كتاب عربي 21

انتخابات 2019 في تونس: خطوة أخرى نحو الحسم

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600

قضى التونسيون خمس سنوات عجاف تحت حكومات عينها الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي الفائز بانتخابات 2014. قضى الباجي إلى رحمة الله ونستعد لانتخابات رئاسية وأخرى برلمانية لتجديد المؤسسات. كانت سنوات من الفشل والإحباط والتراجع الاقتصادي ورغم ذلك لم يسقط المسار الانتقالي ولم نفقد الأمل في أن الانتخابات منقذ من ضلال كثير. هناك قناعة واسعة عند عقلاء البلد أن أي مسار آخر هو بداية خراب لانهائي وأن الانتخابات يتضمن الحد الأدنى من الدولة على أمل.

هذا الأمل هو الذي يجعلنا نقيم السنوات العجاف ونرى أن السنوات المقبلة ستجهز على المنظومة الفاشلة وتضع التونسيين أمام لحظة مصيرية حاسمة.

المنظومة تسقط من داخلها

هناك حيرة في تحديد مكونات ما نسميه بمنظومة الحكم القديمة. ولكن الذين تجمعوا في حزب النداء في 2014 على اختلافاتهم الكثيرة هم المنظومة وحواشيها بأقدار. تحمل هذه المنظومة جرثوما قاتلا هو كفرها بالديمقراطية والتشارك في الحكم وفي أنظمة المنافع المحيطة بالحكم عامة. لذلك عصف بها هذا الجرثوم فدمرها وهو يجهز عليها الآن على أبواب انتخابات تجديد المؤسسات.

 

الغنيمة تجمع أفراد العصابات ولا تجمع الأحزاب السياسية، لأن الغنيمة ليست مشروعا سياسيا ولا فكريا


لم تتجمع هذه الفئات تحت حكم بورقيبة ولم توال نظام بن علي ولم تتجمع في النداء وتحاصر الثورة إلا من أجل مكاسب فردية وغنائم شخصية وهنا كان مقتلها. مفهومها للسلطة والاهتمام بالشأن العام هو مفهوم مرتبط بمدى تحصيل الفائدة الشخصية. لذلك تتخلى عن كل المبادئ الأخلاقية وبالقيم الجامعة وتقامر بالوطن وبالناس من أجل أن تفوز بغنيمتها. (لا نعتقد أن هذه خاصية تونسية بل هي عامة ولكننا نراها بوضوح كبير في ما حولنا). لهذا تجمعت ولهذا أيضا نراها تتفرق. 

الغنيمة تجمع أفراد العصابات ولا تجمع الأحزاب السياسية، لأن الغنيمة ليست مشروعا سياسيا ولا فكريا بل خروج للصيد، وقد قلت الطرائد لأن الديمقراطية في حدها الأدنى أوجدت صيادين آخرين سنذكرهم بذلك.

إن ما نراه من تفرق مكونات منظومة الحكم التي جمعها الباجي وتفرقت قبل نهايته هو مسار طبيعي لعصابات الحكم التي استولت على الدولة منذ شيخوخة بورقيبة وكرس ابن علي منهجها في الحكم الاستيلاء والقهر والإقصاء. وناورت أمام الثورة مرة أخيرة مستعملة الباجي ولكنها تعجز الآن عن لجم مكوناتها والعودة بنفس الزخم. لقد فضحتها الانتخابات وكشفت عورتها وعجزها وفهمنا ذلك الدرس المكرر على مسامعنا خطاب الوحدة الوطنية بدون انتخاب. ذلك الخطاب الكاذب كان غطاء لسرقة الوطن من أهله.

كل خطوة في اتجاه الصندوق تتحول إلى ضغط على اللصوص فيخسرون لذلك، فانتخابات 2019 ستؤدي بهم إلى المزيد من الخسائر السياسية التي تحرمهم من غنائم وكل حرمان يؤدي إلى الانهيار. وكل من فكر مثل المنظومة سيسير على طريقها لذلك وجب الحذر 

المتطهرون الثوريون
 
لنحذر هنا من التطهر السياسي الذي تمارسه معارضة المنظومة. فجرثوم المغنم أصاب معارضي المنظومة أيضا بل إن مكونات المعارضة تشترك بصفة كلية في نفس الأدواء لذلك نراها تفشل في ترسيخ مبادئ الثورة وفي التوحد حول سبل النجاح في التغيير العميق وتتقدم الآن إلى الانتخابات فرادى بما يؤهلها أيضا للخسارة وسنقول أن خسارتها نعمة على البلد وعلى التجربة مثل خسارات المنظومة.

في مشهد انتخابات 2019 نرى معارضي المنظومة عاجزين عن اللقاء السياسي والاتحاد أمام الصندوق لتوجيه ضربة أخيرة قاصمة للمنظومة. والتحوز على السلطة التشريعية بشكل كلي يقطع عليها كل أمل في العودة ويصفيها بالمؤسسة لا بحد السيف. لديهم أكثر من 10 متقدمين لمنصب الرئيس وليس فيهم من يمر إلى الدور الثاني فضلا على أن يفوز من الدور الأول. وهم واعون بعجزهم متفرقين وبقوتهم متحدين ولكن لأنهم غنائميون فإنهم لا يتنازلون لبعضهم البعض ولا ينسقون قوتهم وجهدهم فيثبتون أنهم يفكرون مثل مكونات المنظومة الساقطة، فهم منها إذن وإن أنكروا وتطهروا بالثورية على حساب غيرهم. الغير هنا الغنوشي وحزبه وممارسته الواقعية للسياسة.

الغنوشي سرع تفكيك المنظومة

هذا الكلام متروك بعهدة المؤرخين العادلين وليس موجها لصغار العابثين في المواقع الاجتماعية يزايدون بالثورية. لقد دفع الغنوشي المنظومة إلى حتفها بالقبل بل لقد عانقها حتى كسر قفصها الصدري. ولا أحد يعرف أثر هذا الحب ويقدر نتائجه مثل المنظومة.
 
كان درس الإقصاء قاسيا عليه وجماعته في عهد ابن علي لكنه خرج منه بدرس مفيد لا يمكن كسر المنظومة من خارجها ولا يمكن قبل ذلك الاعتماد على معارضيها الذين يقاسمونها الموقف منه. فاعتمد على نفسه (على جماعته) واتخذ ما وصفه الثوريون بأنه خيانة للثورة. (علما أن هؤلاء الثوريين لم يعتبروا الإسلاميين يوما جزءا من الثورة). 

في هذه الخيانة الموصوفة ثوريا أنقذ الغنوشي حزبه من استئصال ثان كانت بوادره تتجمع في انتخابات 2014. ثم منع المنظومة من الاستفراد بالحكم وبحزبه وشرع يتقدم في تفكيكها حتى وصل إلى جملته الشهيرة في حزيران (يونيو) 2018 "انتهى عصر تنازلات النهضة". كانت المنظومة حينها قد أسفرت عن أسوأ وجوهها الغنائمية. الرئيس يريد توريث ابنه رقاب التونسيين.

في سلسلة تنازلات الغنوشي للباجي والمنظومة (وخياناته الموصوفة للثورة) دفع إلى الحفاظ على المسار الانتقالي عبر الصندوق، ولذلك قاوم طويلا لفرض الانتخابات البلدية ومنع تأجيلها وأفلح في فرضها. وفتح له ثغرة مع غير الثوريين وغير منتسبي المنظومة الواضحين فأحدث فجوات اندماج بعد رفض. كما قاوم من أجل الموعد الانتخابي الحالي وكانت مناورات الإلغاء أو التأجيل تتراكم في الطريق. ومنها ورقة قرطاج 2 التي أسقطها بحزم وأسقط معها كل حظوظ النقابة التي اشتغلت نبوت خفير في يد المنظومة.

رغم كتلته النيابية الوازنة التي لولاها لسقطت كل الحكومات ورغم قبوله بمشاركة مهينة في حكومات متتابعة إلا أنه تحمل كلفة ذلك مقابل الانتخابات الحالية. وهنا نرى المنظومة مفككة بينما حزبه أقوى حزب في المشهد. ومعارضوه مرابطون في الخطاب الثوري الذي لم يرتق بهم إلى جبهة انتخابية ضد المنظومة وضد الغنوشي. فيثبتون خيانته وثوريتهم وصواب اختياراتهم. في المقابل لن يعترفوا له بأنه ضمن لهم بخياناته للثورة المسار الانتخابي الذي يجعلهم يندفعون الآن إلى الصناديق اندفاع الفراش إلى النار.

سيقرأ هذا كتقريض للغنوشي لذلك أتركه بعهدة المؤرخين فقد حصلت لي فائدة من طريقة عمل الغنوشي في سنوات الثورة أن لا أصدق الثوريين التونسيين فقد كانوا في مجملهم من وقود اعتصام الرحيل وسأجد لهم اسما لائقا. قبل ذلك سأختم بمشهد أخير كان علامة على طريق التقدم.

 

بعض الثورية قتل بالتقسيط وإن ظل البعض يصفها بالخيانة.


في لقاء تلفزيوني نظمته قناة فرنسا 24 في 2011 (شهر آذار / مارس) بين الغنوشي ونجيب الشابي الذي كان قد قفز إلى حكومة محمد الغنوشي الثانية وبدأ يتكلم باسم السلطة. قال للغنوشي في جدل اللقاء وبلهجة آمرة نحن الحكومة وأنت في المعارضة ويجب أن تعرف مقامك. ابتسم الغنوشي ابتسامته الصفراء الكريهة وقال: سنرى.

بعد ثمان سنوات عجز السيد نجيب عن تجميع التزكيات الشعبية للترشح بينما يكتسح الغنوشي الصناديق. بعض الثورية قتل بالتقسيط وإن ظل البعض يصفها بالخيانة.

السؤال الوحيد الجدير بالرد بعد هذا، هل ستتحول "النهضة" وزعميها إلى حزب غنائمي آخر؟ هنا فقط سنعرف طبيعة الحزب ورجالاته (وجماعات الإسلام السياسي عامة وملائكيتها المدعاة).
 
قانون التاريخ واحد، الغنائمية أسقطت منظومة بورقيبة ابن علي ولن يختلف مصير حزب "النهضة" إذا تحول إلى فرق من الصيادين المتوحشين. وهناك مؤشرات كثيرة على تسلل الصيادين إلى الصفوف الأولى، نراهم الآن رأي العين.

التعليقات (3)
Shanfara
الجمعة، 16-08-2019 08:57 ص
قريبا يعزمك فريق صيادي الحركة على حفل شواء،،،
محمد جميل بن خليفة
الخميس، 15-08-2019 06:11 ص
تعلمنا في حلقات بي محمد و سبحان الله و الزرارعية و غيرها بان الله مراقبك في كل احوالك و كنا في وضع لا نحسد عليه و لا يخفى على احد و بقيت الحركة متماسكة متحدة فلما من الله علينا بما نحن فيه نتنكر و نخون او ندخل معنا من يخون فامانة الحزب مسؤولة عن المراقبة و المراقبة الشديدة لكل عناصرها و ءزهم على الانضباط ءزا مع استقطاب شباب يملء بمبادىء الحركة مليا ليتولى اجيال حركتنا المجيدة
Adem
الثلاثاء، 13-08-2019 05:14 م
شكرا على المقال أوافقك الرأي فيما يخص مستقبل تونس النهضة في موقف عصيب ولكن من المروءة و الرجولة و الأمانة و المسؤولية أن تواجهه متوكلة على الله ثم على المخلصين من التوانسة و حنكة و إخلاص من تقدمهم للمسؤولية والذين يجب أن تكون تونس الدولة و الشعب و فقط بوصلتهم . ختاما حتى لا يتحول مسؤولوا النهضة إلى وحوش و صيادي غنايم على قيادة النهضة تعيين أشخاص معارضين مخلصين في المناصب الرقابية خاصة المالية و المشارعية ضمانا للشفافية خدمة لتونس و الجماعة .