أفكَار

كوت العمارة.. دراما القيم الخلاقة.. أين العرب منها؟

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، شارك في العرض التعريفي لمسلسل ملحمة "كوت العمارة" (الأناضول)
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، شارك في العرض التعريفي لمسلسل ملحمة "كوت العمارة" (الأناضول)

بعد نحو 70 ساعة من الدراما المبدعة المبهرة انتهى يوم الخميس 31 كانون ثاني (يناير) الماضي المسلسل التركي "كوت العمارة" أو "الظفر المبارك"، الذي بثته قناة "تي آر تي الأولى" التركية المملوكة للدولة، بحلقة مطولة من أكثر من 3 ساعات عن ملحمة بطولية نادرة تصور انتصار الجيش العثماني على الجيش البريطاني في مدينة العمارة جنوب العراق، بعد أشهر من الحصار والعمليات الخاصة. 

وقد بدأ عرض أول حلقة من المسلسل في 18 كانون ثاني (يناير) 2018، وهو عمل درامي ضخم من تأليف محمد بوزداغ وإخراج كمال إيدين، يستعيد مسار الجهد والتضحيات التي أدت إلى واحد من أبرز انتصارات الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ضد بريطانيا.

 

الانتصارات والأمجاد وتحقيق الأماني لا تأتي مصادفة ولا عبثا، ولكن تأتي بالكد والتعب والعرق وبذل الجهد حتى آخره.

يصور المسلسل في حلقاته الـ33 جهود الجيش العثماني الجبارة وتضحيات مقاتليه الكبرى التي مكنت العثمانيين، آخر المطاف، من فرض الاستسلام المذل على الجيش البريطاني، الذي تمت محاصرته في مدينة العمارة لأكثر من 140 يوما، بعد أن نفد القوت لديه وعجزت القوات الإنجليزية في البصرة عن نجدته رغم كل المحاولات لإنقاذه من الحصار، ورغم مساعي قائد ذلك الجيش لشراء سلامته وسلامة قواته بمليوني جنيه إسترليني (نحو 150 مليون جنيه بعملة اليوم).. لكن القوات الخاصة العثمانية العاملة داخل المدينة والقوات المحاصرة من الخارج اضطرته للاستسلام الذليل لإنهاء المعركة.

إبداع فني وقوة سيناريو

ما ميز مسلسل "كوت العمارة" وشد المشاهدين له أتراكا وعربا وجعل مواقع الإنترنت العربية تتسابق لترجمته وعرضه على مشاهديها بعد سويعات معدودة من بثه على القناة التركية، قوة الحبكة الدرامية وقوة التشويق ومتانة السيناريو الحواري، فضلا عن قيم البطولة والفداء والتضحية، وحضور القيم الدينية من تقوى وصبر وتفكر في وحدة المسلمين والعمل على بعث أمجادهم، وعرضها مبثوثة في مختلف الحلقات، بطرق مشوقة تشد المشاهد ولا تشعره بالملل، بل بالعكس تجعله في حالة تحفز وانتظار، وهو يرى أبطال المسلسل يجتازون الصعوبة وراء الأخرى ويبذلون جهدهم حتى آخر قطرة عرق حتى يحققوا ما يعملون من أجله..

فالانتصارات والأمجاد وتحقيق الأماني لا تأتي مصادفة ولا عبثا، ولكن تأتي بالكد والتعب والعرق وبذل الجهد حتى آخره.. وذلك بعد بذل الجهد العقلي الجبار في إحباط خطط العدو، ومفاجأته باستمرار بما لا يتوقع ولا ينتظر من مكائد ومفاجآت حربية.

 



وما يزيد من أهمية العمل قوة الصورة وعبقرية الإخراج وجمالية المناظر الطبيعية والقدرة على الوصول إلى عمق المشاعر وإيصالها للمشاهد حية نابضة بالحياة، وكأن المتفرج شريك في العمل لا مجرد متابع بارد له.. وليس هذا غريبا على المدرسة التركية في الإخراج الدرامي، فتركيا بفضل عبقرية مخرجيها وصناع الدراما لديها باتت تحتل اليوم المرتبة الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية (هوليوود) في قوة إنتاجاتها الدرامية، متجاوزة بوليوود الهندية.. حتى إن مسلسل "قيامة أرطغرل" قد بلغ عدد مشاهديه أكثر من 3 مليارات إنسان في مختلف قارات البسيطة.

وحدة الأمة وتعاون مكوناتها

على خلاف الإنتاجات الشامية التي ركزت على صراع العرب ضد الأتراك، فإن ما ميز مسلسل "كوت العمارة" أو "النصر المظفر" حرص المؤلف على التعاطي مع مشكلة الشعوب والأقليات والطوائف المكونة للدولة العثمانية، بشكل وحدوي، فالإسلام جامع بين العرب والترك وحتى مع الهنود، الذين جاؤوا يقاتلون في صفوف الجيش البريطاني. وهو جامع للسنة والشيعة. فأبرز بطلين في المسلسل محمد بن خسرف والقائد علي، وهما تركيان يتزوجان من فتاتين عربيتين، وتنشأ بين كل واحد منهما والفتاة العربية قصة حب وقصة مقاومة وتضحية وفداء في مواجهة الإنجليز.
 
فمحمد يتعرف على زينب الطبيبة البدوية ويتزوج منها أثناء حرب الدفاع عن مدينة كوت العمارة ضد الهجوم الإنجليزي ويفقد ذاكرته بسبب ما أصابه في غزو المدينة التي مات فيها والده، ويقضي محمد الموسم الثاني من المسلسل كله تقريبا في محاولة لاستعادة ذاكرته وتوظيفه من الجيش البريطاني عبر إيهامه بأن أصله أرمني وأن الأتراك قتلوا عائلته. ويتورط محمد في تسريب معلومات عن الجيش العثماني، وكاد يقتل قائد ذلك الجيش لصالح البريطانيين، بعد أن نجح البريطانيون في تسريبه جاسوسا لهم، ثم يستعيد ذاكرته ويخدع البريطانيين الذين يقتلون زوجته وينتقم منهم في معركة دامية داخل المدينة تقوم بها القوات الخاصة العثمانية.

 

ما ميز مسلسل "كوت العمارة" أو "النصر المظفر" حرص المؤلف على التعاطي مع مشكلة الشعوب والأقليات والطوائف المكونة للدولة العثمانية، بشكل وحدوي


وكذلك الحال بالنسبة للقائد علي، رئيس مجموعة القوات الخاصة التي نجحت في حفر أنفاق أو مدينة تحت المدينة، عاش فيها المقاومون زمنا طويلا ونجحوا من خلالها في حرق وتخريب قوت الجيش البريطاني وتفجير مخازن أسلحته، وتنفيذ عمليات خاصة كارثية ضد الجيش البريطاني، فقد تزوج في آخر حلقة من المسلسل من فاطمة الفتاة العربية، التي عادت إلى المدينة من لبنان، حيث درست الصحافة وانضمت للقوات الخاصة في العمارة.

وبالنسبة للهنود المسلمين في الجيش البريطاني فقد صور المسلسل القائد علي قائد القوات الخاصة العثمانية وكيف نجح في إقناعهم بالابتعاد عن الجيش البريطاني، وكيف تعاونوا معه لنصرة الإسلام في مواجهة العنصرية البريطانية البيضاء، وكيف انضموا آخر المطاف للقتال في صفوف العثمانيين. كما أتاح لبعض العرب الذين تعاونوا مع القوات البريطانية، ضمن حلم تكوين الدولة العربية الكبرى، من العودة للصفوف الإسلامية وموت بعضهم شهداء في سبيل الله وتحرير الأوطان. وبيّن تلاعب الإنجليز بالناس من خلال افتعال الفتن الطائفية بين الشيعة والسنة، وكيف نجحت القوات العثمانية الخاصة في كشف ألاعيب البريطانيين وفضحها.

أين العرب من تاريخهم المجيد؟

للعرب تاريخ عظيم لا يضاهى، فهم الذين نشروا الإسلام في أرجاء المعمورة، وأقاموا دولا عظيمة حكمت شطرا كبيرا من العالم القديم. لكنه تاريخ مهمل لا يستنطق دراميا. في المقابل فإن ما يلفت النظر أن الأتراك نجحوا بمختلف مدارسهم إسلامية وعلمانية في استعادة تاريخهم واستنطاقه بهواجس وهموم معاصرة. ونجحوا في إلقاء أضواء على بطولات أجدادهم، بما يبعث الفخر في الشخصية التركية ويوحدها خلف دولة صاعدة في الاقتصاد والسياسة والصناعة، بما فيها صناعة الدراما.. 

وإذا أخذنا مسلسل كوت العمارة مثلا فهو مسلسل ألقى الضوء على انتصار باهر حصل في غمرة تراجع كبير للدولة العثمانية، انتهى بموتها. ولكن الشعوب لا تدمن هزائمها بل تحيا بإحياء بطولاتها وأمجادها.. فأين نحن العرب من ذلك؟

لا تنقصنا الإمكانيات المالية ولا الفنية ولا التقنية نحن العرب وإنما ينقصنا الوعي والمشروع.. للأتراك مشروعهم، وهو مشروع يقوم على تقوية الدولة التركية ومد نفوذها المادي والمعنوي في محيطها القريب والبعيد، واستعادة دورها العالمي الكبير، من خلال إشباع المواطن التركي بأمجاد أبطاله وأجداده.. لكننا نحن العرب يراد لنا أن نغرق في واحد من خيارين: إما التفاهة والجنس والتهريج والاهتمامات المنحطة، أو جلد الذات وإحياء الهزائم والمصائب وكأننا نحن الشعب الوحيد في العالم الذي تعرض لنكبات وهزائم ونكسات..

 

سلسل ألقى الضوء على انتصار باهر حصل في غمرة تراجع كبير للدولة العثمانية، انتهى بموتها. ولكن الشعوب لا تدمن هزائمها بل تحيى بإحياء بطولاتها وأمجادها


فبدلا من إحياء بطولات تاريخنا وهي كثيرة (عكفت الدراما العربية منذ نهاية السبعينيات تقريبا على إحياء الماضي العربي ببطولاته وأبطاله) فإننا نكاد ندمن على إحياء هزائمنا. فهزيمة 67 مثلا تكاد مؤسسات الإعلام والرأي المختلفة عندنا تحييها وكأنها عيد ومناسبة لتبخيس الذات وجلدها وتحقيرها. ولو عمل الأتراك مثلنا ما رأيناهم يركزون على بطولة كبيرة جاءت في زمن انحدار. ولكنهم يعرفون أن إحياء الهزائم يدمر الوحدة الوطنية والوشائج الجامعة بين الناس، وإحياء البطولات يوحد الناس ويصنع لهم حلما وأملا وأفقا.

سنظل نحن العرب رغم أموالنا الكثيرة وكفاءاتنا العديدة غارقين في التوافه من جهة وأرضا منخفضة من جهة أخرى، تتلقى التأثير ولا تأثير لها في محيطها القريب والبعيد، حتى يكون لنا مشروع يبلغ رسالتنا للعالم، باعتبارنا نحن العرب مادة الإسلام ولحمته، كما يقول العلامة عبد الرحمن بن خلدون.. وحين يكون لنا مشروعنا ستكون لنا دراما مبدعة تستلهم التاريخ وأمجاده لصناعة أمجاد قادمة.. وساعتها سيكون لنا شأن في العالم، كما كان لأجدادنا.

 

اقرأ أيضا: مسلسل تركي جديد يمجّد قتال العرب والأتراك ضد الإنجليز (شاهد)

التعليقات (1)
Rayyasina
السبت، 07-05-2022 12:33 م
ابدعت في عمق التحليل ..