كتاب عربي 21

الخلاف اللائكي الإسلامي يطل برأسه في ربيع الجزائر

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
في الوقت الذي تنشدّ فيه الأنظار إلى الشارع الجزائري الذي يعيش ربيعه السياسي بطريقة راقية وعبقرية، خاصة بعد أن رفض مناورة النظام الأولى بتمديد غير دستوري للرئيس بوتفليقة، وهو ما تجلى في مليونيات يوم 15 آذار/ مارس 2019، وفي الوقت الذي يضع فيه محبو الجزائر وشعبها أيديهم على قلوبهم حذرا من رد فعل الجيش القوي والمتحكم في مجريات الواقع الجزائري، أطل برأسه الخلاف القديم المتجدد حول لائكية الدولة.

قولان الآن سيوجهان النقاش حول مستقبل الجزائر ودولتها: وضع دستور جديد كلية لبناء جمهورية ثانية، أو تعديل الدستور القائم ومواصلة العمل. وسيتركز الجدال حول المادة 212 من الدستور الحالي، والتي تنص على أن الإسلام هو دين الدولة، والعربية لغتها السيادية.

سيكون هناك خلاف فرعي، ولكنه مهم جدا لوحدة السكان، وخاصة في مرحلة الثورة (سأجيز لنفسي القول بثورة الجزائر الثانية)، وهو الخلاف حول اللغة، إذ يعمل المكون الأمازيغي على فرض لغته الأصلية كلغة للدولة إلى جانب العربية، دون أفضلية لأي من اللغتين، وإدراجها في التعليم والإدارة.. وسيكون هناك خلاف أكبر وأثقل وزنا، وهو الخلاف حول دين الدولة؛ هل يكون الإسلام أم تكون دولة لائكية؟

أولا: المشكل اللغوي والإثني

مسار طويل مرت به الجزائر لتدخل الإسلام وتستعمل العربية كلغة، مما لا يتسع المجال هنا لإعادة تلخيصه بل كتابته، ولكن هذا المسار قام بركن لغة السكان الأصليين، وإن لم يُلغها، وهو أمر مشابه لما جرى في أقطار المغرب العربي الخمسة. معطيات تاريخية كثيرة متوفرة منذ قدوم العرب من الشرق؛ عن صراعات عسكرية ثم ثقافية انتهت بتعايش وتجاوز للمشكل اللغوي، وساهم دخول السكان غير العرب في الإسلام في تبريدها. دخل العرب في الثقافة البربرية، وقبل البربر دين العرب ولغتهم، واستقام لهم كثير من المجد معا. لكن أعيدت إثارة المشكل الإثني واللغوي مع قدوم المستعمر الفرنسي، وهو لا يزال قائما؛ لأن الدولة المستقلة ذات التوجه العروبي (بومدين خاصة) قامت بإعادة ردم المشكل وراء أيديولوجيا توحيد السكان لمواجهة معضلات التنمية. لكن المُشكل لم يردم، وها هو يطل برأسه في الشارع الجزائري الثائر ويفرض نفسه على طاولة الثورة، لمعالجته بشجاعة تنهي أسطورة التفوق العرقي العربي ثقافيا.

كان تهميش الأمازيغية في المغرب، كما إلغاء الكوردية في الشرق العربي، ولغات بقية الإثنيات غير العربية في المنطقة ذات الغالبيات العربية، من بنات أفكار القومية العربية تحت مسمى التوحيد من أجل كمعركة التحرير والتنمية. لم يتم التحرير ولم تحصل التنمية وبقيت مشاكل إلغاء المختلفين (الأقليات) قائمة، وها هي تتقدم الصفوف، وتوشك أن تبذر بذور فتنة قبل اكتمال فرض مطالب الشارع الثائر في التحرر من الطغمة الحاكمة المستولية على مقدرات البلد ومستقبله.

ثانيا: المشكل الديني والسياسي أو نمط الدولة

ظهرت بعثات تبشيرية في الجزائر تمت مقاومتها بشراسة، وليس بين أمازيغ الجزائر وعربها خلاف مذهبي، فالوضع مشابه لتونس، أي أن الاختلاف الإثني لا يتضاعف بخلاف عقائدي، ولكن الخلاف الحقيقي موجود بين تيار علماني يطلب أن ينصّ الدستور على لائكية الدولة، وتيار إسلامي يحافظ على الجزائر دولة مسلمة. هذا الخلاف أطل برأسه من خلال المعركة حول الفصل 212، ولكل طرف من أطرافه متطرفون يدفعون إلى القطيعة، وربما الاحتراب.

والإشكال الآن في الشارع المتحرك عند الباحثين عن حل لا المحرضين على حرب؛ هو متى نعالج هذا المشكل؟ أي ما هو سلم الأولويات؟

هل نسقط الطغمة الحاكمة ثم نعالج مسألة نمط الدولة؟

أم نتفق على نمط الدولة أولا ثم نواصل التحرك؟

أم ننجز كل شيء في وقت واحد؛ لأن المعارك التأسيسية لا تنفصل؟

ليس لدى كاتب الورقة حل جاهز يقدمه للجزائريين، وهم ليسوا في قلة من عدد أو ضعف من رأي لكي تقدم لهم الوصفات الجاهزة. ولكن التنبيه ضروري إلى تجارب مقارنة، وها هي بعض التجارب التي اختل لديها سلم الأولويات.

في الثورة الفلسطينية حصل خلاف عميق بين اليسار الفلسطيني والإسلاميين، خاصة بعد ظهور حركة حماس، حول طبيعة الدولة الفلسطينية القادمة بعد التحرير: هل تكون دولة لائكية أم دولة إسلامية؟ الخلاف لم يحل بعد، ولكن فصائل المقاومة اختلفت حتى تشتت وأفلح عدوها في قمعها متفرقة، بل إن هذا الخلاف اتسعت رقعته لتشمل كل أنصار الثورة الفلسطينية في المنطقة العربية. وقد عشت نقاشات الطلبة في الجامعة التونسية حول طبيعة دولة لم تقم أبدا.. هذا الخلاف ضيّع الثورة الفلسطينية ودولتها.

في تونس حصل شيء مماثل بعد الثورة. لقد كان مشكل طبيعة الدولة مطمورا منذ الاستقلال تحت الفصل الأول من الدستور (دولة مسلمة العربية لغتها والإسلام دينها)، وانفجر المشكل المطمور في وجه الثورة، ووجد التونسيون أنفسهم يناقشون ذلك. وتفرع النقاش إلى حرية الضمير وحرية التصرف في الجسد، فكانت مواضيع الخلاف اليومية التي تطفو على النقاش؛ تعرية الجسد والمثلية الجنسية، ومسائل أخرى استولت على أغلب الجهد الفكري والثقافي، حتى وجد التونسيون أنفسهم من جديد تحت حكم منظومة الفساد والاستبداد كأنهم لم يثوروا. لقد تسرب الفساد عائدا للحكم كما تسرب الصهاينة من باب الخلاف حول الأولويات. وما أشبه عمل الفساد بعمل الصهاينة.

الفساد أولى أن يحارَب

الدولة الإسلامية أو المسلمة مثل الدولة اللائكية، هي دولة فاشلة إذا كان الفساد ينخر مفاصلها. وبين أيدي الجزائريين الآن تجربة تونس؛ لقد تم التوافق على عناصر كثيرة من الخلاف بين الإسلاميين والعلمانيين واجتنبوا الحرب الأهلية، لكنهم أعادوا بناء دولة فاشلة؛ لأن الفساد انتصر على العلمانيين وعلى الإسلاميين مجتمعين ومتفرقين. ولن أتحدث هنا عن الجهد المضني الذي بذل هدرا في علاج مشاكل ليست مطروحة لدى عامة الناس؛ الذين يبنون علاقات مختلفة تماما مع الدين والتدين ومع حرية الضمير والفعل.

للتذكير فقط، نقول إن العلمانية علمانيات واللائكية لائكيات والتجارب في الغرب مختلفة، وقد وجب طرح السؤال بجدية عن سر تبني لائكي المغرب العربي (مستعمرة فرنسا سابقا) لنموذج اللائكية الفرنسية الذي يبدأ أولا بمحاربة عقائد الناس وإلغاء المختلف. ذات يوم، سمّى الجزائريون لائكييهم بحزب فرنسا، وكان ذلك عن وعي بأن نتيجة عمل هؤلاء تنتهي دوما لصالح المستعمر الفرنسي. وإذا كان خطاب نمط الدولة يُستعاد الآن قبل حسم المعركة السياسية مع النظام الفاسد، فإن فرنسا تتربص بالجزائر خلف النقاش وتبثه، وربما تعيد بث الفتنة الإثنية بين العرب والأمازيغ في التي خلقتها سابقا.

وجب تسمية الأشياء بأسمائها في الجزائر، كما في تونس والمغرب. إن تخويف الناس بـ"الخونجة" والإرهاب لم يعد مجديا. فليس كل من أجّل النقاش في طبيعة الدولة هذه (خوانجي مرادف إرهابي) من حيل الدعاية في قناة فرنسا الثانية. إنه أمر يشبه نعت نقد سياسة دولة إسرائيل باللاسامية وتجريم ذلك بقانون. يفكر اللائكيون الفرنسيون وتوابعهم في المغرب العربي مثل الصهاينة، فيضعون أنفسهم فوق النقد. وهم تكفيريون بامتياز، بل أشد تكفيرية من كل التكفيريين.

في تاريخ المغرب العربي، منذ تعرّب وأسلم سكانه، لم يُمنع أحد من ممارسة عقيدة مختلفة، رغم كثرة الحركات الدينية التي عرفتها المنطقة (باستثناء حالة طرد بقايا الفاطمية من تونس)، ولكن في تاريخ الدولة الوطنية الحديثة ذات الغلاف التقدمي (بورقيبة/ بومدين/ الحسن الثاني) مُنع مسلمون من أداء شعائرهم، وطردوا من داخل المساجد باسم الحفاظ على المدنية مرة وباسم الحفاظ على الوحدة الوطنية مرات، وفي كل الحالات كانت النتيجة تنتهي لصالح فرنسا واقتصادها المزدهر، بينما يزداد السكان المحليون فقرا، بقطع النظر عن عقيدتهم ولغتهم.

هل سيُحل المشكل من هذه الزاوية؟ لن يحل بنعت اللائكيين بحزب فرنسا، كما لم يحل سابقا بنعت كل مسلم بأنه "خوانجي" إرهابي. لذلك، وجب التفكير فيه بعمق ومعالجته بروية، لكن متى؟

تصفية النظام السياسي الفاسد، وبناء مؤسسات تدير البلد بشفافية وتعيد ثقة الناس في بلدهم وتدفعهم للاستقرار بأرضهم، ولو بعد زمن، مقدمة في رأيي على معالجة طبيعة الدولة. بل أجزم بأنه في نماذج لائكية مختلفة عن النموذج الفرنسي (ألمانيا/ إنكلترا) ستلغي هذه المشاكل نفسها، وينصرف الناس عنها إلى هموم أخرى.

إذا خرج الجزائريون من العقل الفرنسي الذي يضع العربة أمام الحصان دوما، فسيبنون دولة ديمقراطية تحترم مواطنيها ولا تفتش في ضمائرهم، ولو كانت المادة 212 تنص على دين الدولة.
التعليقات (3)
mostfa le tunisien
الخميس، 21-03-2019 11:59 ص
مقال رائع كالعادة ... صراع إيولوجي مقيت ... يصب لصالح الأنظمة الإستبدادية و فرنسا الإستعمارية.. في تونس أضن أن النهضة تعاملت بحنكة و طرحت التوافق , وكان شعارها "إنجاح المسار الديمقراطي ثم نجاحها كحزب",وتتعامل مع كل الأطياف السياسية , كمنافس و في المقابل تجد الشق العلماني مازال سجين لإيديولجته , يري الإسلاميين كعدو ويجب تنحيته ...
متفائل
الأربعاء، 20-03-2019 03:15 م
مشكلة سكان شمال إفريقيا نابعة من سياسة الاستعمار ، قبل أن تطأ أقدام المحتل الغاصب للأوطان ، لم يكن هناك صراع أو خلاف يذكر ، الأمن و الأمان يغطي بجناحيه الجميع ، لم يتمكن المحتل من بسط نفوذه على الجزائر ، بالرغم من تركيز كل جهوده عليها ، ففي الوقت الذي اكتفى بفرض الحماية على أكثر من قطر ، فعل سياسته الاستيطانية داخل حدود الجزائر ( دولة بحجم قارة ) فيها من الخيرات ما يكفي أوربا بكاملها ، ورغم ذلك لم يفلح ، ولم يجد سوى حيلة الاعتماد على الصراعات المصطنعة أو المفتعلة ، فرحل عساكره ، وترك من بعده فئة عبر عنها الجنرال شارل ديغول بالقول : " لقد تركنا وراءنا جزائريين أكثر فرنسية من الفرنسيين " ، تسلمت مقاليد الأمور داخل الإدارة والجيش ، و تمكنت في ظرف عشرية من التخلص من بومدين الذي لم ير في مرآة الجزائر صورة سوى صورته ، بعدها تحكم حراس فرنسا ، واستطاعوا تنويم الجميع و تمييع كل الفضاءات ، و سوقوا لدولة لائكية بدعوى أن سبب كل المشاكل هو التيار العروبي ، و بالرغم من استماتة بعض الغيورين إلا أن الحيل المبيتة حالت دون فهم ما يدور داخل الكواليس ، و كان الغرض إبقاء الجزائر ضعيفة تابعة ، وأكثر من ذلك تمكين الفاسدين من الوصول إلى أكثر من موقع ، الأمر الذي حرم الجزائر من استجماع قواها والاستفادة من كفاءاتها و ثروتها . اليوم لم تيأس فرنسا ، ولم تتراجع ، ولم تغير من نفسيتها ، حراك اليوم يراد تمييعه و ركوبه من أجل إعادة التموقع لقوى الفساد ، ليس إلا . و يروجون أن المشكلة آتية بسبب الصراع بين العلمانيين والإسلاميين ، و ما من شك فإن بعض الإسلاميين قدموا خدمة من حيث لا يشعرون لقوى الاستعمار ، بسبب عدم فهمهم و عجزهم عن إدراك لطبيعة اللعبة المبيتة .
adem
الثلاثاء، 19-03-2019 06:34 م
سيدي المحترم فيما يخص علمانية الدولة السؤال المطروح هل هي العلمانية الأنجلوساكسونية أم الفرنسية ؟ من يريد العلمانية في الجزائر ؟ الشعب ؟ إذا كانت هذه رغبته الحل سهل جدا يجب الذهاب إلى استفتاء ولكن تأكد من شئ واحد فقط لن يقبل غلمان فرنسا بهذا التحدي السبب ؟ لن تبلغ نسبة مسانديهم 5 بالمائة ، و تخيلوا معي لحظة أن الاسلاميين يريدون الاحتكام إلى الشريعة و يقترحون استفتاءعلى ذلك فهل سيقبل الغلمان التحدي ؟ أشك كثيرا لقناعتهم أن الشعب سيقبل بذلك بصدر رحب. المشكلة إذا في العصابة التي لا تثق في شعوبها و لا تريد الاحتكام إليه .بالنسبة للغة نفس المشكل سيطرح إذا كان الأمر يخص الشعب الجزائري كله و ليس منطقة معينة فالحل في العودة إلى الشعب هنا كذلك العصابة ترفض بحجة ألا استفتاء على هوية الشعب ! تخيلوا لحظة بنفس المنطق سيطالب الإسلاميون بالشريعة دون الحاجة إلى استفتاء لأننا نتحدث عن عقيدة الشعب ستصرخ العصابة وتندد بالظلامية حتى يصل صدى ذلك الصراخ إلى أسيادهم في الغرب . لا مشكلة عندي بالنسبة للأمازيغية بعيدا عن فرنسا و دون احتكار للقضية من منطقة معينة و دون وصاية على الشعب .