قضايا وآراء

الجنرال ماكبث

وليد البحتري
1300x600
1300x600
اعتبر الكثيرون منا حديث الجنرال عن رؤياه (أضغاث أحلامه) بتولي السلطة مادة للتندر والسخرية، إلا أنني كنت أرى فيها ناقوس خطر كبير ينذر بكارثة؛ فنحن أمام شخص لا يتورع عن هدم المعبد، وإحراق السفن، وسفك الدماء في سبيل كابوس مزعج جثم على صدورنا. ولسنا هنا بصدد تفنيد تلك الدعاوى، فمما لا شك فيه أننا جميعا حلمنا أحلاما مشابهة أو رؤيت لنا.
 
مذ سمعته يقصص رؤياه على إعلامه، استدعت ذاكرتي الانتقائية شخصية الجنرال ماكبث التي أبدع شكسبير في رسم ملامحها بكل تعقيداتها السياسية والنفسية أيما إبداع؛ بحيث أضحت شخوص تلك المسرحية ماثلة أمامنا، متجسدة في واقعنا. فرغم مرور أكثر من خمسة قرون على عرضها الأول، ما تزال مسرحية ماكبث جديدة متجددة.
 
صدقوني.. إن أوجه الشبه بين الجنرالين أكثر من أن تحصى. فللتو عاد الجنرال ماكبث منتصرا في حربه ضد المعارضة ممثلة في ملك النرويج؛ حين التقى ماكبث الساحرات الثلاث اللواتي بشرنه بالترقية التي لم يكن يحلم بها "وزير الدفاع وقائد الجيوش المظفر"، ثم أعجلنه بكبرى البشارات: "ستصبح ملكا يوما ما". وفي غمرة دهشته كانت النبوءة الثالثة قاصمة الظهر؛ أن أولاده لن يكونوا ملوكا من بعده"، بمعنى عجزه عن توريث الحكم لأبنائه، في حين سيكون صديقه المقرب "بانكو" أبا لسلسلة من ثمانية ملوك سيحكمون عرش أسكتلندا المحروسة. وصدقت النبوءة الأولى؛ فما كادت تختفي الساحرات حتى جاءته البشرى بالإطاحة بوزير الدفاع، وقرار الملك "دنكن" تقليد الجنرال ماكبث المنصب الجديد، وبأن الملك سينزل بنفسه ضيفا في قصر ماكبث، فطمع الجنرال في النبوءة الثانية.
 
هنا يأتي دور قرينة الجنرال التي شجعت زوجها الذي بقيت في نفسه مسحة من أخلاق ترفض الغدر بالرئيس في قصرهم، خاصة وقد شهد الجنرال ماكبث نفسه أن الرئيس "طيب ودود عادل، قد أحسن كثيرا إليه"، إلا أن النبوءة المرجوة، وطموح قرينته أن تصير الملكة، أو سيدة أسكتلندا الأولى، دفعت الجنرال إلى طعن الرئيس في محبسه (أقصد غرفة نومه) بخنجر الغدر أو بسيف الإهمال الطبي. هنا يوظف شكسبير "النوم" توظيفا غاية في البراعة؛ حيث إن قتل الملك غدرا وهو نائم يعد جريمة ضد النوم، وما النوم إلا راحة للجسد المتعب والعقل المعذب.. "توقفوا عن النوم. لقد قتل ماكبث النوم"، حيث حُرم الجنرال النوم؛ لتظل سياط الألم تجلد روحه الظمأى، وتقض مضجعه بالكوابيس والأشباح، ورائحة الدماء ولونها. فغدا شخصا آخر؛ شخصا عليه أن يستمر بالقتل حتى نهايته التي ستكون خلاصا لكل آلامه.
 
وكانت النبوءة الثانية؛ فقد خلع الجنرال زيه العسكري، وجلس بحد السيف والبندقية على عرش المحروسة، شاقا طريقه بين الجثث والأشباح وكوابيسه المزعجة. وهكذا أصبح وجها لوجه أمام النبوءة الثالثة التي تعني هلاكه، وتولي أبناء صديقه المقرب وحليفه "بانكو" عرش أسكتلندا.
 
فاستل خنجر الغدر المخضب بدماء الرئيس الطيب ليتخلص من كل منافسيه وفي مقدمتهم رفيق السلاح "بانكو"، فأقاله من منصبه في الحياة، وأحاله إلى التقاعد الأبدي، ففر ابنا الرئيس وأبناء بانكو وكل من استطاع النجاة بنفسه إلى ملك إنجلترا.
 
أخرس الجنرال الناس، وكمم الصحافة، وأطلق أبواق إعلامه تردد على مسامع المغيبين أن أبناء الملك قد قتلوه وفروا بعار الخيانة إلى إنجلترا. ولما أوصد الجنرال باب المعارضة الداخلية، لجأت المعارضة إلى المنفى الاختياري؛ المعارضة من الخارج؛ فتناسوا خلافاتهم، ووحدوا صفوفهم، واتفقوا على خارطة طريق لمرحلة ما بعد الجنرال، واستقروا على بديل ثوري شرعي يحظى بتوافق الجميع. 
 
ولما كان الجنرال قد وصل إلى كرسي الحكم بالغدر؛ فكان أخشى ما يخشاه هو "السلم" ذاته الذي تقلده؛ فاستحدث الجنرال إجراءات لم يسمع الناس في المحروسة بها من قبل؛ فتارة يخاطب الجمهور بشجاعة وقد جعلهم وراء ظهره، شاخصا إلى الفراغ أمامه؛ خشية الغدر، وتارة يشحذ هممهم من وراء حجاب، ولا أدري هل ظهر الزجاج المضاد للرصاص في تلك الأيام البعيدة، أم إن الأمر قد اختلط عليّ فلم أعد أفرق بين الجنرالين؟!
 
أيما يكن.. فقد أمعن الجنرال في القتل وسفك الدماء حتى كره الناس حياتهم ومعاشهم، واشتط فقتل النساء والأطفال والعجزة؛ انتقاما من كل من لحق بالمعارضة في الخارج، فخسر آخر ما بقي له عند الناس، حتى إن جنوده أنفسهم أمسوا عيونا عليه، وتطلعت الناس إلى المعارضة المتحدة بكل كوادرها، ورأوا فيها الخلاص من بحر الدماء الذي أغرقهم فيه الجنرال.
 
في هذه الأثناء أصيبت سيدة أسكتلندا الأولى، قرينة الجنرال، بالجنون جراء عجزها عن النوم، وباتت تشم رائحة الدماء في يديها وثيابها، وعجزت كل العطور العربية وأموال خليجه عن تطهير هاتين اليدين الملطختين بالدماء، واستيأس الطبيب من علاجها، فوضعت حدا لعذابها بذات اليدين، لتذوق من الكأس التي أذاقتها للرئيس الطيب الذي يشبه والدها على حد قولها. ولم يدرك الخدم أن عدم إبداء الجنرال حزنا عليها مرده من وجهة نظره أنها قد ماتت منذ زمن بعيد؛ منذ جرته إلى الجريمة النكراء، ملحقة به عار الخيانة إلى الأبد ليصير مضربا للغدر والخسة. 
 
وبذلك جاء الفتح مع المعارضة الحانقة، ولم يجد الجنرال حليفا إلى جانبه؛ فقد برع (طال عمره) بسياسته الطائشة، وقراراته غير المدروسة في التخلص من كل صديق محتمل، واستبشرت المعارضة بالفتح قائلين، "إن جنوده يتبعونه لأن هذا واجبهم، لا لأنهم يحبونه"، وحين التقى الجمعان نكص كثير من جنود الجنرال بيعة الدم التي في رقابهم، وانضموا إلى المعارضة؛ فلم يجد ماكبث بدا من القتال وحده قائلا: "سأموت على الأقل محاربا". وهكذا، سطر لنا الأدب قصة طاغية تتكرر فصولها دوما على مسرح التاريخ. 
 
أيها الجنرال:

كانت النبوءة الأولى والثانية لك، أما الثالثة فهي إلى صفنا بلا شك، وإنك لتعلم كيف ستكون نهايتك.. أبشر: ستكون كما رأيتها. أنت تكابر، وتظن أن بإمكانك التغلب على حتمية التاريخ.. هيهات؛ فقد مضى ذاك الزمن.. فكن شجاعا ومت على الأقل محاربا.
التعليقات (0)