صحافة دولية

FP: كيف كان هولبرك يمثل نفاق الإمبراطورية الأمريكية؟

فورين بوليسي: ريتشارد هولبرك الدبلوماسي الأمريكي يمثل قلب ونفاق الإمبراطورية الأمريكية- جيتي
فورين بوليسي: ريتشارد هولبرك الدبلوماسي الأمريكي يمثل قلب ونفاق الإمبراطورية الأمريكية- جيتي

نشرت مجلة "فورين بوليسي" مقالا للأكاديمي والمؤلف دانيال سارجنت، يتناول فيه حياة الدبلوماسي الأمريكي الراحل ريتشارد هولبروك، الذي وصفه في البداية بأنه نبي دينه أمريكا. 

 

ويستدرك سارجنت في مقاله، الذي ترجمته "عربي21"، بأن "التجربة زعزعت إيمانه، الذي لم يغادره، في البداية كان هولبروك مدافعا عن التقدم والقتال لأجل الحرية في فيتنام، في حرب كانت تعد مساوية لحركة الحرية، وفي النهاية انسد أفق الطموح، وعندما لم يتوقع الانتصار العسكري وأن مبادرات التطوير كانت تلتهم حكومة فاسدة في أفغانستان، تحول هولبروك للحديث مع حركة طالبان لمحاولة التوصل إلى صفقة معها".

 

ويشير الكاتب إلى أنه "على مدى نصف قرن، فإن القوة العالمية لأمريكا، من فيتنام إلى أفغانستان، يمثل خريفا إمبرياليا مطولا، وبعد وضوح فترة ذروة الحرب الباردة، حيث قام الرؤساء بالتمييز بين النور والظلام وبين الحرية والعبودية، كانت فيتنام إيذانا بدخول مرحلة غامضة، وبقيت كفة أمريكا هي الراجحة، لكن فيتنام تركت الأمريكيين مهزومين ولا يستطيعون تحمل التبجح الإمبريالي إلا قليلا، وهذه المرحلة المتأخرة من الإمبراطورية هي التي يسافر الصحافي جورج باكر خلالها في كتاب رائع يتمحور حول شخصية ريتشارد هولبروك، حيث يستخدم شخصية دبلوماسي بارز لمحاولة إبراز طبيعة مرحلة". 

 

ويقول سارجنت: "فلماذا هولبروك؟ لماذا لم يكن جورج شولتز أو كونداليزا رايس أو جيمس ماتيس؟ .. فنظرة سطحية لا تظهر أن مكانة هولبروك بين عمالقة السلطة الأمريكية متميزة، وعلى مدى خمسين عاما شغل هولبروك مناصب مختلفة في السلطة الأمريكية: موظف في سلك الخارجية في فيتنام، إلى مدير فرق السلام في المغرب، التي يصفها بأنها (أفضل وظيفة حصل عليها)، بحسب باكر، ومرتين مساعد وزير الخارجية تحت رئاسة جيمي كارتر (لشرق آسيا والهادئ) ورئاسة بيل كلينتون (للشؤون الكندية والأوروبية)، ثم سفيرا في إدارة كلينتون لألمانيا ثم للأمم المتحدة، وأخيرا مبعوثا خاصا من إدارة أوباما لأفغانستان وباكستان، وبين هذه المهمات كان هولبروك يحرر مجلة (فورين بوليسي) أو يؤلف كتبا، بالإضافة إلى أن هولبروك حصل على ملايين الدولارات في سوق وول ستريت، وإن كان لا يتقن التصرف بالمال فأضاع الكثير من أمواله على العقارات، وحتى على طائرة خاصة".

 

ويبين الكاتب أنه "مع إنجازات هولبروك كلها، إلا أن هناك من هم أكثر مكانة منه، من وزراء خارجية ومستشاري أمن قومي وقادة عسكريين كبار، إلا أن باكر يبرر مقاربته بتوظيفه هولبروك لسبر مواضيع أكبر، ما يضاعف من القيمة التحليلية لأسلوبه في توثيق السير الشخصية، فبالتأكيد تحتوي حياة هولبروك العملية على أحداث مهمة، فقد كان شارك في حربين أمريكيتين كانتا الأكثر تداعيات، ومن موقعه ذلك يقوم باكر بتسليط الضوء على مسار أحداث تلك الصراعات وفي حالة فيتنام، ما تبعها من تداعيات، كما كان هولبروك ديمقراطيا، ويقوم باكر من خلاله بتفحص موقف حزبه وعلاقته، خلال مرحلة ما بعد فيتنام المشحونة مع باكس- أميركانا (مصطلح يعني السلام الأمريكي، ويقصد به أمريكا في فترة بعد الحرب العالمية الثانية) التي بناها جيل سابق من الديمقراطيين". 

 

ويجد سارجنت أن "أبرز ما يكشفه باكر هو الفارق بين الخطاب والواقع -بين المثالية والأنانية، إذا أردنا استعارة تعبيره- في عملية ممارسة النفوذ عالميا". 

 

ويورد الكاتب نقلا عن باكر، قوله إن هولبروك لم يكن ذلك "الاستراتيجي العظيم"، الذي صنع أنظمة قوية بقدر ما كان "تجسيدا لبعض الأفكار الفاعلة"، وبشكل عام فكرة أمريكا بصفتها قوة عظمى مسؤولة وأخلاقية.

 

ويشير سارجنت إلى أن "باكر يذكر في الكتاب أن هولبروك بدأ العمل في الخارجية شابا، واعتاد على (تناول الوجبات السريعة على مكتبه)، ويلتهم بكفه (حب القهوة المغلف بالشوكلاته)، ما تسبب بزيادة وزنه، وكانت قدماه مخططتين بسبب مشكلات في الدورة الدموية أدت إلى وفاته المبكرة، وكونه دبلوماسيا كبيرا فإنه كان يبدل جواربه عدة مرات في اليوم بسبب تعرق قدميه، وكان يعلق الجوارب المستخدمة على جيب مقعده في الدرجة الأولى في الطائرة، أو يضعها في حقيبة، أو يضع قدميه على مكتب زميل (لتجفيف جوربيه)، واشتهر لهذه التصرفات التي تفتقد إلى الأدب".

 

ويقول الكاتب: "أما الأمر الآخر الذي كشفه باكر هو هوس هولبروك بالجنس، حيث تزوج وطلق أكثر من مرة، وأقام علاقات حتى وهو متزوج، ويقول إن هولبروك تزوج شابا عندما ذهب إلى فيتنام، والتقى بزميلته التي كان يحبها في الجامعة، وأقام له صديقاه توني وأنتونيا ليك، من أعمدة المجتمع الدبلوماسي في سايغون حفلا في حديقتهما في سايغون عام 1964، لكن هذا الزواج فشل خلال أقل من عقد بعد أن وقع هولبروك في حب أنتونيا ليك، ما حطم صداقته وزواجه، وتبعت ذلك علاقات وزيجات آخرها كان زواجه من كيتي مارتون، وهو الزواج الذي بقي حتى وفاته، وإن تخللته علاقات". 

 

ويضيف سارجنت: "إن الحميمية غير المتوقعة التي امتازت بها الصورة التي رسمها باكر تذكرنا بأن من يصنع التاريخ هم رجال ونساء وليست مؤسسات صماء، ولسنا مختلفين جدا كما نحب أن نتصور عن الديناميكيات التي كانت تحرك بلاط القصور منذ الحقب التاريخية القديمة.. ويقول باكر: (أحيانا أفكر بأن واشنطن هي شبكة من العلاقات التي نسجتها الرغبات)". 

 

ويلفت الكاتب إلى أنه "بالنسبة لهولبروك فإن الرغبة كانت تعني الطموح، فحلمه بأن يكون عظيما جذبه إلى العمل في سلك الخارجية، وعندما سألته إحدى صديقاته عام 1973 أين يرى نفسه خلال خمس سنوات، فإنه أجاب: (سأصبح هنري كيسنجر القادم)، لكنه لم يصل إلى تلك المكانة، وفشله تسبب في أنه أصبح صعبا، وبحسب باكر فإن طموحه الذي لم يتحقق تحول إلى (قسوة وافتقار إلى الحساسية وتفاصيل ذلك مخجلة)، وكان الخداع من بين الخطايا التي ولدها الطموح، فقد يكون هولبروك (مرحا للغاية)، لكنه تصرف بلا مسؤولية في علاقات الصداقة، وليس فقط مع عائلة ليك".

 

ويفيد سارجنت بأن "أشد خداع جاء بعد حادث مؤسف في طريق جبلي في سراييفو، حيث ادعى هولبروك في كتابه (لإنهاء حرب) أنه بطل قام بتحرير أربعة رجال من مصفحة تحترق، لكن الواقع كان مختلفا، فعندما هوى نصف موكبه عن جبل إيغمان في آب/ أغسطس 1995، فإنه (ترك البطولة للآخرين)، وكان من بين الأبطال ذلك اليوم المقدم راندال بانكي الذي تبع حاملة الجنود التي وقعت في الواد محاولا إنقاذ ركابها، ومن خلال المبالغة في بطولته خدم هولبروك طموحاته، لكنه سرق بسالة بانكي، بل إنه أساء له عندما ادعى أنه شخص متمارض، ويقول باكر إن (الطموح.. ليس جميلا عندما تدقق فيه مليا)".

 

ويبين الكاتب أن "هذه المحاسبة التي قام بها باكر لأعظم أخطاء هولبروك تخدم هدفا تحليليا، فهولبروك كان يقدس (الشخصيات التي كان لها رؤية)، مثل دين أتشيسون وجورج كينان وجورج مارشال وويليام هاريمان -الجيل الذي أسس لأمريكا بعد الحرب العالمية الثانية- وكان يحلم بأن يقلدهم ويدخل التاريخ، لكنه ولد عام 1941، وهي سنة محورية للقرن الأمريكي، ثم قضي عليه بالخدمة في أواخر ذروة الإمبريالية الأمريكية وواجه الإحباط، وأبرز باكر في كتابه، من خلال استعراضه لذلك الإحباط، وجه الإحباط الإمبريالي". 

 

وينوه سارجنت أن "الجنس كان من بين إحباطاته، ولم يكن التمييز الجنسي لدى هولبروك غريبا، لكنه كان صادما، (فكان صارخا بقدر ما كان دون تفكير) وبدأ ذلك مبكرا، فعندما كان شابا في فيتنام ولم يكن متزوجا بعد كان يشتكي من زوجات زملائه الدبلوماسيين بأنهن (إما عاهرات أو مملات أو كثيرات كلام أو الثلاث صفات معا)". 

 

ويفيد الكاتب بأن "هذا التمييز استمر، ولأن بيل كلنتون تجاوزه لمنصب وزير الخارجية، فإن هولبروك الناضج ينظر إلى مادلين أولبرايت بازدراء (مضاعف) بسبب التمييز الجنسي، وفي مرحلته الأخير انتهى به الأمر متعلقا بهيلاري كلينتون، وأثر ذلك كان ساخرا، فعندما يحاول أن يجعل (قضية المرأة) مركزية في سياسة أمريكا في أفغانستان، كان يفوح من هذا الجهد شيء من النفاق، ومع ذلك فإن الحقيقة معقدة، ويذكرنا باكر بأن هولبروك أيضا (أيد وجود النساء في الحكومة)، بالإضافة إلى أن من المهم أنه عاش في عالم متغير، فالإمبراطورية في الستينيات كانت لعبة رجال، لكن مع قرب هولبروك من النهاية كان شخصيات جديدة ومتنوعة يؤدون الأدوار".

 

ويقول سارجنت: "في حياة هولبروك المتأخرة قد نشم رائحة الإحباط من قوة أمريكا ما بعد فيتنام، ومع أنه تأثر بمقدرته على الحب، إلا أن تعاملاته، خاصة مع النساء، تكشف عن وقاحته، حيث كان يعد أن مهمته إدارة العالم، أما المهمات الأقل (التنظيف والتسوق وتربية الأطفال) فهي مهمة البشر العاديين (النساء)".  

 

ويرى الكاتب أن "أسلوب هولبروك في الدبلوماسية قد يكون قد عفا عنه الزمن، إلا أن باكر مؤرخ جيد، حيث يظهر من خلال سبره لأعماق غطرسته بأنه ليس هناك ما نتعلمه منه سوى الأخلاق السيئة، ومع ذلك فكانت هناك أمثلة مفيدة، ويبين باكر كيف يمكن لخلفاء هولبروك أن يتعلموا منه، ومن تلك الأشياء الإصرار على أن يرى بنفسه، وهو ما ظهر لديه من بدايات عمله، حيث تمشى في شوارع سايغون في اليوم الذي وصل فيه إلى فيتنام، وعندما رأى تجمعا في منطقة شا لوي باغودا انضم إلى التجمع، وشاهد القلب المتفحم للراهب البوذي الذي أحرق نفسه احتجاجا على التعصب الديني لحكومة سايغون، التي أعطيت له مهمة تأييدها، التي وصفها لاحقا بأنها (مفلسة تماما ومثيرة للاشمئزاز ومن الصعب وصفها)" .

 

ويشير سارجنت إلى أن "الأمر لو لم يتعلق بالحرب الباردة كان يرى أنه يجب على أمريكا تأييد الجانب الآخر في فيتنام، ولم يكن هذا رأيه وحده، كما أن هولبروك الناضج كان يميل إلى الحقيقة، وفي الوقت الذي عانى فيه كلينتون مع السياسة الخارجية في أوائل التسعينيات، فإن هولبروك سافر بنفسه إلى البوسنة ليرى ماذا يحدث هناك، وبعد 16 سنة وجد هولبروك نفسه في أفغانستان لحل مشكلة أخرى".

 

ويختم الكاتب مقاله بالقول إن "الجانب الجيد الثاني لهولبروك هو استعداده لنقل الحقيقة غير المريحة لمن هم في السلطة، بالإضافة إلى أنه كان يكره العنصرية، وبالتأكيد لم يكن هولبروك ملاكا ولا شهيدا، لكن كان سعيه لأجل السلطة هو وأمريكا الخاصة به يخففه وضوح مثالي للرؤية".

 

لقراءة النص الأصلي اضغط (هنا)

التعليقات (0)