قضايا وآراء

مدن الترك في عيون العرب

مسعود حامد
1300x600
1300x600
مثلت المدن التركية - ولا تزال - ملهما للشعراء والأدباء العرب الذين زاروها في العصر الحديث، فأبدعوا نصوصا في جمالها، ومن هؤلاء عبد الوهاب عزام وعماد الدين خليل وقدرية حسين. وأدب الرحلات عريق وثابت لدى العرب منذ القدم، بدأ على يد شعراء القبائل في العصر الجاهلي، ثم نما بقوة في القرن الثالث الهجري في كتب التاريخ والأقاليم، مثل ما دوّنه التاجر سليمان السيرافي في رحلته إلى حصون جبال القوقاز عام 227هـ، بتكليف من الخليفة العباسي الواثق، للبحث عن سدّ يأجوج ومأجوج، وغير ذلك كثير، بيد أن تلك المصنفات لم تكن منطوية على فن خاص بها، بل ملفوفة بين ثنايا عدةٍ في كتب الأقاليم والتاريخ وغيرها.

لكن في العصر الحديث استقل هذا الأدب بشكله الفني على النحو الذي تجده منذ
"تخليص الإبريز في تلخيص باريز" لرفاعة رافع الطهطاوي (ت 1873م)، وأحمد فارس الشدياق (ت 1887م) بكتابه: "الواسطة في أحوال مالطة". وفي هذا السياق نقدم كتاب "رحلات" لمؤلفنا الذي نعتد به ونعتز، عبد الوهاب عزّام، الذي كرس مشروعه للتواصل العربي الشرقي، ورائد التواصل الادبي بين العرب والأتراك. وصور عزام بعين الشاعر مدن تركيا ومساجدها ومتاحفها وآثارها الخالدة، بأسلوب فني ممتع يجمع بين أصالة المفردات وحصافتها وسهولة سيولتها على اللسان، مخلفا نموذجا فنيا راقيا لأدب الرحلات، وقد اعتمدنا على الكتاب الذي نشرته على النسخة التي طبعتها مطبعة الرسالة في القاهرة عام 1951.

مؤلف "رحلات" عبد الوهاب عزام أديب ومترجم ومفكر، كرّس حياته لنصرة مبادئه ولربط أوصال أمته.. في الحقل الجامعي هو أول من عمل على إنشاء الدراسات الشرقية في مصر، وأول من درّس الفارسية والتركية وآدابها في جامعاتها، كما عمل في الحقل الدبلوماسي وحقل التأليف والترجمة، ليكون جسرا معرفيا للبلدان الإسلامية، وكان هدفه في كل ذلك هو التوجه الحضاري.

ويذكر له التاريخ موقفه من قضية استبدال الحروف العربية باللاتينية التي دعا إليها "عبد العزيز فهمي"، وقد خشي "عزام" أن تلقى دعوته قبولا لدى العرب، وكيف لا يخشى وهو يعلم بما عاناه الجيل الجديد في تركيا من جراء هذه الخطوة التي قام بها؟!

ومن المقتطفات التي لا تغني عن إمعان النظر في الكتاب، قوله واصفا متاحف طوب قبو سراي، أو متحف الأوقاف: "بناء على مقربة من جامع السلطان سليمان، كان مدرسة من المدارس القديمة. دخلنا قبيل الظهر فإذا فناء مربع فيه بستان، وحوله حجرات ذات قباب أمامها أروقة، دخلنا حجرة فيها طائفة من المصاحف والكتب العربية والفارسية والتركية، فيها بدائع الفنون: الكتابة والتذهيب والتحلية والتجليد، وبين المصاحف مصاحف كوفية قديمة، منها قطعة يقال إن كاتبها عمر رضى الله عنه، ومصحف كتبه عثمان، في زعم الزاعم. قلبنا البصر الحائر بين مئة مصحف أو أكثر، كلها من بدائع الآثار، ورأينا في هذه الحجرة منشورات "فرمانات" كثيرة افتنّ الكاتبون في خطها ورسم طُغرائها على أشكال مختلفة عجيبة، منها منشورات للسلطان سليمان، ولعثمان الثالث ومحمود، ورأينا في الحجرة دُويا ومقلمات، منها دواة للوزير أسعد مخلص باشا، أحد الوزراء في عهد محمود الثاني وعبد المجيد. وكان عالما شاعرا، ورأينا في حجرة أخرى، يقال أنها كانت مطعم الطلاب، سجاجيد قديمة فيها متعة ومشغلة لعشاق السجاجيد، وفي حجرة ثالثة كثير من مخلفات السلاطين: في وسطها صندوق من الزجاج فيه أوعية زجاجية في أحدها شعرات للرسول صلوات الله عليه ملفوفة على ماسة، وعلى الجدار صورة السلطان محمود مصورة على المينا كتب فوقها وتحتها البيتان:

سلطان سلاطين جهان محمود خان ... صورتده ملك سيرتي ظل يزدان

ديدارينيهمرآت نكاه آشفته ... تصويرهمايوننه إنسان حيران".

وعن جوامع إسطنبول يقول: "حسبي أن أقول ما قلت حينما زرت إسطنبول المرّة الأولى سنة 1348 هجريا. لو أن المدينة بنيت من أجل هذه المساجد لم يكن أمرا نكرا. ومن الفكاهة أني لهجت بوصف مساجد إسطنبول حينئذ، حتى رأيت في المنام من يقول: لو أن إنسانا مسافرا على حمار من مصر إلى إسطنبول ليرى مساجدها لم يكن ملوما. جلست أقلب الطرف بين بروسة الممتدة على السفح ماضيها وحاضرها وبين السهل الجميل، وأردد الفكر بين الماضي والحال. وطاف بي طائف من الشعر فكتبت هذه الأبيات ذكرا لإحدى البنيات.

على مرقب في الطود فوق بروسة جلست يجول الطرف والفكر يشرد

ترد لي الذكرى سنين قد انقضت وعندي من التاريخ غيب ومشهد

على السفح أسطار وفي السهل مثلهاتطالع في العين ما ليس ينفد

يلوح من الأطيار في الطود منزل ويسمو مع الأشجار في اللوح مسجد

خطوط لها في العين مرآى ورونق وفي نغمات الريح لفظ مغرد

وللنفس، بعد الخط واللفظ، مقصد معان بأعماق الضمير تردد

تراءى لي السهل الفسيح جميعه مصلى، وللأشجار فيه تعبّد

تقيم له الأجيال جدران معبد له القبة الزرقاء سقف مؤبد

يعارض عيني فيه أنّى توجهت خيالك يدنو في الفضاء ويبعد

يلوح كما لاحت تماثيل مريم تزين بالإبداع فيهن معبد

فلولا جلال لا يحد وبهجة تخيلت أني في الكنيسة أقعد".

وعن أنقرة، كتب عبد الوهاب عزام نظم يقول:
"قم ناد أنقرة وقل يهنيك ملك أقمت على سيوف بنيك

أعطيته ذود اللباة عن الشرى فأخذته حرّا بغير شريك

تُبنى الممالك من صخور أهلها والقوم من أخلاقهم نحتوك

فلو أن أخلاق الرجال تصوّرت لرأيت صخرتها أساسا فيك

كتاب الرحلات لعبد الوهاب عزام تحفة أدبية يصور فيها المتاحف والمساجد والآثار والعادات والتقاليد لموجودة في إسطنبول أنقرة وأدرنة وقونيا وبروسة ومدن أخرى، وطوال الوقت يقارن بين ما يرى وما شاهده في بلاد العرب، موضحا نقاط الاتفاق، وساردا تواريخ ما يرى وموثقا ذلك بشعره وأشعار الآخرين.

التعليقات (1)
أبو حلموس
الإثنين، 25-02-2019 06:58 م
مقالاتك اكتشاف جميل . ماشاء الله تبارك الله