كتاب عربي 21

النقابة والسياسة

طارق الكحلاوي
1300x600
1300x600
كان الحدث الأساسي في تونس هذا الأسبوع هو قيام المنظمة النقابية الأكبر في البلاد (الاتحاد العام التونسي للشغل) بإضراب العام للموظفين الحكوميين، شمل أكثر من 600 ألف موظف. وبمعزل عن كل السياقات السياسية المحيطة بالإضراب، فهو نابع من وضع اجتماعي صعب، ونسبة تضخم كبيرة انعكست على المقدرة الشرائية، وبالتالي ليس تحركا مصطنعا بل هو تعبير عن بداية أزمة اجتماعية.

كما أن الاضراب هذه المرة تاريخي؛ لأنه من النادر أن قامت المركزية النقابية بإضراب يخص الشأن الاجتماعي، إذ كان الدافع للإضرابات السابقة سياسيا، وتحديدا حالة صدام مع السلطة. يبقى أن من مميزات التطورات الراهنة هو تزايد الدور السياسي لاتحاد الشغل بشكل غير مسبوق؛ جعلها أقرب للحزب، بما يفسر إعلان إمينها العام في خطابها يوم الإضراب بأن منظمته تعتزم خوض الانتخابات التشريعية والرئاسية. فما هو الموقع المنتظر لأهم منظمة نقابية في تونس في الاستحقاق الانتخابي العام القادم، أي سنة 2019، خاصة على ضوء العتبة الانتخابية التي سيتم إقرارها، والتي يمكن أن تصل إلى 5 في المئة؟

لا شك أن تاريخ النقابة في تونس تزامن دائما بالتراوح بين الاجتماعي والسياسي. ومرت تونس قبل الاستقلال وبعده بأزمات اجتماعية متواترة، وخلالها كان الرافع الأساسي للمحنة الاجتماعية المنظمات النقابية، وليس أطرافا حزبية. فقبل الاستقلال، نشأت أول منظمة نقابية تونسية بقيادة محمد علي الحامي في أعقاب أزمة ما بعد الحرب العالمية (الإمبريالية) الأولى، ونشأت نقابة بلقاسم القناوي في الثلاثينيات؛ كاستتباع اجتماعي محلي للأزمة العالمية الرأسمالية سنة 1929، ونشأ الاتحاد العام التونسي للشغل كنتيجة مباشرة للأزمة الاجتماعية العالمية إثر الحرب العالمية (الإمبريالية) الثانية.
ما هو الموقع المنتظر لأهم منظمة نقابية في تونس في الاستحقاق الانتخابي العام القادم، أي سنة 2019، خاصة على ضوء العتبة الانتخابية التي سيتم إقرارها، والتي يمكن أن تصل إلى 5 في المئة؟

وفي ذات السياق، وبعد الاستقلال وإثر اصطفاف اتحاد الشغل إلى جانب بورقيبة ومرحلة من التناغم بين السلطة والاتحاد وخلال أكبر ازمة اجتماعية في السبيعنيات خلال مرحلة "النمو القياسي" لحكومة الهادي نويرة، قاد اتحاد الشغل أول إضراب عام في تاريخ دولة الاستقلال، في 26 كانون الثاني/ يناير 1978 (ولو أن النظرة المتمعنة لحيثيات الإضراب تتجاوز العامل الاجتماعي لتضم عوامل سياسية محلية وإقليمية).

وقبيل الثورة وبعدها، كان تأزم الوضع الاجتماعي دافعا (وليس العكس) لتموقع اتحاد الشغل في قيادة الحراك الاجتماعي، رغم أن ذلك ترابط أيضا مع ميل سياسي للاتحاد لقوى سياسية دون أخرى، خاصة اليسار الماركسي- العروبي الراديكالي، وحتى ممثلين عن المنظومة القديمة، لكنه مثّل أيضا قوة صد أمام الاتجاهات الانقلابية الاستئصالية؛ عندما رفض في هيئته الإدارية الشهيرة، إثر اغتيال الشهيد البراهمي آخر تموز/ يوليو 2013، دعم الانقضاض على السلطة السياسية ودفع في اتجاه خيار الحوار الوطني.

لا شك أن اتحاد الشغل تموقع سياسيا بأشكال مختلفة، وليس دائما في الاتجاه الملائم لخطه الاجتماعي (تموقع قيادته مع نظام ابن علي طيلة عقدين، وتم توقيع اتفاقيات لا اجتماعية، منها اتفاقية المناولة وسط التسعينيات، وفي الحوار حول تشكيل الحكومة مؤخرا من خلال التقارب مع السبسي وابنه)، لكن في كل هذه الفترات مثّل عموما قوة تعديلية في الميزان الاجتماعي، خاصة أمام عجز الطيف الديمقراطي الاجتماعي حتى الآن عن إنتاج قوة سياسية جدية وضاربة تعبر عن المصالح الاقتصادية للطبقة الوسطى، بما ساهم في تزييف الوعي الطبقي لهذه الفئة، وجعلها مجرد قاعدة انتخابية لأحزاب لا تمثل مصالحها، في حين تقود الأحزاب الممثلة لها في عديد التجارب السياسية عبر العالم نهج الاقتصاد الاجتماعي، دون السقوط في دوغمائية الاشتراكية التقليدية.
مثّل أيضا قوة صد أمام الاتجاهات الانقلابية الاستئصالية؛ عندما رفض في هيئته الإدارية الشهيرة، إثر اغتيال الشهيد البراهمي آخر تموز/ يوليو 2013، دعم الانقضاض على السلطة السياسية ودفع في اتجاه خيار الحوار الوطني

العتبة الانتخابية المرتقبة التي يمكن أن تصل إلى ما بين 3 و5 في المئة في كل دائرة انتخابية (والتي يسعى لإقرارها الثلاثي: النهضة وحزب الشاهد القادم ومعهما ما تبقى من حزب السبسي) ستعمق في نهاية الأمر من الفرز الحزبي، وستفرض بالضرورة توجه التصويت المفيد. ليس لاتحاد الشغل تجارب انتخابية مستقلة أساسا. إذ دأب في تاريخه على دخول سباق الانتخابات، سواء زمن بورقيبة أو زمن ابن علي عبر بوابة حزب الحكم، وسيضطر إلى ابتكار طريقة جديدة إذا قرر الدخول منفردا في السباق. يبقى أن لديه أيضا ورقة تطعيم قوائم أحزاب قريبة لنهجه الاجتماعي بنقابيين مقربين منه. وهذا السيناريو الأقرب في رأيي، وهو ما يمكن أن يساهم في تدعيم بديل حزبي كبير، يعيد اتحاد الشغل إلى مربعه الاجتماعي، ويخلق أخيرا خيارا تنظيميا ثالثا (عن النهضة والمنظومة القديمة)؛ يعيد خلط الأوراق، والأهم الخروج بنا من الثنائيات الهوياتية، ويركز النقاش في الخيارات الاقتصادية والاجتماعية.

في نهاية الأمر، وباستثناء حفنة نادرة من الاقتصاديين التونسيين والأجانب، فإنه عمليا لا يواجه هذه الوصفة إلا مؤسسة وحيدة، هي الاتحاد العام التونسي للشغل. إذ ليس لأي حزب أي ثقل كاف أو أي هوية واضحة تجعلها يتمثل هذه المعركة. وبهذا المعنى، ورغم أي أخطاء اتصالية أو سياسية لاتحاد الشغل، فإن المحافظة عليه، والأهم تمرير دوره السياسي إلى حزب ديمقراطي اجتماعي كبير، من أهم العوامل التي سترشد الحياة السياسية في تونس وتجعل لها معنى، وتنهي وجود أحزاب مشخصنة وبلا معنى، وتعيد الاعتبار للعلاقة بين مصالح الناس والسياسة، أي تحديث السياسة.
التعليقات (0)