مقالات مختارة

رياح توريث خماسينية تهب على مصر من جديد

محمد عبد الحكم دياب
1300x600
1300x600

يجب ألا يحار المرء في معرفة كيف يشق الاستبداد السياسي طريقه إلى دهاليز الحكم ودوائر السلطة، وهو مختلف عن غيره؛ الفردي أو الجماعي، ويتحقق بالاستحواذ، ووضع اليد على مواطن القوة، والإمساك بمفاتيح السلطة دون تفرقة بين المِلْكية والحكم والمسؤولية، فالمِلْكِية في مجتمعات متقدمة غالبا ما تكون خاصة وفردية، مقننة ومنضبطة، والملكية العامة تفرضها ضرورات وتحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية ملحة؛ لإحداث توازن مجتمعي في سبيل تحقيق عدالة اجتماعية ومساواة قانونية مطلوبة لاستقرار الدول والمجتمعات. والحكم فأساسه العدل وفق قواعد دستورية وقانونية ملزمة وحقوق إنسانية جامعة، والمسؤولية متنوعة؛ مسؤولية عامة، ومسؤولية جماعية ومسؤولية فردية؛ منضبطة بتشريعات وقوانين وصالح عام.

 

والحكم الاستبدادي لا يكترث بذلك، وما أن يصل المستبد لمقعد الحكم؛ يكون شغله الشاغل الاستحواذ على أسباب القوة؛ الثروة والحكم والقوة المسلحة، واعتماد التمييز بين المواطنين؛ بين سادة وعبيد، ريف وحضر، سود وملونين وبيض، وعنصرية وطائفية، ويعمل بمبدأ «أنا الدولة والدولة أنا»، وتستر المؤسسات الصورية والقوانين الفردية عوراته، وهو لا يتحمل أي مسؤولية؛ اجتماعية أو سياسية أو دستورية أو أخلاقية.


وسرعان ما يتخلص المستبد ممن منحوه وأوصلوه لكرسيه، ويتخلى عن وعوده أو التزامه الدستوري والقانوني والسياسي والأدبي، ووصفنا ما تحكيه الرئاسة وتنطق به أجهزة الإعلام الرسمية وغير الرسمية في مقال الاسبوع الماضي بأن «أغلبه لغو وبقيته مبالغات».. وكان ذلك واضحا في قول السيسي أمام المؤتمر السابع للشباب في «العاصمة الجديدة» (31/ 07/ 2019): «لو الشعب رفض الإصلاحات كنا حنعمل انتخابات رئاسية مبكرة وأسلم البلد لحد تاني»!


وحين تظاهر «المشير» بالزهد في خوض انتخابات الرئاسة؛ تغيرت لهجته بعد الفوز، ولم يعد يكرر ما كان يقوله «لن أبقى يوما بدون رغبة الشعب».. وأتم بذلك «الزهد» تعديلات دستورية يحتاجها عن طريق أنجاله، وأتاح لنفسه البقاء في الحكم إلى سنة 2030..


وقصة التوريث في مصر بدأت من ربع قرن، وكنا في «القدس العربي» أول من كشفها؛ نهاية تسعينيات القرن الماضي، لكن هذه المرة سبقتنا «التايمز» البريطانية، وكان «التوريث أحد أهم أسباب ثورة 25 يناير 2011، بجانب أنها كشفت عدم قبول القوات المسلحة به، ويبدو أن تأييد الثورة كان تكتيكا اتبعه المشير حسين طنطاوي، رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة الأسبق في إقناع مبارك بالتنحي، وإظهار التأييد للثورة والثوار، ثم كان ما كان، وأفشلت ثورة يناير العظيمة ذلك المخطط، وكان قاب قوسين أو أدنى من التنفيذ. ويبدو أن خمر الحكم ونشوة الاستبداد حالا دون التعلم وأخذ العبرة من الدروس السابقة.

توريث بنكهة صهيونية مطلوب للتمكين والبقاء، لكنه لن يخفف من وطء مأزق مركب؛ سياسي، اجتماعي، اقتصادي، إنساني، أخلاقي، على كل لون. فهل من مخرج بعد أن طفح الكيل؟
«التوريث» الراهن يتكرر وإن كان بطرق مغايرة، ويتولاه أنجال «المشير» الثلاثة مباشرة؛ تحت الإشراف المؤقت لرئيس المخابرات العامة اللواء عباس كامل. وكشفت صحيفة «التايمز» البريطانية في تقريرها المننشور في عدد 14 نيسان/إبريل هذا العام (2019)، بعنوان «على خطى مبارك.. السيسي يوظف أبناءه بمناصب مرموقة». وألمح التقرير إلى مغزى تعيين «الأنجال» الثلاثة في مناصبهم التنفيذية والعسكرية العليا، وهو تيسير «التوريث»، وإبقاء «المشير» رئيسا لأطول فترة ممكنة، وهو الذي تمكن في فترة الرئاسة الأولى من إحكام قبضته على سلطات الدولة، وأمسك بمفاتيح الحكم المدني والأمني والعسكري والاستراتيجي، وقضى على كل المنافسين وعلى الاستقلال الحقيقي أو النسبي للأجهزة الرقابية والعليا والسلطة القضائية، وغير المواد الدستورية المانعة لعزل مسؤوليها، وأعطى لنفسه الحق في تعيين مجلس القضاء الأعلى وعزل رئيسه وأعضائه، وألغى ما جاء في دستور 2014 من مغاليق مُحكمة تمنع تعديل الدستور، وفَضَّ هذه المغاليق لتأبيد الحكم، وفتح باب الاستمرار المطلق في رئاسة الدولة،
وأشارت الصحيفة البريطانية إلى ما قيل عن دور النجل الأوسط محمود، الذي تمت ترقيته رتبتين من مقدم إلى عميد في زمن قياسي ليشغل منصب نائب رئيس المخابرات تمهيدا لرئاسة الجهاز، وتولى محمود الإشراف «على لجنة غير رسمية» مختصة بالتعديلات الدستورية المطلوبة.. وأضافت الصحيفة أن مصطفى؛ الابن الأكبر؛ مسؤول كبير بهيئة الرقابة الإدارية ارتقى لمكانته العالية في عهد السيسي الأب، وتم نقل النجل الثالث حسن من وظيفته في وزارة النفط، إلى جهاز المخابرات.


وكشفت مصادر مطلعة أن محمود السيسي اجتمع في حزيران/يونيو الماضي (2019) برؤساء تحرير صحف، ورؤساء قنوات، ومقدمي برامج بمقر جهاز المخابرات العامة، وفوجئ الحاضرون، الذين توقّعوا أن يكون اللواء عباس كامل على رأس الاجتماع، أو أحد وكلاء الجهاز القدامى، أو من قضوا فترات طويلة مشرفين على ملف الإعلام، وفوجئوا بالعميد محمود السيسي على رأس الاجتماع وبجواره المقدم أحمد شعبان.


ورغم الدور الذي أداه محمود وإخوته في إتمام التعديلات الدستورية، لفتت «التايمز» إلى إصرار الرئاسة والناطقين باسمها وباسم الحكومة والبرلمان «على أن التعديلات اقترحها النواب، ولم يشارك فيها السيسي ولا أنجاله»، من جهة أخرى أشارت الصحيفة إلى «أن التقارير القليلة عن ترقيات الأنجال الاستثنائية أثارت قلق الموالين للسيسي». واختتمت تقريرها بالقول، «إن السيسي تمتع بمساندة رئيسية في العالم الأرحب» حين زار البيت الأبيض في النصف الأول من إبريل هذا العام (2019)، وقدم له الرئيس ترامب دعما قويا!!


وفي التوقيت نفسه (النصف الأول من أبريل 2019)، صرح رئيس البرلمان المصري للصحف وأجهزة الإعلام بالقول: لا تأبيد ولا توريث للحكم مرة أخرى «هذا الأمر قد انتهى تاريخيا من مصر». ووصلت مبالغة علي عبد العال حد قول، «إن كانت هناك أي شبهة بعدم الدستورية، لم أكن لأشارك في الأمر إطلاقا». ويبدو أن السنوات العشرين التي عمل فيها في المملكة العربية السعودية، التي لم تعرف الدساتير أو القوانين؛ أنْسَته الدستور والقانون وقواعد العدالة النسبية والمطلقة، والفرق بين النص القانوني، والأمر الإداري، وبين الدستور والتعليمات الخاصة.


ويبدو أن أن «المشير» اطمأن لوصف رئيس الوزراء الصهيوني له بـ«صديق عزيز فاجأتني حكمته»، وإلى «العلاقة التي تربطه بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي»، واصفا إياه بالصديق العزيز. كما أكد الرئيس الصهيوني رؤوفين ريفلين أن السيسي عزز العلاقات مع الدولة الصهيونية». وجاء ذلك بمناسبة مشاركتهما في حفل سفارة مصر بتل أبيب في ذكرى ثورة 23 يوليو 1952.


ونقل حساب «إسرائيل بالعربية» على موقع تويتر عن نتنياهو قوله، إن «الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي صديقي العزيز، وفي لقاءاتي معه فوجئت بحكمته وذكائه وشجاعته»، ووصف نتنياهو الانطباع الذي أخذه في لقاءات سابقة مع السيسي عن زعامته وذكائه. بأنه كان انطباعا رائعا»، وأضاف -حسب نص كلمته التي أوردتها وكالة الأناضول- أن «هذا هو دور قادة مثل السادات وبيغن. اتخاذ قرارات شجاعة لتغيير التاريخ». وبين السادات وبيغن يا قلبي لا تحزن!!. وتوريث بنكهة صهيونية مطلوب للتمكين والبقاء، لكنه لن يخفف من وطء مأزق مركب؛ سياسي، اجتماعي، اقتصادي، إنساني، أخلاقي على كل لون، فهل من مخرج بعد أن طفح الكيل!

 

عن صحيفة القدس العربي اللندنية

0
التعليقات (0)

خبر عاجل