قضايا وآراء

في هجاء العدسة

مسعود حامد
1300x600
1300x600

العدسة كذابة

 

حكى لي الفيلسوف الموسوعي عبد الوهاب المسيري، رحمات الله ورضوانه عليه، أنه دُعي لحفل زفاف ارستقراطي يتم فيه تصوير كل أحداث الزفاف، وشاهد المخرج وهو يحرّك الجميع (المدعوين وأهل العروسين والعروسين) ويرشدهم كيف يظهرون ومتى يضحكون وكيف يُقبّل العروس عروسه، وكيف يدخل أهل العروسين على المدعوين، وكيف يتحرك المدعوون وهم يعلمون أنهم تحت العدسة. وقال هم يسرمدون لحظة عابرة، ويخلدون مشهدا مزيفا. وأضاف رحمة الله عليه: إن هذه العائلة نسبة الطلاق فيها كبيرة، والعدسة لن تقول ذلك.

نحن نصور أنفسنا لنكذب عليها.. نستخدم التطبيقات الرقمية "الملوّنات" و"المنحفات" أو "المسمنات" وباقي "المجملات" و"المضحكات" الالكترونية إلى صورنا الأصلية، لنصنع صورا عنا منقحة ومعدلة كما نريد، أملاً في الإبهار والإمتاع. نريد أن نكون "صورة" مشتهاة، أمام الآخرين.

العدسة مضللة

عقب ثورة يناير، كان هناك آلاف الشباب، لكن المذيع ذا الشاشة السيّارة أحمد منصور ومعديه أظهروا خمسة أو ستة فقط؛ سماهم شباب الثورة وتحاور الإعلامي معهم، لكونه يعرفهم ويعرفونه. وهناك لا ريب الآلاف ممن أبلوا بلاء حسنا، بعيدا عن معدي البرامج ومذيعيهم ولمّا يعرفهم أحد، لكن الله يعرفهم.. هؤلاء الشباب المصطفون تحت العدسة، جزء كبير منهم ذاب في مؤسسات الانقلاب، بل إبراهيم عيسى نفسه الذي كان مذيعا بالجزيرة وقتئذٍ؛ هو رأس الحربة لقتل الثورة.

العدسة مفسدة

يكفي أن تقدم طلبا في ورق منظم لأثرياء ما (على نحو ما يفعل الأدباء ليأخدوا منح وزارة الثقافة ويدخلوا الحظيرة) ليجعلوك بأموالهم نجما تلفزيونيا، تعبر عن سياساتهم ومصالحهم وتتكلم عما يريدون، وأنت في حقيقة الأمر محتال كبير وبوق مزيف، وصورة مفسدة، لكنّ رأس المال السياسي غزا ويغزو وتداخل ويتداخل مع ما هو حقيقي ليتناص معه وكأنه هو، وهو في الحقيقة ليس هو، لكنها العدسة، ومن ظهروا كإعلاميين هنا أو هناك ليسوا هم بالضبط الإعلاميين، بل هم من أتيح لهم أن يلعبوا دورا كهذا.

العدسة ظالمة

من يعرفون عائلة أبو تريكة من الأهلاويين يعلمون أن هناك من هو "أحرف" وأكثر فنا ومهارة في لعب كرة القدم من الخلوق محمد أبو تريكة، وهو أخوه رحمه الله، ولكن الفرصة وصلت للنجم الساحر، ابن قريتي محمد ابو تريكة، ومعلمه أخوه مات في مصنع طوب صعقا بالكهرباء.

وكذا أدباء الظل وأدباء الأقاليم من هو أكثر إبداعا ممن يدعون يوميا للظهور أمام الشاشات، يموتون في الخفاء، لكنها اختيارات المعد التلفزيوني وموافقات الأمن أو الممول أو سياسات الجهات الراعية، أو أيادي أجهزة المخابرات الخفية.

العدسة متحيزة

فوراءها من يحدد اللقطة ويختار زاوية الرؤية، ويبرز ما يشاء ويخفي ما يشاء. مثلاً، عدسة المخلوع مبارك كانت تصور النيل والقوارب الفارغة أيام الثورة وميدان التحرير مكتظ بملايينه، لتوحي الصور أن لا أحد في الميدان.

العدسة غازية

وبها أيضا خدع كولن بأول، وزير خارجية أمريكا في عهد جورج الابن، العالم ودمّر دولا وأباد شعوبا، ونسف حضارة العراق بزعم صور التُقطت تظهر أسلحة دمار شامل ببغداد، عاصمة الخلافة. وثبت كذبه وافتراؤه لغزو العراق.

العدسة خداعة

وبها المخرج السينمائي وعنتيل الإعلام خالد يوسف؛ صوّر الآلاف في ميدان التحرير في 30 حزيران/ يونيو، وكأنهم ملايين ليبرر ويمرر انقلاب العسس في مصر.

العدسة تبدل الواقع

لم تعد تهتم أنت بلذّة طعامكطعامك ولا متعة تحصيل علمك ولا بأي من أمور الحياة، إلا بالقدر الذي ستلتقط به صورا لتنشرها في مواقع التواصل الاجتماعي. إنها لقطة "أنا هنا والآن"، مستخدما تطبيقات "الفلاتر" لتدلس على الناس وتصور واقعا معدلا؛ لتقول: "أنا أصوّر إذن أنا موجود".

إنها هستيريا الحضور الافتراضي، واستعراض الأنا المتضخمة أو المهزومة او المستهلكة لما ينتجه الغير، وإنه لخضوع لإله الإعجابات "اللايكات" وإله المشاهدات..

العدسة تنازعك الدين

لماذا تود أن تأخذ "سيلفي" وأنت بين يدي الله متعلقا بكعبته الشريفة، أو باكيا عند الروضة الشريفة، أو منصتا في مسجد شهير لصلاة الجمعة، أو أنت تتصدق بالمال أو تقيم شعيرة أو تنفذ شريعة؟ لماذا توثق ما توثقه الملائكة؟

الله يراك فلا تنازعه لحظتك معه.. لماذا تريد أن تشارك عدستك الموقف؟ إنها لحظة سريعة عابرة فلم تسرمدها؟

للساسة والمستبدين والطواغيت مشاهد وأفلام وصور أكثر منك يستخدمونها لمصالحهم الدنيوية، لكن أنت يا عاديّ يا من تخدعك صورهم.. لماذا تسلب العدسة قدسية لحظتك حتى مع الله؟

الصورة تقتحم خصوصياتنا

كان أبي وأبوك يتواصلان باللقاء والكلام، يتعاملان مع العالم على حقيقته بدون مبالغة أو تضخيم أو تجميل، الآن أنا وأنت لا نتردّد في نشر صورنا ونحن مع أسرنا وأولادنا وننشر على أوسع نطاق ما نأكل وما نلبس، ومكان معيشتنا، وربما غرفة نومنا، بل وسرير مرقدنا، لتشاهده الدنيا، ولتشاهد كل تفاصيل حياتنا الشخصية، وكأنما لا خصوصية لنا.. لا أسرار نسعى لإخفائها، لا غيب لذيذا نصر على إبقائه في مكانه، فالصورة تنتهك حرماتنا.

التعليقات (1)
أبو حلموس
الإثنين، 25-02-2019 06:24 م
هذا المقال رائع و للحقيقة يضيف إلى زوايا الرؤية الكثير و لجدوى القراءة مذاقا و مفهوما .. احترام واجب التعبير عنه للمقال و لصاحبه