كتب

ابن خلدون.. أسس علم الاجتماع وسبق علمي الاقتصاد والمستقبل

كتاب يؤكد أن ابن خلدون لم يؤسس فقط علم الاجتماع بل فهم الاقتصاد  قبل ظهور علم الاقتصاد  (عربي21)
كتاب يؤكد أن ابن خلدون لم يؤسس فقط علم الاجتماع بل فهم الاقتصاد قبل ظهور علم الاقتصاد (عربي21)

الكتاب: ابن خلدون، سيرة فكرية 
المؤلف: روبرت إرفين
الناشر: بريستون يونيفرسيتي برس
الطبعة: الأولى، 2018
عدد الصفحات: 272 

يُعتبر ابن خلدون من أشهر علماء الحضارة الإسلامية، كتبه ـ خصوصًا المقدمة ـ تُرجمت إلى لغات عدة كما كُتب عنه وعنها ما يَصعب حصره. على سبيل المثال عزيز العظمة في كتابه عن ابن خلدون والذي صَدر في بداية الثمانينات وضَع قائمة بالدراسات التي كُتبت عن ابن خلدون، عدد تلك الدراسات تجاوز ثمانمئة وخمسون دراسة وكتاب، وبعد مرور عقود فلا شك أن عدد هذه الكتب والدراسات تضاعف مرات عدة. 

مقدمة ابن خلدون تَمتاز بِعمقها وأصالتها وإبداعها وجمعه بين عدد من التخصصات، فالمقدمة جعلت من ابن خلدون اسماً معروفًا في علم الاجتماع والتاريخ والفلسفة وعلم الإنسان ودراسات الحضارات. كتاب روبرت إرفين عن السيرة الفكرية لابن خلدون، الصادر نهاية العام الماضي، يَستعرض حياة ابن خلدون الفكرية بسياقيها التاريخي والفكري. يحوي كتاب روبرت إرفين أحد عشر فصلاً بالإضافة إلى المقدمة ومُختصر زمني لتسلسل حياة ابن خلدون. 

مكانة ابن خلدون

يبدأ إرفين مُقدمة كتابه بسرد عدد من الاقتباسات من كُتاب وأكاديميين غربيين عن أهمية ورفعة ابن خلدون ومساهماته الفكرية والفلسفية. مثلا، المؤرخ مارشال هودجسون وصف مقدمة ابن خلدون بأنها: "أعظم مُقدمة موسوعية لتاريخ الحضارة الإسلامية". أيضا الفيلسوف وعالم الاجتماع البريطاني إرنست غيلنر يعتقد أن ابن خلدون عالم اجتماع استقرائي متميز، مارس علم الاجتماع قبل اختراع علم الاجتماع ومفاهيمه. إرفين يعتبر أن مقدمة ابن خلدون تُقدم منظورا ثاقبا ليس فقط لفهم المُجتمعات وتاريخهم بل أيضا لرؤية وإدراك العالم ككل. 

الفصل الأول "ابن خلدون بين الأطلال" يوضح الكاتب معنى كلمة "عِبَر"، والتي تحوي معاني كثيرة وعَميقة مثل: الاتعاظ والاعتبار بما مضى، والمثال والإرشاد. يعتقد إرفين أن عمق هذه الكلمة كان السبب وراء تَسمية ابن خلدون كتابه "بكتاب العِبَر". أيضا، يبين إرفين أن الدمار والأطلال قد تكون رسالة للإنسانية وعبرة للتأمل والتدبر، حيث الإشارة ليس فقط أن الحياة تافهةٌ وعابرةٌ بل إن القوة والثروة لا تفيد شيئًا إذا ما حل الأجل، هذه هي فحوى مفهوم "العبرة". لذا فالكاتب ينوه أن قراءة مقدمة ابن خلدون يجب أن تكون من خلال فهم الحياة والتاريخ باعتباره ميدانًا لأخذ العبرة. 

 

الفيلسوف وعالم الاجتماع البريطاني إرنست غيلنر يعتقد أن ابن خلدون عالم اجتماع استقرائي متميز، مارس علم الاجتماع قبل اختراع علم الاجتماع ومفاهيمه.


الفصل الثاني "صراع العروش بالقرن الرابع عشر في شمال إفريقيا" يستكشف الكاتب حياة ابن خلدون والوظائف التي تقلدها وأهمها وظيفة "الحاجب"، التي شغلها ابن خلدون مرات عدة، الحاجب منصبٌ ذو نفوذ واسع، حيث يضبط الحاجب الوصول إلى الحاكم أو الخليفة ويدير ويضبط أمور العسكر والجند وغيرها من المهام. ابن خلدون كان أيضا مشاركًا بصناعة السياسات فلقد تآمر بحسب الكاتب مع آخرين لتغيير قادة وحكام، فعلى سبيل المثال كان ذلك واضحا عندما قام عبد الله محمد بإعادة تثبيت نفسه كحاكم من خلال مساعدة ابن خلدون، فحصل ابن خلدون بعد ذلك على منصب حاجب كمكافأة لذلك. لذا، ووفقًا للكاتب فإن ابن خلدون كان دائما جزءا من لعبة صراع العروش في شمال إفريقيا. 

فضائل البدو

في الفصل الثالث "البدو، فضائلهم ومكانتهم في التاريخ" يبين الكاتب موقف ابن خلدون من البدو، حيث يؤمن أن لهم فضائل وأخلاق وصفات أفضل من أهل المدن، فالبدو بحسب ابن خلدون فيهم صفات جيدة كالزهد والشجاعة والصحة الجيدة وذلك بسبب طبيعة الحياة في البادية. ووضح كيف أن الحياة في البادية تتطلب من القبائل إيجاد عصبية معينه لأجل الشعور بالأمن والأمان في ظل الحياة القاسية في البادية. إضافة إلى ذلك، فإن ابن خلدون حلل التاريخ من منظور فلسفي وصنف التاريخ على مستويين باطني وظاهري. لذا فمقدمة ابن خلدون بالنسبة لإرفين ليست مجرد تاريخ بل هي عبارة عن مساهمة فلسفية، تم مناقشة هذا في الفصل الرابع والمعنون بـ "ركائز منهجية المقدمة: الفلسفة، واللاهوت والفقه". 

حياة ابن خلدون في مصر موضوع الفصل الخامس "إقامة ابن خلدون بين المماليك في مصر". لقد كان ابن خلدون مُعجبًا بشدة بمصر وخصوصًا مدينة القاهرة، حيث مكث فيها حوالي ربع قرن. لقد قال بحق القاهرة جملته المشهورة: "من لم يرَ القاهرة فإنه لم ير عظمة الإسلام". 

في القاهرة قام ابن خلدون بتحرير وتوسيع مقدمة، ودَرَسَ الحديث، والفقه بجامع الأزهر. كما أنه عَمِلَ قاضي قضاة ومُستشارًا للسلطان. 

بالفصل التالي "الصوفية" يبين الكاتب أن ابن خلدون يعتبر التصوف جزءًا من التدين والعلم الديني، حيث أن الصوفية والتصوف طريقة لفهم وإدراك الدنيا والتاريخ. في هذا الفصل يحاول الكتاب الإجابة على أسئلة مثل: هل كان ابن خلدون صوفيًا، حيث يزعم إرفين أن ابن خلدون كان صوفيًا، ويبرهن على ذلك بأنه درس مع الشيخ الصوفي عيسى ابن الزيات إضافة الى أن ابن خلدون ناقش الصوفية بمقدمته بطريقة تبين أنه كان يميل إلى التصوف. 

 

كان ابن خلدون مُعجبًا بشدة بمصر وخصوصًا مدينة القاهرة، حيث مكث فيها حوالي ربع قرن. لقد قال بحق القاهرة جملته المشهورة: "من لم يرَ القاهرة فإنه لم ير عظمة الإسلام".


الفصل السابع "رسائل من الجانب المظلم" يُوضح كيف أن ابن خلدون كان مهتمًا بأساليب وطرق استشراف المستقبل، حيث أن المقدمة تناقش مواضيع مُختلفة تتعلق بمحاولة استشراف المستقبل مثل الأحلام، والسحر، والتصوف وما شابه ذلك. لكن الكاتب يَدعي في هذا الفصل أن هذه المواضيع غير مهمة بل وليست قادرة على فهم التاريخ وسيرورته. 

بالفصل التالي "الاقتصاد قبل اختراع علم الاقتصاد" يفصح الكاتب عن فهم ابن خلدون للاقتصاد وكيف يعمل، حيث أظهر ابن خلدون اهتمامًا شديدًا بالأخلاق كركيزة أساسية للاقتصاد. بالفصل التاسع المعنون بـ "عمل ابن خلدون: التدريس والكتابة"، يبين الكتاب جزءًا من تفصيل حياة ابن خلدون حيث أنه أمضى مُعظم حياته بالكتابة والتدريس بوظائف وأماكن مختلفة. 

الطريق إلى الشهرة

في الفصل العاشر يُفصح الكاتب كيف أصبح ابن خلدون مرموقًا ومشهورًا وخصوصا بالغرب. فعلى سبيل المثال في فرنسا كان هناك اهتمام بفهم مساهمات ابن خلدون. فترجمة المقدمة للغة الفرنسية تلقت دعمًا رسميًا من الدولة بحسب الكاتب، وذلك لأجل تَسخير هذه المعرفة كأداة لتقوية وتمكين الاستعمار الفرنسي في جنوب إفريقيا. المؤرخ والفيلسوف البريطاني توينبي قام بإشهار ابن خلدون عندما صَرَّحَ بأهمية وعظمة المقدمة، حيث قال: "لا شك أنها أعظم عمل من نوعه أنشأه العقل الإنساني في أي زمان أو مكان". (ص. 172). 

في الفصل الأخير "نهاية المطاف" يبين الكاتب أن عددًا من المفكرين والأكاديميين أساءوا قراءة ابن خلدون، حيث أن هؤلاء حاولوا جعل ابن خلدون مُفكرًا منهجيًا أكثر مما هو عليه في الواقع. فالكاتب يزعم أن ابن خلدون كان غير متناسق باستخدام كلمات مثل "بدوي" و"عربي". السبب بحسب الكاتب قد يكون أن ابن خلدون كتب المقدمة بأزمنة وأماكن مختلفة.  

كتاب إرفين جُهدٌ جيد وخصوصًا الفصل الثالث والعاشر. إلا أن هناك عدم تَناسق بل وركاكة في الفصل السادس، فمثلا لم يكن هناك برهان كاف بأن ابن خلدون كان فعلًا صوفيًا. الكاتب حاول البرهنة على ذلك بزعم أن ابن خلدون درس مع شيخ صوفي، كما أن ابن خلدون قام بكتابات لها علاقة بالتصوف، لكن كلا الادعاءين غير كافيين لإثبات أن ابن خلدون كان صوفيًا، كما أنه من الممكن أن يكتب شخص كتبا عن الصوفية والتصوف بدون أن يكون صوفيًا أو حتى مسلمًا، فلا علاقة بين هذه الادعاءات وأن ابن خلدون ملتزم بطريقة صوفية. قد يكون ابن خلدون صوفيًا لكن هذه الأدلة قطعا لا تثبت ذلك. 

أيضا، الكاتب اهتم بتفاصيل غير مهمه أوردها ابن خلدون في مقدمته، كتعليقه على مقولة ابن خلدون أن الشمس بذاتها ليست ساخنة ولا باردة. هذه أخطاء موجودة عادةً بمعظم النصوص الكلاسيكية وبكل الحضارات. 

رغم وجود بعض المآخذ على هذا الكتاب، يبقى أن نقول أن هذا الكتاب غني بالمعلومات، كما أن النقاشات منطقية وقوية بما يتعلق بمعالجة أعمال ابن خلدون في سياقها التاريخي والفكري. لذا فهذا الكتاب ذو أهمية ليس فقط لطلاب علم الاجتماع والتاريخ والدراسات الحضارية بل أيضا للمتخصصين في هذه الحقول الدراسية. 

وفي كل الأحوال فإن هذا الكتاب يُقدم أفكارًا جيدة وتفصيلية لمن يريد الاطلاع على حياة ابن خلدون ومساهماته الفكرية والفلسفية. 

*باحث مُشارك في مركز دراسات الإسلام والشؤون الدولية بجامعة إسطنبول "زعيم" ومحاضر في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بنفس الجامعة.

التعليقات (0)