مقالات مختارة

التطبيع العربي مع نظام الأسد... ما له وما عليه

عبد الوهاب بدرخان
1300x600
1300x600

في الثاني عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 توصل وزراء الخارجية العرب إلى قرار يعلّق مشاركة وفود سورية في اجتماعات مجلس الجامعة العربية «إلى حين قيامها بالتنفيذ الكامل لتعهداتها وتوفير الحماية للمدنيين السوريين»، ودعا القرار الجيش السوري إلى «عدم التورّط في أعمال العنف ضد المدنيين». أرفق ذلك بفرض عقوبات اقتصادية وسياسية ودعوة إلى إغلاق السفارات وسحب السفراء. كانت تلك نهاية مبكرة للمبادرة العربية التي لم تعمّر عمليا أكثر من ثلاثة شهور، ونهاية للدور العربي في معالجة الأزمة. كان قرارا عربيا «منطقيّا» ومبرّرا في سياق الأخذ بدروس عاصفة «الربيع العربي»، بل كان نتيجة إفشال النظام السوري وساطة الجامعة لـ «وقف العنف»، والتوجّه إلى «حل سياسي» بحوار سوري - سوري. لكنه كان أيضا قرارا أمريكيا، بمعزل عمّن قاد الحملة لتنفيذه. في الشهور التي سبقت تجميد العضوية، كانت كلّ عواصم العالم دعت النظام إلى أن يكفّ عن قتل مواطنيه ويقود مبادرة داخلية لإنهاء الأزمة، واستغلّت أنقرة علاقتها الجيّدة مع بشار الأسد آنذاك لدعم تلك المبادرة فانتهت إلى قطيعة مع دمشق، عندئذ تقدّم «تعريب» الأزمة لحلّها، ومن ثمّ عُقدت الآمال على «التدويل» الذي فتح الأبواب لكل التدخّلات في سوريا، من دون حلول.

كانت تلك المرّة الثالثة التي تتخذ فيها الجامعة العربية خطوة كهذه، تحت وطأة الأحداث، وليس بالضرورة إنفاذا لمبادئ ينصّ عليها ميثاقها. في الأولى، عام 1990، لم يكن الأمر يتطلب ضغوطا دولية، بالأحرى أمريكية، لأن دولة عربية (العراق) غزت دولة عربية أخرى (الكويت) واحتلّتها، ما لم يكن مقبولا بأي اعتبار أو مقياس، فالحدث فرض نفسه كما فرض وسائل مواجهته، ومع أن عضوية العراق لم تجمّد، إلا أن المشاركة العربية في حرب تحرير الكويت كانت نبذا واضحا لنظامه. في الثانية، عام 2011، لم يكن هناك بحث في تجميد عضوية ليبيا، إذ إن التدويل السريع لأزمتها لم يترك للجامعة خيارا آخر غير توفير «مشروعية» عربية لقرار مجلس الأمن، الذي يجيز لحلف الأطلسي منع نظام معمر القذافي من استخدام سلاحه الجوي لسحق الحراك الشعبي في شرقي ليبيا، ما لم يمنع الجامعة بعدئذ من التحفّظ والاعتراض على التدمير الغربي المنهجي، الذي قضى على كلّ المقوّمات الدفاعية لأي دولة يُفترض أن تنهض من ركام «دولة القذافي». في الثالثة، عام 2011 أيضا، بناء على الدرس الليبي، حاول العرب في سوريا استباق التدويل، معتقدين بأن النظام السوري مختلف، أي إنه أكثر براغماتية ومسؤولية. لم يكونوا يعرفونه على حقيقته. وبعد كل ما حصل لا يزالون لا يعرفونه.

لم يكن مطلوبا في أي وقت اعتناق شعارات «الربيع العربي» كما هي، فهي شعارات غلبت عليها التلقائية وكانت معبّرة عن طموحات وحقوق لا تزال منشودة ومشروعة. ولا كان مطلوبا الانسياق مع وجهة التحوّلات التي اندفع تيار الإسلام السياسي إلى مصادرتها بكل تسرّع وجهل وفوضوية، وبـ «إخوانه» و«سلفه» و«قاعدته» و«داعشه» وغيرهم، ما أظهر أنهم في أحسن الأحوال لا يعرفون مجتمعاتهم، وفي أسوأها لا يحجمون عن تفضيل سيناريوات الخراب، علّها تفضي إلى تمكينهم وإعادتهم إلى الواجهة. كان المطلوب أن يكون هناك تأسيس لسلوكات عربية تغلّب روح الدولة وحسّ المسؤولية في إدارة شؤون الناس، وترجّح التوافق الوطني وليس سفك الدماء لتحصين أنظمة الحكم. وعلى الرغم من فشل ما كان مؤملا به، لا يمكن بأي حال اعتبار أن سلوكات الأنظمة كانت صائبة مئة في المئة، ولا أن الحراكات الشعبية كانت خاطئة مئة في المئة، أو أنها فقط ثمرة تآمر وتدخلات خارجية. حتى الحالات العابرة من الترحّم على القذافي وصدّام حسين، والقبول بالأسد ضمنا أو علنا، لا تعدّ «حنينا» إلى نهج صالح، بل تعبيرا عن خيبة أمل وألم ويأس وتخبّط بين استبدادات دموية، أدّت عمليا إلى اجتذاب الاحتلالات الأجنبية وتعميق التدخّلات الخارجية، ومن ثم إلى تفكيك الدولة وتشريع الإجرام «الرسمي»، وتدمير العمران وتمزيق نسيج المجتمعات.

إذا كان تطبيع الحكومات العربية مع نظام الأسد بات قطارا متأهبا للانطلاق، فلن يستطيع أحد إيقافه بالمهاترات والردح أو بالشتائم والبذاءات، خصوصا أن الحكومات تقول إنها تقدم على هذه الخطوة مدفوعة بمصالحها، التي يُفترض أن تكون أيضا مصالح عربية عامة، وبهذا المعنى تشمل كذلك شعب سوريا المكلوم. إذا فلا شيء يمنع المصارحة حول مغزى هذا التطبيع، لأن هناك تعارضا صارخا بين ما يقوله إعلام النظام و«محور الممانعة»، وما يقوله المدافعون عن العودة العربية إلى دمشق. هل أن الانسحاب الأمريكي من سوريا هو الذي أكمل تسخين قطار العودة، وإذا كان الأمر كذلك، فهل أن الانسحاب هيّأ للعرب فعلا ظروفا مؤوتية لملء الفراغ وإقامة توازن مع تركيا وإيران؟ في المقابل، هل أن تطوّر العلاقات مع روسيا بلغ درجة من الطمأنات والضمانات بإمكان ضبط الدورين الإيراني والتركي، أم إن موسكو تبحث فقط عن دور عربي يرفد دورها، سواء بإعادة تأهيل نظام عصيّ على التأهيل أو بالمساهمة في تمويل إعادة الإعمار؟

في أي حال، ثمّة مصلحة في ألا يكون التطبيع العربي مع الأسد مجانيّا وبلا مقابل، وألا يكون مجرّد تزكية للنظام وممارساته، بل أن يكون معطى مؤثّرا وقادرا على تحقيق الإنصاف في إنهاء المحنة السورية. لا مصلحة في أن يرسّخ هذا التطبيع، كما يبدو حاليا، وكما يبدو التطبيع العلني والسرّي مع إسرائيل، انطباعا بأنه يتمّ على حساب السوريين والفلسطينيين ولا يأخذ قضاياهم ومعاناتهم وتضحياتهم في الاعتبار، بل «يشرعن» النظام السوري بعنفه وطائفيته كما يفعل مع سلطة الاحتلال الإسرائيلي وجرائمها. هذا النوع من التطبيع يؤسس لاحتقانات وصراعات جديدة ولا يفضي إلى أي ثبات أو استقرار، أما «المصالح» التي تبرّره، فقد ينجح أصحابها في التوصّل إليها وقد يفشلون، لكنه في السياق يحقق فقط مصلحة الطرف الآخر ويخدم خياراته، ولا يستطيع إقناعه بأي تنازلات إحقاقا للحق. فكل يوم يقدم النظام السوري على خطوات لتأكيد أنه لن يتغيّر، ولا يرغب ولا يريد ولا يستطيع أن يتغيّر، فهو ممتلئ بالاقتناع بأن نهجه الدموي ولا شيء آخر هو ما أبقاه في السلطة وهو ما يضمن مستقبله. ومع أنه يشاطر حليفه الروسي في أولوية «إعادة الإعمار»، فإن سلسلة المراسيم و«لائحة داعمي الإرهاب» التي أصدرها، تشير إلى أن أولويته الخاصة هي الثأر المبيّت من سوريين عارضوه وحتى من عرب أبدوا مواقف ضدّه.

يتردّد أن النظام تعهّد في اتصالاته العربية بأنه قادر على «إخراج إيران» من سوريا، وما على العرب سوى أن يجرّبوه ليجدوه.

ليس معلوما إذا كان هذا التعهّد أُرفق بشرح لأسباب تجنيس الآلاف من الإيرانيين والأفغان والباكستانيين والعراقيين وغيرهم، لتمكينهم من السكن الاحتلالي لبلدات وقرى أُفرغت من سكانها السوريين، أو بعرض لمسوّغات التغيير الديموغرافي الذي يتّبعه النظام نفسه في المدن الكبرى، أو أخيرا بإبداء تصوّر واضح لحل سياسي حقيقي، يمكن أن يعيد اللاجئين ويوحي بالثقة للمجتمع الدولي كي يشارك في إعادة الإعمار. الواقع أن العودة العربية إلى سوريا تبقى محفوفة بالشكوك في إمكان تحقيق أهدافها السياسية أو «العروبية» المعلنة، خصوصا أنها تتمّ استنسابيا، وفي أجواء انقسامية، ومن دون تنسيق واضح وأهداف مشتركة معلنة.

المقارنة مع العودة العربية إلى العراق ونتائجها قد تكون موحية، إذ إن حاجة القوى الدولية إلى العرب لإقامة توازن داخلي لا تكفي، بل ينبغي أن يكون هناك توجّه استراتيجي موحّد تقوده الدول العربية الأساسية، ولا مؤشّرات بعد إلى وجوده.

 

عن صحيفة الحياة اللندنية
1
التعليقات (1)
عبد الحليم الحزين
السبت، 05-01-2019 11:56 ص
لا شك أن الأستاذ عبد الوهاب بدرخان هو من المفكرين و المحللين السياسيين العرب الذين نفخر بهم. مساهمتي المتواضعة تتعلق بالمحركات لهذه العملية: ما يسمى " التطبيع العربي مع نظام الأسد" فيه تقريب أتفهمه و ليس توصيفاً دقيقاً لوقائع فعلية حصلت منذ عام 2011 . فيما يتعلق بالعرب كشعوب ، آلمهم ما حصل في سوريا من جرائم وحشية و غالبيتهم كانوا قلبياً و وجدانياً مع شقيقهم شعب سوريا لكنهم لم يستطيعوا ترجمة المشاعر و العواطف إلى أعمال مؤثرة لأن هنالك أجهزة قمع في بلادهم تمنع ذلك . فيما يتعلق بما يسمى الأنظمة العربية ، فجميعها كانت مع ما يسمى نظام الأسد ضد الثورة و غالبيتها لم تقفل سفاراته لديها و لم تلغي اعترافها بالوثائق الصادرة منه و لا هي اعترفت بجواز سفر يمكن أن تصدره ما تسمى المعارضة . لقد استمر التواصل بين أجهزة المخابرات العربية و أجهزة المخابرات السورية طيلة الوقت و لم يتوقف "علي مملوك" عن زيارة العواصم العربية و كان هذا من الأسرار المفضوحة . حين يقومون بإعادة فتح السفارات العربية في دمشق فلا يعدو ذلك أن يكون انتقالاً من علاقات سرية إلى علاقات علنية ، و هذا ليس تطبيعاً و إنما رسالة استبدادية من الأنظمة لشعوبها و ملخصها أن شعب سوريا قد قام ضد ولي الأمر عنده فما استفاد إلا القتل و الدمار و هاهو قد انهزم لذلك يرجى منكم يا شعوبنا "العزيزة" أن تستمروا خانعين بالسمع و الطاعة لولي أمركم حتى لو أخذ أموالكم و جلد ظهوركم.

خبر عاجل