بورتريه

كرامي.. حارب الطائفية واغتاله أمراء الحرب الطائفيون

كرامي
كرامي


دمه مثل دم رفيق الحريري، سكب في شوارع بيروت دون معاقبة القاتل، كلاهما رئيسا وزراء من الطائفة السنية اغتيلا أثناء تقلدهما المنصب الرسمي.

لا تزال مدينة طرابلس شمال لبنان ترفع شعار "لم نسامح، ولن ننسى" في الذكرى الـ32 لاغتيال زعيمها، مدينة ترفض أن تتغير متمسكة بتقاليدها، وبزعامتها السياسية على مدى عشرات السنين.

لم تنس دم ابنها الذي فجرت الطوافة العسكرية رقم 906 (طائرة الهليكوبتر) التي كانت تقله من طرابلس إلى بيروت عام 1987 بواسطة "الريموت كونترول" حين كان يحلق للاجتماع بالرئيس اللبناني، للاتفاق على عشرة بنود أسست فيما بعد لاتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية.

وتشاء تناقضات السياسة اللبنانية التي يتقاسمها قادة المليشيات وأمراء الحرب الأهلية أن يكون المتهم الأول في عملية الاغتيال هو رئيس حزب "القوات اللبنانية" أمير الحرب، سمير جعجع، والذي بدل أن يكون في السجن، فقد تسلم أعلى المناصب في السلطة اللبنانية كان من بينها الترشح لرئاسة الجمهورية عام 2014، في حين تشير أصابع الاتهام إليه بوصفه المتهم الأول في اغتيال شخصية تاريخية تقلدت منصب رئيس وزراء لبنان ثماني مرات، بعد أن تعرض لأكثر من محاولة اغتيال فاشلة في حياته من بينها محاولات إسرائيلية.

ينتمي رشيد عبد الحميد كرامي، المولود عام 1921 بالقرب من طرابلس، إلى عائلة سياسية سنية عريقة، جده رشيد كرامي كان مفتي طرابلس، وشغل والده عبدالحميد كرامي من قبله منصب رئيس الوزراء عام 1945، وتقلد شقيقه عمر كرامي المنصب من بعده ثلاث مرات ما بين عامي 2004 و2005.

تخرج رشيد كرامي من جامعة القاهرة في كلية الحقوق عام 1940، ومارس مهنة المحاماة في طرابلس بين عامي 1948 و1951.

 

اقرأ أيضا: البرهان أمام طريقين: سوار الذهب أو البشير

انخرط رشيد كرامي في الحياة السياسية بعد وفاة والده إذ انتخب عضوا  في المجلس النيابي اللبناني، نائبا عن مدينة طرابلس عام 1951 على رأس لائحة "التحرر العربي"، وأعيد انتخابه بلا انقطاع حتى اغتياله.

وفي عام 1952 أصبح وزيرا للمرة الأولى، وتقلد المنصب الوزاري عدة مرات حتى عام 1955 حين تقلد منصب رئيس الوزراء، ليواصل تواجده في نفس المنصب حتى عام 1987 حين اغتيل بخطة محكمة تورط  فيها عسكريون وسياسيون.

كرامي كان يجلس في مكان ثابت في الطائرة، ولا يغير مكانه، وعندما أعطيت الإشارة تم الضغط على زر التفجير، فانفجرت العبوة التي كانت موضوعة خلف مقعده، وبعد التفجير بقي كل ركاب الطائرة أحياء ما عدا كرامي.

عائلة كرامي لا تزال  تطالب بالعدالة لدم "الرشيد" وترفض أن يذهب "هدرا" ورغم أن "المجلس العدلي" اللبناني حكم على جعج بالسجن، إلا أنه منح العفو في لحظة سياسية "مجنونة" كان يمر بها لبنان، أدت إلى خروجه من السجن.

جعج سجن في عام 1994 في قضايا أخرى من بينها اتهامه بتفجير كنيسة "سيدة النجاة" في كسروان، وحصل على البراءة من هذه التهمة، إلا أنه حوكم بتهمة اغتيال رشيد كرامي، واغتيال رئيس حزب "الوطنيين الأحرار" داني شمعون، كما أنه اتهم باغتيال النائب طوني فرنجية ابن الرئيس سليمان فرنجية وعائلته وهو ما سمي لاحقا بـ"مجزرة إهدن".

وحكمت المحكمة على جعج بالإعدام، إلا أن الحكم خفف من قبل رئيس الجمهورية إلياس الهراوي إلى السجن مدى الحياة، كما أنه تم الحكم بحل "القوات اللبنانية". وما لبث أن أطلق سراحه عبر عفو من قبل المجلس النيابي الذي انتخب بعد خروج الجيش السوري من لبنان عام 2005، وعاد بعد ذلك إلى نشاطه السياسي وترشح إلى الانتخابات الرئاسية.

وما زال جعجع مدانا قضائيا حتى الآن، وثمة 223 ألف وثيقة تشكل محاكمة متكاملة في قضية رشيد كرامي، وتتضمن اعترافات أكثر من عنصر ساهم في عملية الاغتيال، بالإضافة إلى الزورق الذي استعمل أثناء المراقبة، والجهاز الذي استعمل في عملية التفجير، ولم يحاول جعجع تنظيف ساحته وطلب إعادة المحاكمة خاصة أنه موجود في السلطة اليوم.

عائلة كرامي قالت أكثر من مرة بأنها ستقدم مذكرة إلى مجلس الأمن تطلب فيها ضم جريمة اغتيال الرئيس كرامي إلى الجرائم التي تنظر فيها المحكمة الدولية، مؤكدة أن "العدالة لا تتجزأ"، لكن يبدو أن المطالبة بهذا الملف خف ضجيجها مع رحيل شقيقه عمر كرامي.

واعتبر الوزير السابق فيصل عمر كرامي أن "الطبقة السياسية ارتكبت هرطقة غير مسبوقة حين أخرجت قاتل رشيد كرامي عام 2005 بعفو عام والذي يعتبر اغتيالا ثانيا لرشيد"، مؤكدا أن "هذا العفو يعتبر إهانة لمؤسسة الجيش والقضاء اللبناني".

وفي كلمة له في ذكرى اغتيال كرامي، لفت إلى أن "المنفذين تمكنوا من اختراق الضباط في الجيش لتنفيذ جريمتهم"، مشيرا إلى أنه "حين قلنا إننا لم نسامح ولن ننسى، فذلك لأننا نعتبر أن لا قيامة لدولة على قاعدة الجريمة، ولن يستقيم أمر الدولة سوى على قاعدة العدالة".

وأكد كرامي أن "المتهم البريء ينتظر البراءة، والعفو لا يعني البراءة، وإن كان جعجع واثقا من براءته فليطلب إعادة المحاكمة، ولكن ذلك لم يحصل لأن التهمة ثابتة"، وقال: "لقد قلنا إننا لن نسامح ولن ننسى ليس لأننا عائلة رشيد كرامي، لأنه ليس ملكا لعائلته، فهو رجل الدولة الذي أمضى زهاء 36 عاما في سدة المسؤولية، وكان أرفع تجسيد للوطنية، ونحن طلاب عدالة لا انتقام".

المناصرون لجعجع يؤكدون أن "الحكيم" كما يدعونه "بريء" من تهمة اغتيال كرامي، ويقول الوزير السابق اللواء أشرف ريفي: "لا أؤمن بالقضاء السوري آنذاك والملف تم تركيبه لإنهاء وإدانة جعجع".

ولفت ريفي إلى أن "النظام السوري هو الذي اغتال كرامي وهو مسؤول عن جميع الاغتيالات السياسية التي حصلت في لبنان".

النائب خالد الضاهر، يؤكد أن " المقدم السوري أحمد حلوم هو من اغتال كرامي، وهو من أعطى أوامره للرائد السوري محمد إسطنبولي الذي قام بتفخيخ المروحية الموجودة في معرض طرابلس التي كانت ستقل كرامي إلى بيروت للاجتماع مع كميل شمعون حيث قال كرامي جملته الشهيرة: "الحل في جيبي".

الضاهر يؤكد أن الرئيس اللبناني ميشل عون نفسه يعرف تفاصيل عملية اغتيال الرئيس كرامي، إلا أن مصالحه وتحالفاته تحول دون إعلانه عن هذه الحقيقة.

رشيد كرامي، كان ركنا من أركان السياسة اللبنانية وزعيما شعبيا، بدأ حياته السياسية مناضلا  إذ إنه شارك في وفود عدة إلى دمشق للمطالبة بإنشاء سوريا الكبرى. كما أنه طالب بالوحدة الاقتصادية والتعاون العسكري مع سوريا، وبارك قيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا عام 1958، وكان مع السياسة السورية في لبنان منذ اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 وحتى استشهاده.

كان الرئيس كرامي من أبرز أقطاب جبهة "الخلاص الوطني" التي ضمته والرئيس سليمان فرنجية والوزيرين نبيه بري ووليد جنبلاط، والتي كان لها دور محوري في إسقاط اتفاق 17 أيار/ مايو  1983 بين لبنان و"إسرائيل" في عهد الرئيس أمين الجميل، ومن أقواله في تلك المرحلة: "إن ما أصاب إسرائيل في لبنان هو هزيمة لم يسبق لها مثيل في تاريخها، من هنا يجب أن ندرك مدى الحقد الممزوج بالأطماع والأحلام الذي يغذي هذه الدويلة التي أقاموها على الإرهاب والعنف والاغتصاب في فلسطين".

 

اقرأ أيضا: "أبو جهاد".. الرمز المقاوم وبوصلة لم تخطئ فلسطين (بورتريه)

كرامي كان يحمل الإدارة الأمريكية المسؤولية عن العنف والصراعات الدامية، والخراب والتدمير والشقاء والمآسي التي شهدها لبنان منذ اندلاع الحرب الأهلية منتصف السبعينيات.

دافع كرامي عن القضية الفلسطينية، وساندها، واستقال في عام 1969 احتجاجا على اشتباكات الجيش اللبناني مع مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية، ووقف إلى جانب الفلسطينيين في اتفاقية القاهرة، وفي الحرب الأهلية.

وآمن الرئيس  كرامي بالتعايش الإسلامي المسيحي في لبنان، وكان من مؤيدي إلغاء الطائفية السياسية في لبنان، كان يقول: "إننا عندما نطالب بإلغاء الطائفية السياسية ليس ضد طائفة أو امتياز أو صلاحية، وإنما من أجل الوصول إلى خلق المواطنة الصحيحة التي تساوي بين اللبنانيين جميعا، فتبقى الكفاءة وحدها هي المقياس والمعيار من أجل الوصول إلى تحقيق كل ما يطمح إليه هذا الشعب، وبدون إلغاء الطائفية السياسية فستظل الطائفية مطية إلى المآرب والأهواء".

كان كرامي رجل دولة وقائدا وسياسيا معتدلا، صوفيا متقشفا، بحسب من عرفوه، وأحد القادة العرب البارزين في عصره، ومثال الأصالة القومية والوطنية.

قد لا ينال العدالة الدنيوية، فـ"القتلة" يمارسون السياسة التي هي شكل من أشكال الحرب لكن دون بنادق، رشيد كرامي سياسي رفض استخدام البندقية لتحقيق أهداف سياسية، "قتلته" استثمروا الحرب والبنادق للوصول إلى السياسة، فتحول كرامي إلى ضحية سياسيين وعسكريين تخندقوا خلف الطائفية، وبدلوا البندقية من كتف إلى كتف آخر دون أن يرف لهم جفن.

التعليقات (0)