكتور