كتاب عربي 21

هبة.. الطفلة التي لم تسعفها السيقان البلجيكية العارية

طارق أوشن
1300x600
1300x600

في الوقت الذي كانت فيه قلوب عائلة الطفلة هبة تعتصر ألما لفقدانها في مشهد مروع وثّقته الكاميرات، لم تجد الدولة غير محاولة تحويل الأنظار إلى المجال الذي تظن نفسها بارعة فيه وهو الردع الأمني. كما لم يجد بعض من الساسة غير المتاجرة بالدين والخطاب الهوياتي باعتباره المجال الأخصب للمزايدات والشعارات الحنجورية التي لا توفر عملا ولا تحقق أمنا ولا استقرارا.

لعبة مسلّية

الفضاء السياسي المغربي مجرد مهرجان فلكلوري خطابي وجعجعة لا طحين يرجى من ورائها. لكنه بالنسبة لمدعي السياسة، أو محدَثيها، مجال خصب لمحاولات إثبات الوجود، ولو وصل الأمر حد السباب والتنابز بالألقاب، وهي لعبة "مسلية" يحبها جمهور المصوتين المحتملين، ويعشقها العامة عشق تصفح فضائح المجتمع ومشاهدة السيقان العارية أو الأجساد الصغيرة تلتهمها النيران. أما مفاهيم النمو العادل أو التنمية المجالية، فالدولة مشغولة عن تحقيقها بالبحث عن نموذج تنموي جديد، وشكلت لأجل ذلك لجنة أعلن عنها ملك البلاد في خطاب العرش الأخير، الذي عدّد كثيرا من الأعطاب التي حالت دون استفادة فئة كبيرة من المغاربة من ثمرات المشاريع الكبرى للعشرين سنة الأخيرة من حكم البلاد.

هبة، طفلة مغربية في سنتها الرابعة، تحول مشهد استسلامها للنيران الملتهبة وهي معلقة بشباك البيت الأسري المسيج بالحديد، تحت نظرات من حضر المشهد من مواطني مدينة سيدي علال البحراوي، غير بعيد عن العاصمة الرباط، قبل انتشار مقاطع فيديو لم يتورع أصحابها من نشرها للعموم عن وعي أو دونه. مأساوية الوفاة وفداحة المشهد عرت عن الأعطاب الحقيقية لمغرب بدا مرة أخرى مقسما إلى مغربين يسيران بسرعتين مختلفتين، كرّستا لبنية تحتية عصرية ومستوى عيش متنام، لم يواكبه توزيع عادل للثروات أو ارتفاع في الوعي الشعبي بالحقوق والواجبات، وفي تبني المصالح الإدارية لمفهوم الخدمة العمومية التي تشكل أساس وجود القطاع العام. الأكيد أن المشهد أظهر عن إخفاق الدولة والمجتمع على عدة مستويات.

مسؤولية الدولة

مسؤولية الدولة، التي سارعت إلى تقديم رواية حملت بموجبها شاحنا كهربائيا رديئا للهواتف المحمولة  مسؤولية المأساة، واضحة لا لبس فيها. فالتحجج بوجود سياج حديدي محيط بشبابيك البيت، مسرح الحدث، لا ينفي المسؤولية عنها بل يؤكدها. فشل المنظومة الأمنية الرادعة التي تحقق الأمن للمواطن لا مجال لنكرانه، والدليل تحول المدن المغربية وقراها إلى مجرد بيوت مسيجة بالحديد في الأبواب والشبابيك تكريسا لإحساس عام بهشاشة الأمن والطمأنينة وسيادة الخوف على سلامة الممتلكات من السرقة أو النهب أو التخريب. كما أن ضعف تأهيل قطاع الدفاع المدني، باعتباره قطاعا خدماتيا، وتمكينه من الإمكانيات الكفيلة بمواجهة مثلى للطوارئ والحوادث، إسوة بقطاعات أخرى أمنية وعسكرية، تحيل على خلل مزمن في ترتيب الأولويات. 

 

الفضاء السياسي المغربي مجرد مهرجان فلكلوري خطابي وجعجعة لا طحين يرجى من ورائها.


أما إغراق الأسواق المغربية بمواد وآليات رخيصة لا تحترم  مواصفات السلامة والسماح بتداولها على نطاق واسع، باعتبارها ملاذ ذوي الدخل المحدود، فـ "جريمة" تؤكد على استهانة مع سبق الإصرار والترصد بسلامة وصحة وأرواح المواطنين، وهي دليل إدانة لقطاعات مختلفة من الإدارة المغربية التي نخرها الفساد واستوطن في كل ركن من أركانها. الطفلة هبة لم تكن الضحية الأولى ولن تكون الأخيرة لشواحن هاتف رديئة الصنع أو سخانات ماء أطلق عليها المغاربة اسم "القاتل الصامت"، خطفت أرواحا وأحرقت بيوتا ومعها قلوب ساكنيها.

 

عندما تموت السياسة وينشغل الساسة بالتفاهات وبتأمين المناصب والامتيازات، تفقد الدولة صمام الأمان وحاجز الصد في مواجهة الأخطار والتحديات.


الجريمة مستمرة في الزمان والمكان وما الاختلاف إلا في المسارح وأسماء الضحايا. تناسلت الإدانات من كل صوب وأعلنت وزارة الداخلية عن فتح تحقيق. سينتهي الموضوع ويفقد "بريقه" الإعلامي وسيبقى الوضع على حاله، لا محالة، في انتظار مأساة جديدة يتسابق محترفو الجدل العقيم إلى استغلالها، والدكاكين السياسية "المنبوذة" لإصدار البيانات حولها. وفي ظل الفشل البيّن في تقديم الحلول واستباق الأزمات ستتواصل بالتوازي معركة الهوية والانتماء وإصدار الفتاوي والأحكام دون وعي بخطورة القول والفعل على حد سواء.

في منطقة أبعد عن العاصمة الرباط، حيث قدمت الدولة استقالتها الفعلية في تأمين حاجيات المواطنين، تطوعت شابات بلجيكيات، قدِمن إلى إحدى القرى النائية بمدينة تارودانت في الجنوب المغربي، للمشاركة في تعبيد طريق وترميم مدرسة وغيرها من الأعمال التطوعية التي دأبت الجمعيات الأهلية بالإقليم على تنفيذها بالشراكة مع جمعيات دولية تنشط في المجال فكّاً للعزلة عن قرى ومداشر المنطقة وربطها بعضا ببعض. 

ليس في الموضوع ما يثير الاهتمام غير التأكيد على تقاعس الدولة عن تأمين حاجيات مواطنيها في المناطق البعيدة عن المركز، وهي حقيقة ومعيش يومي للساكنة لا يحتاج إلى إثبات. لكن صورة انتشرت للشابات البلجيكيات وهن يبلطن الطريق "استفزت" برلمانيا مغربيا اعتبر أن الملابس "غير المحتشمة" للمتطوعات  أمر جلل يثير الأسئلة عن أهدافهن الفعلية من العمل التطوعي،  فتساءل مستنكرا "متى كان الأوروبيون ينجزون الأوراش بلباس البحر؟". 

مزايدة في الجهل

ولأن المزايدة في الجهل رياضة وطنية بامتياز، رفع مدرس شاب، لم يتجاوز الستة والعشرين ربيعا، السقف بالدعوة إلى "قطع رؤوس الأجنبيات ليصبحن عبرة لكل من سولت له نفسه التطاول على مبادئ ديننا الحنيف". اعتقل المدرس الشاب بالنظر إلى أن مضمون تدوينته "يتضمن جرائم مرتبطة بقضايا الإرهاب والتطرف" حسب بيان للمديرية العامة للأمن الوطني. أما البرلماني فلا يزال حرا طليقا يبرر ما خطته يداه بالخوف على المتطوعات من تأثير الإسمنت على جلودهن حساسية أو حروقا. تطورت القصة واستلمها الإعلام البلجيكي مناسبة للتذكير بجريمة قتل سائحتين أجنبيتين قبل أشهر قليلة بمنطقة شمهروش الجبلية، دليلا على "الخطر الذي يمثله المغرب على السائحات الأجنبيات"، ولا تزال التداعيات متواصلة بما لها من تأثير سلبي على صورة البلاد.

 

النقمة المجتمعية في مواجهة مؤسسات الدولة والاستعداد الفطري للتشكيك في نزاهتها أو تخريبها أو مواجهة منتسبيها خطر داهم يهدد المكتسبات


مهمة البرلماني الذي أطلق الشرارة الأولى كانت في الأصل الدفاع عن حقوق المواطنين في العيش الكريم، وفي بنية تحتية ملائمة تقيه "شر استجداء" متطوعين أو متطوعات، بسيقان عارية أو جلابيب، يفضحن استقالة الدولة وطبقتها السياسية عن بناء جسر الثقة مع مواطنيها أينما وجدوا. المشاريع الكبرى غيرت صورة المغرب بكل تأكيد. لكن فك العزلة ليس مجرد شق طريق أو بناء سد مائي أو تشييد ميناء أو مطار أو مستوصف أو ملعب كرة للشباب. فك العزلة يبدأ بإعادة بلورة أسس علاقة الدولة بالمواطن واستعادة الثقة في مؤسساتها.

النقمة المجتمعية في مواجهة مؤسسات الدولة والاستعداد الفطري للتشكيك في نزاهتها أو تخريبها أو مواجهة منتسبيها خطر داهم يهدد المكتسبات ويحول دون تحقيق الطموحات. أما الردع الاستباقي أو القبضة الأمنية في مواجهة الاحتجاجات فمكلف سياسيا ومرهق على المستوى العملي، ونتائجه مجرد مسكنات ظرفية في زمانها ومحدودة في مكانها، لا ترقى لمستوى ضمان السلم الاجتماعي ولا تحقيق الرفاه المجتمعي.

بالأمس مات محسن فكري وأطلق شرارة حراك في الشمال لا تزال تداعياته مستمرة جرحا مفتوحا يكرس لماض مليء بسوء الفهم والنكسات. اليوم ماتت الطفلة هبة في وقت تغلي فيه ميادين حيوية في القطاعين العام والخاص ومدن ومناطق كثيرة بالاحتجاجات. وفي الوقت الذي تقوم فيه الدولة ببحثها عن نموذج تنموي جديد، ينشغل سياسيوها، المجربون والمحدثون، بمتابعة السيقان العارية والبحث في دواخل الضمائر والنيات.

عندما تموت السياسة وينشغل الساسة بالتفاهات وبتأمين المناصب والامتيازات، تفقد الدولة صمام الأمان وحاجز الصد في مواجهة الأخطار والتحديات.

التعليقات (0)