قضايا وآراء

العدالة الانتقالية في تونس.. أسئلة الإنجاز

امحمد مالكي
1300x600
1300x600

يبدو الرأيُ العام التونسي مُنقسماً حول حصيلة إنجازات هيئات العدالة الانتقالية، منذ انطلاق خطواتِها الأولى في أعقاب سقوط رأس النظام عام 2011. وقد لا نتردد في القول بأن الشعور العام السائد في تونس ينظر بسلبية كبيرة إلى طبيعة مسار التجربة، ونوعية النتائج، بل إن بعض التونسيين لم تعد لهم ثقة في المشروع برمته. فالعدالة الانتقالية، كما عرّفها المشرع التونسي في الفصل الأول من القانون التأسيسي الخاص بها والناظِم لأحكامها، هي "مسار متكامل من الآليات والوسائل المعتمدة لفهم ومعالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان، يكشف حقيقتها ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها، وجبر ضرر الضحايا وردّ الاعتبار لهم، بما يحقق المصالحة الوطنية ويحفظ الذاكرة الجماعية ويوثّقها، ويُرسي ضمانات عدم تكرار الانتهاكات والانتقال من حالة الاستبداد إلى نظام ديمقراطي يساهم في تكريس منظومة حقوق الإنسان".

لم تبتعد التجربة التونسية عن تجارب العدالة الانتقالية التي سبقتها (جنوب أفريقيا وتشيلي تحديدا)، من حيث بلورة المفهوم وتكريسه في القانون، كما ظلت حريصةً على استحضار وتمثّل المبادئ الأساسية للعدالة الانتقالية، كما اهتدت إليها اجتهادات الكثير من المراكز البحثية والهيئات والمنظمات الحقوقية ذات العلاقة (المركز الدولي للعدالة الانتقالية أساسا)، سواء بالنسبة للحق في العدالة، أو الحق في الحقيقة، أو الحق في التعويضات، أو ضمان عدم تكرار الإساءة، أو المصالحة الوطنية. والحقيقة أن هذه العناصر مجتمعة مجرد مداخل لمعالجة الجزء خاص بالعدالة الانتقالية، أي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، في حين يظل مفهوم "العدالة الانتقالية" أوسع واشمل من ذلك، حيث يتوخى إعادة بناء نظام ديمقراطي يجُبّ النظام السابق ويقطع مع تسلطيته، ويصفي الإرث القديم، ليتم التوافق على قواعد جديدة (تعاقد سياسي واجتماعي جديد)، وهو ما يفرض بالضرورة تفكيك بنية النظام القديم، عبر النظر بشكل جدي وفعال في مصير الطاقم السياسي، المكوَّن من أصحاب المصالح والنفوذ الاقتصادي والمالي، علاوة على "الأمنيين والعسكريين" الذين ثبتت في حقهم جرائمُ التعذيب والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وكل مراكز القوة التي مثلت أذرعَ النظام القديم، ومصادرَ دعم ديمومته واستمراره.. فهل تمكنت تجربة العدالة الانتقالية في تونس من تحقيق إنجازات حقيقية وفعالة في هذه المكامن الثلاثة، أي تفكيك الطاقم السياسي القديم، ومحاسبة المتورطين في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وتطهير مؤسسات الدولة من الفاسدين والمُفسدين والمرتشين؟

 

يمكن التأكيد في مستوى آخر أنه كان في مُكن التجربة التونسية الاستفادة بشكل إيجابي من تجربة جنوب إفريقيا، وإلى حد ما تجربة المغرب، على الرغم من اختلاف السياقات والمسارات

لا يبدو، مرة أخرى، أن ثمة قدراً من القبول والارتياح لنتائج تجربة العدالة الانتقالية في تونس، بل إن الصورة السلبية إزاء "هيئة الحقيقة والكرامة"، بحسبها هيئة دستورية وسياسية، لم تتعرض لمثلها هيئات نظيرة لها على الإطلاق، في الوقت الذي كان الأمل معقودا على نجاح تونس في تقديم نموذج أكثر جدية وفعالية وإنجازا في مضمار "العدالة الانتقالية"، بسبب أنها جاءت في سياق ثورة أسقطت نظاماً، وعملت على إعادة إرساء نظام جديد، أيضا تجربة شهدت تفاعلات اجتماعية وسياسية أكثر نضجاً وتوازناً من العديد من التجارب العربية. ويمكن التأكيد في مستوى آخر أنه كان في مُكن التجربة التونسية الاستفادة بشكل إيجابي من تجربة جنوب إفريقيا، وإلى حد ما تجربة المغرب، على الرغم من اختلاف السياقات والمسارات.

 

ظاهرة التسييس ناجمة عن التجاذبات التي اخترقت المجتمع التونسي حيال التوافق الخاص بإعادة بناء التعاقد السياسي والاجتماعي لتونس ما بعد سقوط النظام، وهي غالبا تجاذبات وصراعات تقع في مجتمعات ما بعد الثورات

تُفسر الأدبيات التونسية المواكِبة لمسار "هيئة الحقيقة والكرامة" مصادرَ ضعف الإنجازات، وعُسر تحقيق مُقومات العدالة الانتقالية (بوصفها واحدة من ثمار الثورة التونسية) بالتأكيد على حصول "تسييس" (Politisation) مُفرط لمفهوم العدالة الانتقالية، وعدم التزام الحيدة والتجرد الموضوعيين في مسار الهيئة وخطوات عملها، تبيّن ذلك في الاستقالات المتتالية التي طالت مسؤولي الهيئة منذ انطلاقها، حيث حالت تدخلات بعض الأذرع الحزبية؛ إما دون تولي بعض الشخصيات والكفاءات مسؤولية العمل في الهيئة (خميس الشماري)، أو الدفع ببعضهم إلى الاستقالة (مثل زهير مخلوف ونورة الورصاوي)، والذين وصل عددهم ستة أعضاء من أصل 15 هو إجمالي عدد أعضاء الهيئة، ناهيك عن الخروقات القانونية التي ارتكبها الأعضاء المتبقون بالنسبة للقانون الأساسي للهيئة والأحكام الناظمة لها.

والواقع أن ظاهرة التسييس ناجمة عن التجاذبات التي اخترقت المجتمع التونسي حيال التوافق الخاص بإعادة بناء التعاقد السياسي والاجتماعي لتونس ما بعد سقوط النظام، وهي غالبا تجاذبات وصراعات تقع في مجتمعات ما بعد الثورات. فالحاصل أن ثمة ثلاث قوى متجاذبة حول مشروع إعادة بناء شرعية الدولة والسلطة، وصياغة تعاقد جديد في تونس. فمن جهة، هناك أذرع النظام القديم، في السياسة وفي الاقتصاد، التي استمرت حاضرة، وتمكنت بالتدريج من إعادة بناء نفسها عبر تجنب استصدار قانون العزل السياسي، واستعادة مكانتها الاقتصادية، وهناك إلى جانب هذه؛ من ظل محافظاً على نظرته الجذرية للثورة ومطالبها، وهم في كل الأحوال ليسوا متنفذين في دواليب الاقتصاد والسياسة. وهناك في مستوى ثالث، وهم من أضعفتهم الارتدادات السلبية للكلفة الاقتصادية للبناء الديمقراطي، وحفزتهم أوضاعهم الاجتماعية المتقهقرة باستمرار على الشعور بالإعياء الاضطراري، والقول بأن "الثورة" أنجزت مطالبها الدنيا، وأن على تونس أن تتوقف عن التجاذبات وتقبل بالممكن، والسياسة في النهاية فعل الممكن بالضرورة.. ثم في النهاية ليست تونس جزيرة منعزلة عن محيطها العربي والدولي.. إنها جزء من هذا المحيط، الذي له بالضرورة ارتددات وانعكاسات على مسارها في البناء الديمقراطي والمصالحة الوطنية.

تدل المؤشرات، مع الأسف، على فشل تجربة العدالة الانتقالية في تونس، ولا يوجد إنجاز في حصيلة مسارها يشفع لها، أو يدفع في اتجاه إقامة تثمين إيجابي لأدائها.. سواء من قبل مؤسسة الرئاسة، أو من لدن رئاسة الحكومة، أو من قبل البرلمان بوصفه ممثلا للمواطنين، أو من لدن المواطنين أنفسهم عبر تعبيراتهم الاجتماعية.

التعليقات (0)