أفكَار

إسلاميو ليبيا.. مزيج من الفكر الوطني وإرث التصوف والإخوان

الكاتب والباحث الليبي جمال أبو زيد يؤكد أن إخوان مصر كان لهم تأثير بارز على إسلاميي ليبيا (عربي21)
الكاتب والباحث الليبي جمال أبو زيد يؤكد أن إخوان مصر كان لهم تأثير بارز على إسلاميي ليبيا (عربي21)

لم يأخذ موضوع تحالفات الإسلاميين السياسية حظّه من البحث والدراسة، وذلك لأسباب عديدة منها طول أمد العزلة السياسية التي عاشها الإسلاميون بسبب تحالفات النظم الحاكمة مع بعض القوى السياسية، واستثناء الإسلاميين من هذه التحالفات، بناء على قواسم أيدولوجية مشتركة بين الأنظمة ونلك التيارات.

لكن، مع ربيع الشعوب العربية، ومع تصدر الحركات الإسلامية للعمليات الانتخابية في أكثر من قطر عربي، نسج الإسلاميون تحالفات مختلفة مع عدد من القوى السياسية داخل مربع الحكم، وترتب عن هذه التحالفات صياغة واقع سياسي موضوعي مختلف، ما جعل هذا الموضوع  يستدعي تأطيرا نظريا على قاعدة رصد تحليلي لواقع هذه التحالفات: دواعيها وأسسها وصيغها وتوافقاتها وتوتراتها وصيغ تدبير الخلاف داخلها، وأدوارها ووظائفها، وتجاربها وحصيلتها بما في ذلك نجاحاتها وإخفاقاتها.

يشارك في هذا الملف الأول من نوعه في وسائل الإعلام العربية نخبة من السياسيين والمفكرين والإعلاميين العرب، بتقارير وآراء تقييمية لنهج الحركات الإسلامية على المستوى السياسي، ولأدائها في الحكم كما في المعارضة.

اليوم يقدم الكاتب والباحث الليبي جمال أبو زيد عرضا لنشأة ومسارات الحركة الإسلامية في ليبيا، منذ أيام الحركة الوطنية في مواجهة الاستعمار الإيطالي، وصولا إلى ما بعد الثورة المعاصرة التي أطاحت بحكم الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي مرورا بمرحلتي الملكية والجماهيرية.

إسلاميو ليبيا.. مزيج من الفكر الوطني والتصوف والإخوان 


لزاما على كل متابع يودّ الإحاطة بظاهرة الإسلام السياسي في ليبيا أو سبر أغوارها أن يعود قليلا للوراء لمعرفة الظروف التي تمخضت عنها تلك الظاهرة والأسباب التي أدّت لظهورها. 

ظهر مصطلح "الإسلام السياسي" في مصر بالتزامن مع تأسيس جماعة الأخوان المسلمين على يد حسن البنا عام 1928، إثر سقوط الخلافة العثمانية، التي استمرت لستة قرون تقريبا، على يد مصطفى كمال أتاتورك. تبنت الجماعة الوليدة منهج إعادة الخلافة الإسلامية، التي لم يمض على سقوطها سوى أربع سنوات، كما دعت للوحدة الإسلامية تحت راية النظام الإسلامي الشامل. وقد استقطبت دعوة الحركة كثيرا من النُّخب المثقفة والمفكرين في مصر وخارجها من الدول العربية المستحدثة، والكيانات الجديدة التي أنشئت بناء على إتفاقية سايكس- بيكو التي رأت النور عام 1916. 

 

الليبيون متجانسون دينيا فهم مسلمون بالغالب، وسنة وأتباع للمذهب المالكي، حتى وإن نزع بعضهم نزعة صوفية


اشتغلت جماعة الأخوان المسلمين إلى الجانب المجالين الدعوي والسياسي بالجانب الاجتماعي، كما أن الجماعة سارعت إلى المشاركة في حرب "48" حال اندلاعها بالتزامن مع الإعلان عن قيام ما يسمى بدولة "إسرائيل" على أرض فلسطين عام 1948. 

وما إن وضعت الحرب أوزارها حتى وجد الإخوان المسلمون أنفسهم خارج اللعبة السياسية، إذ سارع محمود النقراشي، رئيس وزراء مصر، بإصدار قرار يقضي بحلّ الجماعة ومنعها من مزاولة العمل السياسي في مصر. وقد دفع النقراشي حياته ثمنا لذلك القرار، إذ لقي حتفه على يد أحد أفراد الجماعة في 28 كانون أول (ديسمبر) من السنة نفسها. 

ولعل كثيرا من القراء، سيسأل عن السبب في الحديث عن تاريخ إخوان مصر، بينما هدف هذا المقال هو عرض تجربة الحركة الإسلامية في ليبيا، لكن مبرره سيزول بمجرد معرفة السبب.
 
سارع إخوان مصر إلى التبرؤ من تلك الجريمة والتنصل من تبعاتها، وأصدر البنا بيانه الشهير، الذي قال فيه بأن قاتلي النقراشي "ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين"، لكن السلطات المصرية لم تأبه لنفي الجماعة مسؤوليتها عن الجريمة واستنكارها لها، فقامت بحملة اعتقالات واسعة في صفوفها، مما دفع ببعض قادة الجماعة إلى الفرار إلى ليبيا. 

اتّخذَ الفارون من جحيم الاعتقالات الأمنية في مصر، من قادة الإخوان وكوادرها، من المنطقة الشرقية في ليبيا مكانا لإقامتهم، واستمروا في نشر أفكارهم السياسية والدعوية في ليبيا. وقد لاقت تلك الأفكار رواجا لدى بعض الطلاب والمثقفين الليبيين، فتبنوها وأخذوا على عاتقهم نشرها بين أفراد المجتمع الليبي.

 

اقرأ أيضا: جماعة الإخوان الليبية

وقد ساعد الإخوان في نشر أفكارهم في ليبيا، وجود بيئة دينية مناسبة، فالليبيون متجانسون دينيا فهم مسلمون بالغالب، وسنة وأتباع للمذهب المالكي، حتى وإن نزع بعضهم نزعة صوفية. وقد كان التدين في شكله الصوفي أحد أهم الدعائم الرئيسية في مواجهة الاستعمار الإيطالي، ويعد عمر المختار في صورته الدينية والنضالية النموذج الأبرز للتدين الليبي بعيدا عن إيديولوجيات التحزب. 

 

استقلال ليبيا
 
في 24 كانون أول (ديسمبر) 1951، نالت ليبيا استقلالها وأعلنت عن قيام المملكة الليبية بنظام فيدرالي يضم ثلاثة ولايات (طرابلس، برقة، فزان)، بقيادة الملك إدريس السنوسي، الذي كان ينتمي إلى الحركة السنوسية الصوفية، وهي حركة إصلاحية ذات طابع إسلامي، تعود في جذورها إلى سلالة الأدارسة الذين حكموا المغرب في القرن التاسع عشر، وكانت قد تأسست أولا في مكة المكرمة عام 1837 قبل أن تتأسس في ليبيا عام 1843 في مدينة البيضاء شرق البلاد.

ضاعف الأخوان من جهدهم في الترويج لأفكارهم كحركة إسلامية بعد إعلان الاستقلال، مستفيدين من مناخ التدين الفطري لدى الليبيين، وكذلك من نخوة الانتصار بعد أربعة عقود من الجهاد ضد الاستعمار الإيطالي والبريطاني والفرنسي، وبعدم ممانعة من الملك إدريس السنوسي.

لكن هذه الأجواء لم تدم طويلا، إذ أصدر ملك ليبيا مرسوما حضر فيه عمل الحركة عام 1954، عقب عملية اغتيال تعرض لها ناظر الخاصية الملكية إبراهيم الشلحي المقرب من الملك، فعاد الجماعة إلى العمل في الظل حتى مجيء انقلاب الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي مطلع أيلول (سبتمبر) 1969.

تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا 

أعلنت جماعة الأخوان المسلمين عام 1968، عن تأسيس التنظيم الإقليمي للجماعة في ليبيا رسميا. بيد أن الحركة منيت بانتكاسة أخرى جراء قيام إنقلاب عسكري استولى معمر القذافي إثره على الحكم في ليبيا. لم يمهل القذافي الجماعة طويلا، إذ سارع لحضرها أسوة بجميع الأحزاب السياسية والحركات الدينية في ليبيا بإعلانه ما يسمى الثورة الثقافية بعد أربع سنوات من الانقلاب. لم تتوقف إثر ذلك حملات الأعتقال والتنكيل بالحركات الإسلامية والسياسية. لقد نجح النظام الجديد بتقليم أظافر جميع الحركات السياسية والإسلامية وسدّ أمامها السبل كافة للعمل السياسي في ليبيا، مما حدا بكثير من العاملين في الحقل السياسي والدعوي إلى مغادرة البلاد. 

 

اقرأ أيضا: الإخوان المسلمون والمسؤولية عما يقع في البلاد

وصل الاستبداد والقمع ضد الحركات الإسلامية إلى ذروته في الثمانينيات. وعلى الرغم من القمع والتنكيل، إلاّ أن بعض قادة الحركات الإسلامية ظلت تعمل سرّا في ذلك الجو الموبوء ولم تتوقف عن العمل الدعوي والاجتماعي تحت السطح. وفي تلك الظروف المكفهرة انشقت مجموعة من الإخوان المسلمين احتجاجا على طريقة عمل الحركة وأنشأت ما يسمى بـ "التجمع الإسلامي". 

على كلّ، لم تتوقف القبضة الحديدية لنظام القذافي ولا الحملات الأمنية في ليبيا ضد جميع الحركات الإسلامية. كان القذافي عادلا في توزيع القمع والاستبداد بين الحركات الإسلامية، إذ لم يكن نظامه يميز بين تلك الجماعات، إذ يصنفها جميعها كأعداء للثورة "ثورة الفاتح من سبتمبر" ويصفها بالرجعية والعمالة، ولذلك لم تسلم جماعة ولا حركة من بطشه حتى حركة التبليغ والدعوة، المعروفة بعزوفها عن السياسة، تعرض زعيمها، محمد أبو سدرة فضلا عن أتباعه لمضايقات كبيرة. لم يسمح القذافي في تلك الظروف القمعية، إلا للحركة الصوفية بمزاولة طقوسها التعبدية بعيدا عن السياسية. 

 

اقرأ أيضا: التايمز: كيف حذر القذافي توني بلير من صعود الإسلاميين؟

رفع القذافي شعار "من تحزّب خان" وبموجبه قضى على جميع الجماعات والتيارات الدينية والسياسية في البلاد، وشكّل ما يُسمى بـ "حركة اللجان الثورية" الذي أعطاها صلاحيات واسعة بقتل وسحل المعارضين لحكمه في الجامعات والكليات والطرق العامة، في الوقت ذاته جعل القذافي يبحث لنفسه عن الولاءات من التجمعات القبلية والجهوية بالسيطرة على زعماء القبائل ووجهاء المدن.

 

*كاتب وباحث ليبي

التعليقات (0)