أفكَار

تونس.. إضرابات التعليم العام تدعم الخصخصة وتعرقل الإصلاح

مخاوف من تأثير كثرة الإضرابات على مستوى التعليم ومصير القطاع العام في مجال التعليم
مخاوف من تأثير كثرة الإضرابات على مستوى التعليم ومصير القطاع العام في مجال التعليم

عاد ملف التعليم ليخيم بظلاله على الساحات السياسية والاجتماعية والتربوية في تونس، بعد أن فشلت مفاوضات الحكومة مع الهيئات النقابية الممثلة لقطاع التعليم الثانوي، مما يهدّد مرة أخرى مصير السنة الدراسية الحالية.

التقرير التالي، الذي أعده خصيصا لـ "عربي21"، الكاتب والإعلامي التونسي نورالدين العويدي، يسلط الضوء حول مطالب موظفي قطاع التعليم، ووجهة نظر الحكومة في التعامل معها، وآثار ذلك ليس فقط على المستوى العلمي للطلاب، وإنما حول مستقبل قطاع التعليم العام في تونس.   

تجمع جماهيري ضخم لأساتذة التعليم الثانوي جاؤوا من مختلف مناطق البلاد نحو العاصمة تونس، وتحديدا لشارع الحبيب بورقيبة، المعروف أيضا باسم شارع الثورة، للاحتجاج على تردي أوضاعهم المادية، ولمناصرة نقابتهم في مواجهة الحكومة، وخاصة وزارة التربية والتعليم، بعد رفض النقابة العامة للتعليم الثانوي إجراء امتحانات الثلاثي الأول من العام الدراسي الجاري..

 

اقرأ أيضا: هل تهدد المؤسسات الخاصة التعليم العمومي في تونس؟

تباينت تقديرات أعداد الأساتذة الحاضرين للتجمع بين 20 و50 ألفا من "الجسم الأستاذي" المقدر بأكثر من 100 ألف أستاذ.. ولا تهم الأرقام كثيرا، فالثابت أن التجمع الضخم أكد من جديد وحدة الأساتذة خلف نقابتهم المطالبة بزيادات في الرواتب والمنح وتحسين فضاء التعليم وإصلاح برامجه وصيانة المؤسسات التعليمية التي اعتراها القدم وصار بعضها متهالكا، ولم يجر الاهتمام بها منذ سنوات ما قبل الثورة في العام 2011.

 

لا توجد خطوط حمراء في احتجاج الأساتذة على سياسة التّجويع التّي تنتهجها الوزارة ضدّ الأساتذة

ويأتي هذا التجمع الكبير بعد تنفيذ قرار الهيئة الإدارية لنقابة التعليم الثانوي بامتناع الأساتذة عن إجراء الامتحانات في موعدها المحدد، حتى تستجيب وزارة التربية لمطالبهم في زيادات في الرواتب والمنح. وهو أمر أحدث جدلا واسعا في البلاد وفي وسائل الإعلام التقليدية ووسائل التواصل الاجتماعي، ما صنع مناخا من التوتر، وخاصة بين الأساتذة وأولياء التلاميذ.

وعلق لسعد اليعقوبي كاتب عام جامعة التعليم الثانوي قائلا إنّه لا توجد خطوط حمراء في احتجاج الأساتذة على ما أسماه سياسة التّجويع التّي تنتهجها الوزارة ضدّ الأساتذة، مشددا على أنّ النقابة ستقرّر خطوات تصعيديّة أخرى. وقال إن النّقابة لن تتراجع عن مطالبها بخصوص التقاعد في سن 57 عاما، والزّيادة في ميزانية المؤسّسات التربويّة، والزّيادة في أجور المدرسين. واعتبر أن المقترحات التي تقدّمت بها الحكومة لا ترتقي إلى حلحلة الأزمة بل اعتبرها تراجعا عن ما تمّ الاتفاق عليه سابقا.

مشكل متجدد

ليست هذه المرة الأولى التي لم تجر فيها الامتحانات في تونس ما بعد الثورة في موعدها المحدد.. ففي الموسم الدراسي الماضي (2016/2017) حصل نفس الأمر تقريبا، وكادت تمر سنة بيضاء من دون الإعلان عن نتائج الامتحانات، لولا تراجع الأساتذة آخر المطاف وتسليم النتائج لإدارت المعاهد. وسبق لوزير التربية السابق ناجي جلول أن اتخذ قرارا بنجاح كافة تلاميذ الابتدائي في العام الدراسي 2014/2015 إثر رفض المدرسين إجراء الامتحانات.

تدهورت العلاقة بين الوزير ناجي جلول ونقابات سلك التعليم، وانتهى الأمر بإقالة الوزير من قبل رئيس الحكومة، الأمر الذي اعتبره المدرسون انتصارا لهم. لكن خليفة الوزير جلول كان وزيرا من وزراء ما قبل الثورة هو حاتم بن سالم، وقد شغل خطة وزير تربية في آخر أيام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وهو ما يعيره به النقابيون الآن، رغم أنهم لم يعترضوا على تعيينه من قبل.

تعليم مريض والعلاج غائب

يعيش التعليم في تونس صعوبات كثيرة ويعاني من أمراض تتفاقم سنة بعد أخرى، من دون أن تلقى العلاج المناسب، سواء ما تعلق منها بتراجع مستوى التعليم، أو بانتشار العنف والمخدرات في المدارس التونسية، أو باستشراء التسرب لعشرات الآلاف من التلاميذ سنويا من المدارس، وهو ما يشعل الأضواء الحمراء أمام المدرسة التونسية، التي كانت لوقت قريب مصعدا اجتماعيا وباتت اليوم مؤسسة لتخريج العاطلين عن العمل. 

وبالرغم من أن وزارة التربية والتعليم تحوز على أعلى الميزانيات إذا قيس نصيبها بنصيب غيرها من الوزرات، فهي تتجاوز 5.5 مليارات دينار، وذلك بمعدل 13.4 في المائة من الميزانية الإجمالية للحكومة، التي قدرت بنحو 41 مليار دينار، لا يسبقها إلا الميزانية المخصصة لسداد الدين العام، والتي قدرت في العام 2019 بنحو 9.3 مليارات دينار، وبمعدل 22.5 في المائة من ميزانية الدولة. 

لكن المشكل أن معظم ميزانية وزارة التربية تذهب لرواتب الأساتذة والمعلمين.. وهي رواتب يراها الأساتذة هزيلة ولا تغنيهم في مواجهة التضخم والارتفاع الشديد في الأسعار وتراجع قيمة الدينار أمام العملات الأجنبية، ما يعني أنه لا تتوفر الأموال الكافية لإصلاح المدارس القديمة، التي يوشك بعضها على الانهيار، ولا لتمويل البحوث العلمانية والبيداغوجية لإصلاح التعليم.

وبالرغم من ظهور المرض واضحا للعيان في قطاع التعليم، ما تعلق منه بحالة المؤسسات التعليمية التي صارت قديمة مترهلة لم تحظ بالحد الأدنى من الترميم والعناية، أو ما تعلق بتراجع مستوى التعليم وقدم مناهجه، أعني تراجع مستوى المعلم والمتعلم في آن، وتراجع الحصيلة التعليمية عامة، إلا أن الصراعات السياسية المنفلتة ما بعد الثورة لم تجعل التونسيين يركزون على إصلاح تعليمهم، الذي كان لوقت من قبل مفخرة تونس.

تراجع المستوى وانتشار العنف والمخدرات

بات تراجع المستوى التعليمي ظاهرة ملفتة لأنظار المتابعين للتعليم في تونس. فالكثير من خريجي المدارس التونسية عاجزون عن صياغة أفكارهم بشكل واضح، كما أن أكثرهم غير قادر على صياغة فقرة من بضع عشرات من الكلمات دون الوقوع في أخطاء نحوية وصرفية وإملائية كثيرة. والكثير من خريجي المدرسة لا يحسنون الكتابة لا باللغة العربية ولا الفرنسية ولا الانجليزية. 

ولوحظ أن مستوى التلاميذ التونسيين في اللغات قد تراجع بشكل حاد في الأعوام الأخيرة، إذ سجلت باكلوريا 2016 حصول أكثر من 5 آلاف تلميذ على صفر في امتحانات اللغة الفرنسية، في حين حصل أكثر من 7 آلاف تلميذ على صفر في امتحانات اللغة الانجليزية. والأسوأ أن حالة اللغة العربية، اللغة الأم، ليست بالجودة التي يمكنها أن تغطي على الضعف الفادح في الفرنسية والانجليزية.

 

كثرة الإضرابات والاحتجاجات التي باتت تميز القطاع العام، وخاصة قطاع التعليم، بعد الثورة، دفعت بالكثير من العائلات التونسية نحو المدارس الخاصة،


كما أثببت الإحصائيات أنه يتسرب سنويا نحو 100 ألف تلميذ من المدارس التونسية، أكثرهم يغادر المدرسة في بداية سن المراهقة، ما يعني أنهم ينقطعون عن الدراسة في سن حرجة، دون أن يكتسبوا ما يكفي من التعليم، ليجدوا أنفسهم في الشارع بلا سلاح لمواجهة المستقبل.

كذلك تشير العديد من الإحصائيات إلى الانتشار الكبير للعنف في المدارس، وكذلك لانتشار المخدرات والجريمة في الوسط المدرسي، وهو ما بات يصنع فضاء لا يسمح بالتعلم والتفوقي العلمي. وتقدر تقارير إعلامية أن تلميذ على كل ثلاثة تلاميذ في تونس تعرض لنوع أو أكثر من أنواع العنف المعنوي أو الجسدي أو الجنسي داخل المؤسسات التربوية أو في محيطها.

أما بالنسبة للمخدرات فإن 60 في المائة ممن جربوا المخدرات أو يتعاطونها هم في سن ما بين 13 و18 عاما من أعمارهم، ما يعني أن معظمهم تلاميذ يدرسون في المدارس. وينشط الكثير من تجار المخدرات في الوسط المدرسي أو قريبا منه، ما جعل الأطفال المراهقين عديمي الخبرة بالحياة وتعقيداتها والراغبين في الاكتشاف والتجربة يسقطون فريسة لأولئك التجار والموزعين للسموم والأقراص المخدرة.

إضرابات القطاع العام تصب في صالح المدارس الخاصة

كثرة الإضرابات والاحتجاجات التي باتت تميز القطاع العام، وخاصة قطاع التعليم، بعد الثورة، دفعت بالكثير من العائلات التونسية نحو المدارس الخاصة، تدرس فيها أبناءها، وهي مطمئنة إلى إجراء الامتحانات في مواعيدها من دون تأخير.

وانتقل عدد المؤسسات التعليمية الخاصة في المستوى الابتدائي من 16 مدرسة ابتدائية في العام 1985 إلى 191 مدرسة ابتدائية خاصة في العام 2014. أما المدارس الثانوية الخاصة فانتقلت من 91 مدرسة ثانوية خاصة عام 1985 إلى 312 مدرسة خاصة في العام 2014.

وبالرغم من أن الأغلبية الساحقة من التلاميذ لا يزالون يدرسون في المدارس الحكومية ابتدائية (أكثر من مليون تلميذ) وثانوية (نحو 880 ألف تلميذ)، بحسب إحصائيات العام 2014،  إلا أن القلق من زيادة الإضرابات يجعل التونسيين المقتدرين ماديا يهربون من المدارس الحكومية إلى المدارس الخاصة، رغم أن المدارس الخاصة كان ينظر إليها في الثمانينيات على أنها ملجأ الفاشلين من التلاميذ. لكن الزمن تغير كثيرا خلال العقود الثلاثة الماضية، لصالح التعليم الخاص على حساب التعليم العام.

إن أسوأ ما يمكن أن يصيب التعليم أو الصحة تحويلهما إلى بضاعة تباع وتشترى بالمال، فمن يملك المال يعالج ويتعلم أفضل، ومن لا يملكه لا يتحصل على الخدمة المناسبة، وهو ما يؤبد الفوارق الاجتماعية بين المواطنين، فالغني يعلم أبناءه التعليم الأفضل ويضمن لهم مستقبلا أفضل، والفقير يورث فقره لأبنائه. 

وبالرغم من حرص أغلبية التونسيين على التعليم العام إلا أن كثرة الإضرابات والاحتجاجات وتدهور مستوى التعليم يجعل الكثير من العائلات تهرب للتعليم الخاص بديلا عن التعليم العام المأزوم والمريض.. وهو أمر على نقابات التعليم أن تحسب له حسابه حتى لا تزيد في تدهور التعليم وهروب العائلات التونسية بفلذات أكبادها منه إلى التعليم الخاص.

 

اقرأ أيضا: آلاف الأساتذة بتونس يتظاهرون مجددا لزيادة الأجور

0
التعليقات (0)