كتب

باحث مغربي يفكك أربع أطروحات لدراسة الإسلام السياسي (1من2)

باحث مغربي يرى أن مراكز البحث الغربية تنظر إلى الإسلاميين كفاعل أساسي في المشهد السياسي (عربي21)
باحث مغربي يرى أن مراكز البحث الغربية تنظر إلى الإسلاميين كفاعل أساسي في المشهد السياسي (عربي21)

الكتاب: "الإسلاميون ما بعد الربيع العربي" نهاية مشروع أم إرهاصات موجة جديدة؟
المؤلف: بلال التليدي
الطبعة الأولى 2019
ص: 256

بعد تراكم بحثي كثيف في دراسة الحركات الإسلامية، يستكمل الكاتب والباحث المغربي بلال التليدي مشروعه البحثي في دراسة تجارب الإسلاميين بإصدار جديد حول الإسلاميين ما بعد الربيع العربي، فبعد أن أصدر كتابه سنة 2011، حول الإسلاميين والربيع العربي، ورصد فيه مواقفهم، واستقرأ ثوابت عقلهم السياسي، واستعرض منهجية كل تجربة على حدة في تدبير تجربة الانتقال الديمقراطي، ودور  الإسلاميين فيها، ودرس محددات انتصارهم الانتخابي، ورصد الرؤية السياسية التي أدار بها الإسلاميون دفة الحكم، وبعد كتابه "مراجعات الإسلاميين" الذي حاول فيه تقديم أطروحة تفسيرية للأنماط الثلاثة من المراجعات التي عرفها الإسلاميون، الانتقال من العمل العسكري إلى العمل السلمي، والانتقال من العمل الثوري إلى الاندماج في العملية السياسية، وتحولات ما بعد المشاركة السياسية، راكم بلال التليدي خبرة أكاديمية مهمة في دراسة مستودعات التفكير الغربي، وشكل تعاطيها مع الإسلاميين، وتوقف عند أعطاب نموذجها المعرفي، وذلك في كتابه "الإسلاميون ومراكز البحث الأمريكية"، وكتابه "الإسلاميون ومركز راند ونقد مشاريع الاعتدال الأمريكي". 

بعد كل هذا الجهد البحثي، يأتي الإصدار الجديد للباحث "الإسلاميون ما بعد الربيع العربي: نهاية مشروع أن إرهاصات موجة جديدة؟" ليمارس فيه الباحث النقد على أربع أطروحات بحثية قاربت ظاهرة الإسلاميين، وانتهى بها المطاف إلى الانسداد: أطروحة "فشل الإسلام السياسي"، وأطروحة "استئصال الإسلام السياسي"، وأطروحة "تحولات الإسلام السياسي"، ثم أطروحة "ما بعد الإسلام السياسي".

في نقد أطروحة فشل الإسلام السياسي: 

يستعرض بلال التليدي أفكار كتاب أوليفيه روا "فشل الإسلام السياسي" بتفصيل دقيق، ويحاول استقراء أطروحته ومفاصلها الأساسية، ويرى أن المقولة الأساسية التي تعتمدها أطروحة الفشل، هي قصور الإسلاميين في إنتاج رؤية منسجمة للدولة والمؤسسات السياسية، وتضارب رؤاهم بهذا الخصوص وعجز مشروعهم السياسي على التحقق على أرض الواقع، وفشلهم عن إحداث تأثير في مسرح السياسة في الشرق الأوسط.

وبعد جهده في بسط توجهات هذه الأطروحة، يستعرض الأبعاد الثلاثة التي تقوم عليها، وهي البعد المفاهيمي، والبعد السوسيولوجي، والبعد السياسي، ويدخل في سجال نقدي قوي لكل بعد على حدة، فيرى أن أطروحة فشل الإسلام السياسي لم تعد مثيرة للاستقطاب الأكاديمي والبحثي، فقد حظيت بقدر من الانتشار والإقناع في فترة وجيزة، لكن سرعان ما تجاوزها الواقع السياسي، بل تجاوزها تموقع الإسلاميين من جديد وبروز دورهم السياسي، وتشكل أطروحة جديدة في حقل السياسية، تقر بمركزية دورهم في التحول السياسي.

 

أطروحة فشل الإسلام السياسي لعبت كثيرا على قياس الأحلام والتطلعات التي حملتها الحركة الإسلامية في شعاراتها إلى تحققاتها السياسية


ويرى التليدي أن أطروحة أوليفيه روا، وبعده كيبل، الموسومة بفشل الإسلام السياسي تعاني من أعطاب في البعد المفاهيمي والسوسيولوجي والسياسي.

فعلى مستوى المفاهيم، يرى أنهما كانا حريصين على تحديد مفهوم الإسلام السياسي، وبيان علاقته بالإسلام من حيث كونه دينا، أو من حيث كونه تجربة علمية وسياسية احتفظت بها التجربة التاريخية، ويعتبر أن هذا اللوذ للبعد المفهومي لا يخفي هدف الاثنين، فهما يقصدان تكريس منطق القطيعة في تفسير نشأة الحركة الإسلامية، ذلك أن أطروحة الامتداد (الحركة الإسلامية تمثل استئنافا للحركة الإصلاحية التي تمثلها الحركات الإصلاحية منذ الدعوة الإسلامية)، تعني فضلا عن استئناف دور الإسلام في الحياة العامة ووجود دورة جديدة للإسلام في مجاله العام، فإنها تعني عدم وجود فروق بين رؤية حركات الإسلام السياسي ورؤية المجتمعات العربية الإسلامية، وتعني أن هذه الحركة هي استجابة لمفعولات امتداد الإسلام الثقافي والحضاري، كما تعني نسف الطرح الذي حاول أوليفيه روا تأسيسه للعلاقة بين الإسلام والسياسة، ولدور الإسلام في السياسة.

 

الاستثنائية الإسلامية


ويعتبر التليدي أن الحرص على أن يوصف مشروع الإسلاميين على أنه إيديولوجيا سياسية، وليس قراءة أو فهما متجددا للإسلام، والحرص على تقديم اجتهادات الإسلاميين على أساس أنها شيء آخر مختلف ومفارق لاجتهادات العلماء، ولتجربة الأمة العلمية والسياسية، والحرص مرة أخرى على بيان التشابه الكثيف بين حركات الإسلام السياسي والحركات ذات المشروع الإيديولوجي السياسي مثل الحركات الماركسية، بقدر ما يضمر تخوفا كبيرا من دور الإسلام في السياسة، بقدر ما يعكس مركزية الرؤية العلمانية الغربية، التي لا تحاول أن تقرأ شيئا مختلفا، أو بتعبير حميد شادي لا تحاول أن تستوعب ظاهرة الاستثنائية الإسلامية، وعلاقة الإسلام بالسياسة التي تأخذ هذا الطابع.

 

إقرأ أيضا: فهم الإسلام السياسي لفرنسوا بورغا.. الغرب حين يجني ما زرع

ويسجل التليدي ملاحظة منهجية مثيرة بهذا الشأن، فبقدر ما حاول أوليفيه روا إثبات العلاقة بين المدرسة الإخوانية والمدرسة الهندية، وبحث عن الجسر الذي على أساسه تمت علمية الاتصال، فالتمس الندوي الذي ترجم أعمال المودودي للغة العربية، وسيد قطب الذي أعطى زخما كبيرا لكتابات المودودي ومفاهيمه، بقدر ما يمتنع عن الاعتراف بالروابط الموجودة بين المدرسة الإصلاحية التي أسسها البنا وبين التراكم الإصلاحي الذي مثلته مدرسة "المنار" الإصلاحية. 

ويعترف التليدي أن بعض ملاحظات روا كانت دقيقة بشأن قصور رؤية الإسلاميين للدولة والمؤسسات السياسية، لكن ذلك ـ يضيف التليدي ـ لا يقوم دليلا على فشلهم وانسداد مستقبلهم، فتجارب الاندماج السياسي لعدد من الأحزاب الدينية الأوروبية، تبين محدودية رؤيتهم في الاشتباك الأول بعالم السياسة، لكنها في المقابل، كما بين ذلك ناثان براون في دراساته العميقة للأحزاب المسيحية الديمقراطية، تعكس تطورا كبيرا في رؤيتهم وتصورهم لممارسة السياسة من موقع الدولة، بل إن ناثان براون سجل جهود الدولة في دفع هذه التيارات ذات الخلفية الدينية العميقة للتطور والتحول حتى تندمج في النسق.

 

أطروحة فشل الإسلام السياسي لم تعد مثيرة للاستقطاب الأكاديمي والبحثي، فقد حظيت بقدر من الانتشار والإقناع في فترة وجيزة، لكن سرعان ما تجاوزها الواقع السياسي،

ويستعين التليدي بالتراكم الذي حققته أطروحة التحولات في تتبعها ورصدها لسلوك الإسلاميين وتحولاتهم، لتأكيد تطور كسبهم الفكري والسياسي، مستندا في ذلك على حجة قوية تنطلق من قاعدة ارتفاع عائق القصور المفاهيمي بالاحتكاك بعالم السياسة، وبشكل خاص بتجربة الاندماج ورسوخها. كما يستند لأدبيات يورغن هابرماس في دراسته لتجربة العلاقة بين الدين والدولة في أمريكا، والخلاصات التي انتهى إليها بشأن إمكان أن يلعب الدين دورا في المجال العام، والضوابط التي تجعل ذلك ليس فقط ممكنا بل ومفيدا لتطور الديمقراطية ذاتها، واقتراحه صوغ المطالب ذات الخلفية الدينية ضمن قوانين تنتمي لمنطق السياسات العمومية، وهو ما أفادت منه حركات الإسلام السياسي، متعاملة مع ظاهرة الخمور بمنطق تضريبي (رفع نسبة الضريبة)، أو بمنطق حماية الناشئة والقاصرين، وهو منطق ينسجم تماما مع منطق السياسات العمومية، بل ينسجم أيضا مع المنظومة الحقوقية.

أما على مستوى عطب السوسيولوجيا، فيرى التليدي أن كل من أوليفيه روا وكيبل قدما تفسيرا إيديولوجيا مغلفا بسوسيولوجيا للتركيبة الاجتماعية للإسلاميين. فأوليفيه روا، يحاول أن يجعل من أطروحة الإحباط مستنده في تفسير تركيبة الإسلاميين، فالمنحدرون من الأرياف الذين التحقوا بالمدينة، ونخب الأرياف المحبطون من عدم اندماجهم في الوظيفة العمومية، صاروا حسب روا يؤثثون الحاضنة الاجتماعية للإسلاميين، أما كيبل، فأطروحته تطورت، وصار يتحدث عن تنوع الحاضنة الاجتماعية، وأنها تضم في تركيبتها الشباب المحرومين، والبرجوازية المتدينة، والمثقفين الإسلاميين، وأن إخفاق الإسلاميين ونهاية مستقبلهم، ستتحدد بتفكك التحالف الظرفي بين هذه المكونات الثلاثة.

 

طارئون على المجتمع


ويرى التليدي أن أطروحة فشل الإسلاميين تحاول أن تربط الطبيعة السوسيولوجية للإسلاميين وتوسع قاعدتهم بمعامل الإحباط أو الحرمان، أي أنها تسعى إلى تأكيد نفس الخلاصة المفاهيمية التي انتهى إليها روا، حين حاول تأكيد منطق القطيعة بين الإسلاميين وبين التجربة التاريخية والعلمية للإسلام، لينتهي بعد ذلك كله إلى أن الإسلاميين، طارئون على المجتمع المسلم، وتركيبتهم الاجتماعية أيضا غير طبيعية، وما يفسر أطروحتهم ومشروعهم هو هذه الصفة الطارئة في التاريخ، والثقافة، وأيضا في الانتماء الاجتماعي.

 

مثير للمفارقة


والمثير للمفارقة، حسب التليدي أن أوليفيه روا وهو يتحول من أطروحته القديمة "فشل الإسلام السياسي" إلى أطروحته الجديدة " ما بعد الإسلام السياسي"، اعتبر أن المستقبل للجيل الجديد الذي يمثل الحركات الاجتماعية البديلة عن الإسلاميين، لكنه، لم يبحث في تركيبته الاجتماعية، وما إذا كان يتقاطع مع نفس التركيبة الاجتماعية التي اقترحها للإسلاميين، فلم يتحدث عن التهميش وعن الحرمان، مع أن العمق الاحتجاجي لهذا الجيل هو مطلبي، وأن نفس الدواعي التي جعلت روا يحكم على الإسلاميين بالفشل، جعلته يحكم بها على الجيل الجديد بمعانقة المستقبل، فقط لأنها تبدو في عينه متدينة في العمق، وعلمانية في المضمون.
 
أما على مستوى عطب التحقق، فيرى التليدي أن أطروحة فشل الإسلام السياسي لعبت كثيرا على قياس الأحلام والتطلعات التي حملتها الحركة الإسلامية في شعاراتها إلى تحققاتها السياسية، فانطلقت أول ما انطلقت من التجربة الأفغانية، ثم السودانية ثم الجزائرية، ثم  توقفت على واقع  القمع السلطوي للحركات الإسلامية في الشرق الأوسط، وانتهت بخلاصة أن نفس الدولة التي كانت قائمة في السياق الشرق الأوسطي ظلت قائمة، وأن الإسلاميين لم ينجحوا في زحزحتها، ولم يفلحوا في لعب أي دور أو تحقيق أي تأثير في مسرح السياسة بالشرق الأوسط.

ويتعقب التليدي هذه النظرة، ويرى أن وضع الإسلاميين تغير، وتم تجاوز الرتابة التي طبعت حالهم من مرحلة الأربعينيات إلى الثمانينيات، وظهر الدور السياسي للإسلاميين، وصار الحديث في أروقة الصناعة البحثية عن فاعل مركزي في العملية لسياسية، بل تفتقت أطروحة جديدة في التعاطي مع الإسلاميين، تنطلق من مسلمة "مركزية الإسلاميين في التحول السياسي"، وكونهم يشكلون القوة السياسية الأولى المعارضة، وأن الاستقرار وتأمين مصالح القوى الغربية يرتبط بدعم تجربة اندماجهم في العملية السياسية.

 

إقرأ أيضا: الاستثنائية الإسلامية ودور الإسلام في صوغ المجال العام

التعليقات (0)