كتاب عربي 21

فجوة التَقبّل.. النقد الذاتي (50)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600

كتبت سلسلة من المقالات حول ممارسات النقد الذاتي للتجربة الإخوانية، والتي اتخذت أشكالا كثيرة من أبواب النقد في هذا المقام، بعضها تعرض لفجوة الأجيال، وتعرضت أخرى لفجوة التوثيق، وتعرضت مقالات لفجوات الحكم والمشاركة والسياسة. وأيا كانت المعالجة لتلك الفجوات المختلفة وتلك المقترحات التي أوردتها أثناء الكتابة عن هذه القضايا المختلفة، فقد أحسست من هذه التعليقات الكثيرة في هذا المقام حول بعض هذه القضايا؛ أن فريقا من الذين ينتمون إلى الإخوان أو يتعاطفون معهم لا يتقبلون بصدر رحب تلك الانتقادات، بل إنهم يرون أن تلك الانتقادات بشكل أو بآخر إنما تعني من جانب من يقوم بها أن لديه غرضاـ وربما يتهم بالمرض، بدا ذلك في بعض التعليقات على تلك المقالات وكأن لسان حال بعضهم يقول، دعه ينتقد، دعه يمر، ولم تناقش القضايا الحيوية التي طرحتها هذه السلسلة ولكنه توقف عند أمور عامة تتعلق بأننا مع هؤلاء الذين ينخرطون في مواسم النقد لحركة الإخوان، حتى أن بعضهم قد سألني غاضبا "هتخلص امتى؟!".. فقد ضاق صدره بالموضوعات المتعددة التي طرقتها. إن حالة الضيق تلك إنما تعبر في حقيقة الأمر عن ضيق وعدم تقبل لفكرة النقد الذاتي نفسها، فإنني حينما أطالب بأن تقوم كل القوى السياسية بممارسة هذا النقد الذاتي وُوجهت هذه المطالبة باستنكار كبير لأسباب مختلفة.


آفة عامة


من الجدير بالذكر، أن فجوة التقبل لا تقتصر على الإخوان فحسب، بل هي تطول الجميع، إلا أن مساحة فجوة التقبل تلك لدى الإخوان أكثر من غيرهم، وحساسياتهم للنقد والانتقاد أعلى درجة.. أولى الحجج التي يسوقها البعض القول: لماذا الإخوان بالذات من تختصهم بالنقد دون غيرهم؟ ورغم أن هذه السلسلة لم تتعلق بالإخوان وحدهم، وطالت بالنقد كافة القوى السياسية والنخبة في تكويناتها ومواقفها،  وما زلنا سنواصل الكتابة عن قوى سياسية أخرى غير الإخوان إلا أننا أكدنا على ضرورة النقد الذاتي لحركة الإخوان باعتبار أنها الفصيل الأكبر والمؤثر.

 

فجوة التقبل لا تقتصر على الإخوان فحسب، بل هي تطول الجميع، إلا أن مساحة فجوة التقبل تلك لدى الإخوان أكثر من غيرهم، وحساسياتهم للنقد والانتقاد أعلى درجة

وفي الحقيقة، إن أي حركة تغييرية لا يمكن أن تنجح بدون الإخوان، ولكن أي حركة تغييرية لن تنجح وهُم في مقدمتها. هذه المعادلة الصعبة إنما تشكل رغبة حقيقة في أن يكون هذا الفصيل وتلك الحركة على مستوى الموقف السياسي، لتتكافأ مواقفهم مع تلك الحالة الثورية، ومن ثم فإن هذه الفجوات التي ذكرتها فسرت، وبحق، لماذا تخلف الإخوان عن الموقف السياسي وعن الحالة الثورية معا، وهو أمر أصاب الحراك السياسي بشبه شلل أدى إلى حالة من الجمود والتكلس في الحركة، كما أدى إلى حالة من تصلب الشرايين التي تتعلق بالحراك الثوري، إذ انشغلت الحركة بتصدعاتها وانشقاقاتها، بينما توارى الاهتمام بكل أمر يتعلق بفاعلية المواجهة للمنظومة الانقلابية ومنظومة الاستبداد التي تمكنت في صورة فاشية عسكرية ودولة بوليسية.

 

التوقيت المناسب

وإذا ما قررنا أن القيمة التي تتعلق بحركة الإخوان في الساحة السياسية إنما تشكل شرطا مهما في فاعلية هذا الحراك من منطلق الانخراط لا الاستبعاد، فإن البعض حينما نطالب بالنقد الذاتي يصدع في وجوهنا بأن على هؤلاء المنتقدين أن يتحسبوا لتوقيت النقد، فعلى أقل تقدير أن هذا النقد الذاتي ليس هذا أوانه أو وقته، فهل يمكن أن نمارس نقدا لهذه الحركة وقد امتلأت السجون بمعتقليهم وقياداتهم؟ هل يجوز أن نمارس نقدا ذاتيا وقد قدم كل هؤلاء كل تلك التضحيات، ثم بعد ذلك تحدثونا عن نقد ذاتي ومراجعة ضرورية؟ إنكم لا تحسنون اختيار التوقيت! وفي حقيقة الأمر، يرى الكثيرون من المتعاطفين مع الحركة أن هذا الرأي له وجاهة، وأن مطالبة الآخرين بممارسة النقد الذاتي يعد تعنتا.. نقول لهؤلاء إن تلك الأوقات التي يمارس فيها النقد إنما تكون إثر الأزمات وغير قابلة للتأجيل.

 

انشغلت الحركة بتصدعاتها وانشقاقاتها، بينما توارى الاهتمام بكل أمر يتعلق بفاعلية المواجهة للمنظومة الانقلابية ومنظومة الاستبداد التي تمكنت في صورة فاشية عسكرية ودولة بوليسية

وليعلم هؤلاء أن المسلمين قد مارسوا نقدا واسعا بعد "هزيمة أُحد"، فلم يؤخروا نقدا أو ممارسة له، بل إن هذا النقد أكده القرآن حينما أشار إلى مبدئية القيام به عند إحالة البعض لأسباب الهزيمة لغير الأسباب (قل هو من عند أنفسكم)، بتوجيه أساسي يؤكد ويفتش للبحث في الذات الجماعية عما يكون من أخطاء أو مناطق قصور في الفكر أو في الفعل، بالاعتبار أن الدروس التي يجب أن تستفاد منها في أوقات الأزمة هي أنفس ما يكون لضبط الحركة المستقبلية على نحو رشيد وسديد.. أقول لهؤلاء إن هذا هو التوقيت، ولا يدفعن أحد بأن الأمر يتعلق بوضع هنا أو تضحيات هناك، فإن معرفة أسباب تتعلق بالأزمات أو بالهزائم إذا لم تكن في حينها؛ أدى ذلك إلى استمرار الخطأ بعد الخطأ. ومن هنا فإنني قد أشرت إلى أن عدم معرفة ما حدث في العام 1954 إنما يشكل حلقة من فجوة التوثيق التي ربما لم تؤد للاستفادة من هذا التاريخ وأحداثه على بعده، ربما لو تعلم الإخوان منه ما وقعوا في أخطاء مشابهة في علاقتهم مع العسكر.

 

حينما نتحدث عن نقد التوجهات الأخرى يتهموننا بأننا إخوان، فإذا ما انتقدنا الإخوان اتُهمنا بأننا من الليبراليين أو العلمانيين، أو أننا نتحدث بلسانهم، والأمر ليس كذلك

 

ليبرالي أم إخواني؟

 

إن المطالبة بعموم النقد الذاتي هو أمر من الأهمية بما كان لكافة القوى على تنوعها، وإن هذه المطالبة من قبلنا لن تنقطع، مطالبة الإخوان أو غير الإخوان، ذلك أننا حينما نتحدث عن نقد التوجهات الأخرى يتهموننا بأننا إخوان، فإذا ما انتقدنا الإخوان اتُهمنا بأننا من الليبراليين أو العلمانيين، أو أننا نتحدث بلسانهم، والأمر ليس كذلك.

إن المسلك النقدي هو طريق الأمان لإنقاذ علوم السياسة من منافقيها، وإن انتقاد الظاهرة الإسلامية يخلّص المنتمين إليها من براثن التصور القائل بالعصمة لكل من يعمل في الحقل الاسلامي؛ باعتباره ملاكا لا يخطئ أو نبيا معصوما لا يأتيه أي قصور، وأن الانتقاد إن صدر في حقهم إنما يعد في عرفهم سوء أدب وسوء طوية.. كل ذلك أضر بالظاهرة الاسلامية، وأبقى على كثير من مناطق قصورها وتراكم الأخطاء في حقها. فممارسة النقد واسعا هو طريق مأمون لرشد الحركة الإسلامية والمشروع الإسلامي وتواصله مع كل التيارات المسماة بالمدنية في إطار جامع للقوى الوطنية، وعلى هؤلاء الذين ينظرون إلى أن حركة الإخوان مقياس كل شيء، أن يغيروا من تلك الرؤية، ذلك أن تخندق هذه الرؤية في تصور مغلق يقوم على قاعدة أن من كان معهم كان موقفهم صوابا ومن كان ضدهم أو اختلف عن موقفهم فهو قد ارتكب خطأ إن لم يكن جرما، هو اختلال لمعايير الموقف الصائب، وهو عملية خطيرة، وإن الأمر في النهاية يعبر عن فائدة النقد الذاتي في اصطفاف تكوينات الجماعة الوطنية لمواجهة عدو الداخل، ممثلا في الاستبداد، وعدو الخارج ممثلا في الكيان الصهيوني. إن القابلية للنقد وتقبله في المعركة القادمة معركة النفس الطويل، لهي من الأمور الضامنة للفاعلية فكرا وحركة، موقفا ودورا.

التعليقات (4)
قارئ
الخميس، 31-01-2019 02:21 م
جميل يا دكتور سيف ربنا يزيدك حكمة
حمدى مرجان
الثلاثاء، 22-01-2019 10:42 م
{وفي الحقيقة، إن أي حركة تغييرية لا يمكن أن تنجح بدون الإخوان، ولكن أي حركة تغييرية لن تنجح وهُم في مقدمتها.} 1 -الدكتور يضع للاخوان الوظيفة في الحياة السياسية حمار يركبه سيادته ليصل الي السلطة ، لهم الشعبية علي مبادئهم وسلوكهم وعملهم الميداني الخدمي والدعوى كاى حزب يمثل ظهير شعبي هائل في العالم وسيتفضل سيادته ويقبل السلطة علي قبوله تمثيلهم 2_ السيطرة الدولية علي مصائر البلاد والعباد هي من تحكم وليست نظرياتك في النقد فقد حدث نفس الشئ في الجزائر وحماس وضد كل من يتحالف مع الشعب " مصدق " مثلا 3- الرئيس الامريكي ترامب ومن قبله الكثير " فرانكلين روزفلت " لقد حكم امريكا في الكساد العظيم وصنع امريكا قائدة وبطلة الحرب العالمية الثانية والرئيس ترامب يملك من اساسيات القيادة الكثير وسيقوم المساعدون بالباقي فمعظم طاقم حكومته كانوا عسكريين وليسوا اكاديمين ولكن في خدمتهم الاف الخبراء ومراكز البحوث
قارئ
الثلاثاء، 22-01-2019 07:03 م
هناك ما يسمى المسكوت عنه في القرآن والسنة ،،، على غرار عدم ذكر بعض الأسماء او الأماكن او الأعداد او النوعبات في السياق القرآني والحديث الشريف لأنها كما يقول العلماء لا يبنى عليها عمل ولا يؤخذ منها عبرة ،،، وهذا شئ قيم ورائع ،،،، ولدى الإخوان وغيرهم من التنظيمات العقائدية ما يسمى بالمسكتات ،،، على غرار ،، ليس كل ما يعرف يقال وليس كل ما يقال جاء وقته وليس كل ما جاء وقته حضر رجاله ،،، الخلاصة اسكت ولا تتكلم ،،، هذه واحدة ،،، وعلى غرار ،،، أما وقد قلت ما ترى فاترك لنا نفعل ما نر ى ،،، الحوار البناء طبيعة الشعوب والأمم الحضارية ،،، الحوار البناء هو الذي نقل الغرب من عصور الظلام إلى عصور النور ،،، وغياب في ديار العرب والمسلمين نقلهم من عصور النور إلى عصور الظلام والتخلف ،،،
مصري جدا
الثلاثاء، 22-01-2019 06:54 م
الدكتور المحترم ،،، لقد قمت بتقديم هدية على طبق من ذهب كما يقولون عندما كتبت هذه المقالات المطولة تحت عنوان النقد الذاتي وكنت حريصا على متابعتها لاعتبارات أهمها الكاتب والكيان المقصود والمنهج المتبع في التقييم ،، وكنت ومازلت وسآبقى على يقين انك تؤذن في مالطة لكنه الواجب الشرعي والوطني في التناصح ،، أرى انك قمت بما لم تقم به مراكز أبحاث متخصصة خاصة أن الجماعة لا تمتلك مراكز للأبحاث وأن امتلكت فإنها ستتناول بالطريقة التي تربى عليها الإخوان في الدفاع والتبرير ،،،، الدكتور المحترم ،،، هناك مشكلة بنيوية في الأساس الإنشائي للإنسان المصري ،، مشكلة يتم توارثها جينيا عبر الأجيال ،،، مشكلة تنتقل وراثيا وترعاها مؤسسات الأسرة والمدرسة والمسجد والكنيسة والإعلام ،،، وهي غياب او انعدام القيم الإنسانية الحضارية من القبول والشراكة والتعاون والتعايش والتسامح بل أن الضد هو الموجود من الخصومة والرفض والعناد والإقصاء والفردية ،،، وغلبة فكر الدفاع والتبرير ،،، هذه هي ثقافة سكان هذه المنطقة من العالم كعرب ومسلمين بصفة خاصة ،، رغم النصوص الدينية الكثيرة والتي يستشهد بها هؤلاء في قبول النصح والنقد الذي هو فرض شرعي وواجب وطني وخلق إنساني ،،، عموما ما كتبته يا دكتور سيف عبد الفتاح أقمت به فرض العين في التناصح وكلي امل ان منصات القيادة القادمة في المربع الإسلامي والمدني ستستفيد كثيرا من هذه الدراسة العلمية الرائعة ،،، شكرا لكم