كتاب عربي 21

ما بعد العلمانية.. العودة إلى الدين (1)

محسن محمد صالح
1300x600
1300x600

مقدمة:

يبدو أن الاتجاه العالمي لمسار التطورات الاجتماعية السياسية، يسير نحو تأكيد عودة دور الدين المتصاعد في الحياة العامة بكافة تجلياتها. لقد وصلت العلمانية عالمياً إلى ذروة غير مسبوقة في ستينيات القرن العشرين؛ غير أن الاتجاه نحو التدين أخذ يسير بدرجات متفاوتة في الكثير من مناطق العالم. وهو تديّن لم ينحصر في "الصحوة الإسلامية" التي شملت مناطق واسعة من العالم الإسلامي منذ سبعينيات القرن الماضي، ولكنه اتسع ليعبر عن نفسه بأشكال مختلفة في أوساط المسيحيين وأتباع الديانات المختلفة. وفي السنوات الفعلية الماضية، أخذ هذا الاتجاه يتزايد اجتماعياً وسياسياً في أوروبا والولايات المتحدة وغيرها.

الطريق إلى "ما بعد العلمانية":

يرصد تقرير المستقبل الصادر حديثاً عن مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، في عدده رقم 29 ظاهرة "ما بعد العلمانية" (Post Secularism) والعودة للدين، من خلال مسح الظاهرة بشكل عالمي؛ ويقدم عدداً من النماذج في هذا الاتجاه.

 

الاتجاه نحو التدين أخذ يسير بدرجات متفاوتة في الكثير من مناطق العالم. وهو تديّن لم ينحصر في "الصحوة الإسلامية" التي شملت مناطق واسعة من العالم الإسلامي منذ سبعينيات القرن الماضي، ولكنه اتسع ليعبر عن نفسه بأشكال مختلفة في أوساط المسيحيين وأتباع الديانات المختلفة

ويبيِّن التقرير أن عصر التنوير أو الحداثة تأسيس على الثورة ضدّ الكنيسة في أوروبا، وضدّ تحكّمها في مناحي الحياة الفكرية والسياسية والاقتصادية والقانونية؛ وظهرت في تلك الفترة مقولة "موت الإله" (Death of God)، تعالى الله عما يقولون.. وهو الاتجاه الذي تطور على يد الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (Nietzche، 1844- 1900) الذي ركز على مركزية عقل الإنسان في حركة التاريخ، وعلى القضاء على القيود التي فرضتها الكنيسة على حرية التفكير، وتأسيس مفهوم العلمانية على فكرة فصل الدين عن الحياة العامة.

وأصبح مفهوم العلمانية، خصوصاً في العالم الغربي، ملازماً لمفهوم التحديث، أما الدين فبات عندهم ملازماً لمفهوم التقليدية والرجعية. وكان متوقعاً وفقاً لدعاة العلمانية أن المجتمع الحديث سيلبي كافة احتياجات الفرد المادية والمعنوية، دون الحاجة للجوء للدين، وأن التعليم والمعرفة ستوفر الإجابات المنطقية عن كل شيء. والعلمانية، خصوصاً في العالم الغربي، لم تستعدِ الدين أو تهاجمه مباشرة؛ غير أنها توقعت أو افترضت انحسار الدين واختفاءه مع الزمن، غير أن توقعاتها باءت بالفشل. وحتى البلدان التي فرضت علمانية قسربة، وحاربت الدين بشكل مكشوف، كان نصيبها الفشل.

الفكر الشيوعي الذي تمكن من الوصول للحكم في عدد من البلدان كالاتحاد السوفييتي والصين لم يسع فقط لتحجيم الدين، وإنما رفض الدين ذاته، باعتباره معوقاً أمام الطبقة العاملة للانتفاض والمطالبة بحقوقها، وبالتالي أخذت مقولة "الدين أفيون الشعوب" ركناً مهماً في الفكر الشيوعي، فتم إغلاق المؤسسات الدينية، ومحاربة رموزها، ومطاردة مظاهر التدين. غير أن الشيوعية سقطت، وبقي الدين.

 

أخذت مقولة "الدين أفيون الشعوب" ركناً مهماً في الفكر الشيوعي، فتم إغلاق المؤسسات الدينية، ومحاربة رموزها، ومطاردة مظاهر التدين. غير أن الشيوعية سقطت، وبقي الدين

من جهة أخرى، فإن ارتباك ما بعد الحداثة، إثر الدمار الهائل الذي أصاب البشرية نتيجة الحربين العالميتين الأولى والثانية، على يد "الإنسان العلماني" والأنظمة "العلمانية" الحديثة، دفع باتجاه "الفكر العدمي" الذي طوره وتبناه الفيلسوف الفرنسي "ميشيل فوكو" (Foucault) الذي قصد به "موت المنطق"، وتمحور حول فكرة "موت الإنسان" (Death of Man)، بما يعني سقوط الإيمان بقدرة الفرد على اتخاذ قرارات عاقلة ومنطقية لتطوير الحياة الإنسانية.

ومع العودة المعاصرة للدين وتصاعد دوره، حاول الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (Hebermas) بلورة ذلك، في ضوء حركة التاريخ، من خلال "مجتمعات ما بعد العلمانية" (Post Secular Societies)؛ حيث أكد أنه لا يمكن وقف تيار عودة الدين للحياة العامة، وأنه لا بدّ من الاعتراف بمنزلة جديدة للدين؛ يتطور فيها المجتمع العلماني إلى ظاهرة مركبة من الطرفين العلماني والديني، وبذلك تكون "ما بعد العلمانية" مساراً تكاملياً بين الطرفين؛ وأن من مصلحة الدولة الدستورية مراعاة كل المصادر القيمية واحترام القناعات الدينية، وأن المجتمع "ما بعد العلماني" يضع ضوابط لتفاعل الدين مثل التسامح واحترام التعددية في إطار "علماني" حسب رأيه.

 

من مصلحة الدولة الدستورية مراعاة كل المصادر القيمية واحترام القناعات الدينية، وأن المجتمع "ما بعد العلماني" يضع ضوابط لتفاعل الدين مثل التسامح واحترام التعددية في إطار "علماني"

من مظاهر عودة الدين للحياة العامة:

تتعدد مظاهر عودة الدين لأخذ مساحات أوسع في الحياة الاجتماعية والسياسية. ومن أبرز ما ذكره تقرير المستقبل، أومما يمكن أن نضيفه:

1- أنه إثر انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الشيوعية، مع مطلع العقد الأخير من القرن العشرين، اعتمدت روسيا على "الدين" في بناء هوية جديدة تجمع ما يسمى "العالم الروسي" تحت مظلة واحدة، هي الانتماء الأرثوذكسي المسيحي، والتاريخ الأرثوذكسي المشترك؛ بحيث تتمكن روسيا من تجاوز حدودها الجغرافية إلى بلدان مجاورة مثل أوكرانيا وجورجيا. وأصبحت "الشرعية الدينية" ومركز الكنيسة الأرثوذكسية في موسكو أحد أبعاد الصراع على النفوذ التي اهتم بها الرئيس بوتين. وحتى عندما ضمّت موسكو شبه جزيرة القرم (Crimea) استخدم بوتين ادعاءات باعتبار أنها منشأ الشعب الروسي، وأنها المكان الذي جرى فيه "تعميد" الأمير فلاديمير في القرن العاشر الميلادي، والذي قام بدوره بتوحيد القبائل والأراضي السلافية حول المسيحية، وتأسيس روسيا. ولذلك، فإن قرار انفصال الكنيسة الأوكرانية الأرثوذكسية في كانون الأول/ ديسمبر 2018 عن بطريركية موسكو كان قراراً تاريخياً بعد قرابة 300 عام من الارتباط، حيث أخذ بُعده السياسي إثر النزاع بين موسكو والقيادة السياسية في أوكرانيا.

2- في أوروبا تصاعد الشعور بالانتماء الديني، وظهرت أغلبية تعرف نفسها كمسيحيين، وإن كان معظمها يعترف بأنه ليس "ملتزماً" بالدين. ففي بريطانيا، يُعرِّف نحو 73 في المئة أنفسهم كمسيحيين، من بينهم 18 في المئة يعرفون أنفسهم كملتزمين، بينما ترتفع النسبة في إيطاليا إلى نحو 80 في المئة، نصفهم (أي 40 في المئة) يُعرف نفسه كملتزمين، والنصف الثاني كغير ملتزمين. 

 

في أوروبا تصاعد الشعور بالانتماء الديني، وظهرت أغلبية تعرف نفسها كمسيحيين، وإن كان معظمها يعترف بأنه ليس "ملتزماً" بالدين

وفي وسط وشرق أوروبا، يميل الناس أكثر للتدين مقارنة بغرب أوروبا. ففي روسيا، ارتفعت نسبة من يُعرّفون أنفسهم كمسيحيين أرثوذكس؛ من 37 في المئة سنة 1991، إلى 71 في المئة سنة 2017. وفي أوكرانيا، ارتفعت النسبة من 39 في المئة سنة 1991، إلى 78 في المئة سنة 2017. وفي بلغاريا، ارتفعت النسبة نفسها من 59 في المئة سنة 1991، إلى 75 في المئة سنة 2017.

في المقابل، فإنه ما زال في بلدان أوروبا أغلبية (نحو الثلثين) تتراوح بين النصف إلى 75 في المئة؛ مع الفصل بين "الدين" و"السياسة" (ما عدا أرمينيا36  في المئة وجورجيا 44 في المئة)؛ أي أن الميول الدينية ما زالت محكومة إلى حد ما بالإطار العلماني.

3- المخاوف التي جرى تضخيمها وتوظيفها سياسياً في أوروبا؛ نتيجة التراجع السكاني للأوروبيين المسيحيين وتزايد النمو السكاني للمسلمين، نتيجة الزيادة الطبيعية أو تصاعد موجات الهجرة، انعكست على البيئة السياسية والاجتماعية الأوروبية، في إطار البحث عن الهوية المسيحية. ففي الفترة بين 2010 و2015، زاد عدد وفيات الأوروبيين المسيحيين عن عدد المواليد بنحو ستة ملايين. وكانت خسارة ألمانيا وحدها نحو مليون و400 ألف شخص في الفترة نفسها. أما أعداد المسلمين، فزادت في أوروبا في الفترة ذاتها بنحو مليونين. وقُدّر عدد الذين تقدّموا بطلبات هجرة إلى دول أوروبا في الفترة نفسها بنحو ثلاثة ملايين طلب، معظمهم مسلمون.

ولذلك، تزايدت مظاهر العداء ضد قدوم المسلمين واستيطانهم، وصعدت جماعات اليمين المتطرف والأحزاب الشعبوية التي أخذت تطالب بوقف "غزو المسلمين" لأوروبا، ووجدت في الهوية المسيحية ضالتها الدينية الثقافية والتاريخية. ومن أمثلة الأحزاب التي نحت منحى شعبوياً يمينياً، حزب "البديل من أجل ألمانيا"، وحزب "ديمقراطية السويد"، وحزب الحرية النمساوي، وحزب "رابطة الشمال" الإيطالي، و"الجبهة الوطنية" في فرنسا.

وانتقل الخطاب "المسيحي" إلى الأحزاب الرئيسية الفاعلة في الحكم في غرب أوروبا، ليأخذ الدين حيزاً أوسع باعتباره مكوناً رئيسياً للهوية الأوروبية، ولتستجيب الأحزاب بالتالي لهواجس المسيحيين من ذوي البشرة البيضاء، مع ملاحظة أن الأحزاب المسيحية في شرق أوروبا كانت منذ لحظة ظهورها في تسعينيات القرن العشرين؛ تدمج بين البعدين القومي والمسيحي في هويتها وخطابها وممارستها.

 

انتقل الخطاب "المسيحي" إلى الأحزاب الرئيسية الفاعلة في الحكم في غرب أوروبا، ليأخذ الدين حيزاً أوسع باعتباره مكوناً رئيسياً للهوية الأوروبية، ولتستجيب الأحزاب بالتالي لهواجس المسيحيين من ذوي البشرة البيضاء

4- على سبيل المثال، في المجر (هنغاريا) نجح رئيس الوزراء فيكتور أوربان في الفوز في انتخابات 2018، في ضوء خطابه وبرنامجه المناهض للهجرة والمسلمين، وقدم نفسه كمدافع عن المجر وأوروبا في مواجهة المسلمين الذين يهددون بـ"أسلمة" أوروبا؛ مؤكداً على ضرورة الحفاظ على القِيم المسيحية. وفي ألمانيا، أصدرت ولاية بافاريا قراراً رسمياً عرف بـ"مرسوم الصليب" يلزم بتعليق الصليب في كل مؤسسات الولاية، والذي بدأ تنفيذه في حزيران/ يونيو 2018.

5- اتساع التحول نحو الدين ظاهرة معروفة أيضاً في الولايات المتحدة، وقد برزت أكثر منذ ثمانينيات القرن العشرين، مع انتخاب رونالد ريجان، وصعود التيارات الدينية، وتيارات اليمين المحافظ ثم المحافظين الجدد، ووجدت تعبيراتها في مسلكيات وسياسات رؤساء كجورج بوش الابن، وفي السياسات الداعمة للمشروع الصهيوني في فلسطين بخلفيات دينية وثقافية، بالإضافة للخلفيات السياسية والمصالح الاستراتيجية، كما في مواقف القيادات الأمريكية، وعلى رأسها ترامب وفريقه في الوقت الراهن.

6- في الصين التي ما زال الحزب الشيوعي يحكمها، هناك اعتراف رسمي بالبوذية والطاوية والكاثوليكية والبروتستانتية والإسلام. وظلت المنظومة الحاكمة لفترة طويلة على عدائها مع الدين... غير أن الدين استعاد حيويته في السنوات الماضية وأخذت تتزايد مظاهره، بالرغم من كل إجراءات السلطات الحاكمة. وأشارت تقارير غير رسمية إلى وجود نحو 350 مليوناً من معتنقي الديانات، وفق تقديرات مؤسسة فريدم هاوس الأمريكية، بينما تقدرها مؤسسة "حرية الدين" الأمريكية بنحو 650 مليوناً. واضطرت الدولة مؤخراً لسلوك أكثر تسامحاً واستيعاباً في التعامل مع الظاهرة الدينية؛ غير أنها ما زالت مستمرة في إجراءاتها القمعية القاسية تجاه معتنقي الإسلام وخصوصاً أقلية الأويجور.

التعليقات (0)