كتاب عربي 21

خاشقجي، كارين عطية، و"البوست": لهذا يخشى المستبدون الإعلام

فراس أبو هلال
1300x600
1300x600

في الثاني من أكتوبر الماضي كانت "عربي21" أول صحيفة في العالم تنشر خبر اختفاء الصحافي السعودي المغدور جمال خاشقجي مساء ذلك اليوم، ونقلت في ذلك الوقت تفاصيل الاختفاء التراجيدي من خلال خطيبته خديجة جنكيز. 


وبعد ساعات من نشر الخبر في "عربي21" بدأت الوكالات العالمية والعربية بنقل "أنباء" عن اختفاء خاشقجي، واستمرت هذه الوكالات والصحف بمتابعة القضية بزخم كبير لمدة أربعة أسابيع، ولا تزال حتى اليوم ولو بزخم أقل.


من بين كل هذه الوكالات والصحف كانت العيون منصبة على الصحيفة الأمريكية التي كتب خاشقجي فيها لمدة عام تقريبا، وهي الـ"واشنطن بوست"، الصحيفة المعروفة بتأثيرها في صناعة السياسة الأمريكية، وفي صانعي القرار بالعاصمة واشنطن. وكان هذا الاهتمام بما تنشره الصحيفة عن قصة خاشقجي مبنيا على هذين الأساسين: أي أنها الصحيفة التي يكتب بها، وأنها الصحيفة الأكثر تأثيرا في واشنطن.


في الساعات الأربعة والعشرين الأولى على اختفاء خاشقجي نشرت الصحيفة مادتين خبريتين "متحفظتين" منسوبتين لأصدقائه، ولكن التغطية سرعان ما تحولت إلى إعطاء أولوية كبيرة للخبر، إضافة لمنحها بعدا "ذاتيا" باعتبار خاشقجي أحد كتاب صفحة "الآراء الدولية" في "واشنطن بوست".

 

ومع مضي الوقت وتصاعد التسريبات التي صدرت عن المصادر التركية، بدأت الصحيفة ما يشبه الحملة الصحفية لتغطية كل التطورات المتعلقة بقضية جمال خاشقجي، ولكن الأهم من ذلك هو أنها تبنت قضيته في افتتاحياتها التي طالبت السلطات السعودية بالكشف عن مصيره، باعتباره أحد كتاب الصحيفة.

 

خلف حملة الواشنطن بوست للدفاع عن خاشقجي والمطالبة بكشف مصيره كان هناك "دينمو" يحرص على إبقاء القضية حية ويتابع تطوراتها لحظة بلحظة


خلف حملة الواشنطن بوست للدفاع عن خاشقجي والمطالبة بكشف مصيره كان هناك "دينمو" يحرص على إبقاء القضية حية ويتابع تطوراتها لحظة بلحظة. هذا "الدينمو" هو محررة صفحة الآراء الدولية "كارين عطية"، التي تعاملت مع قضية خاشقجي في بعديها المهني والإنساني، فهي بهذه الجريمة خسرت صديقا على الصعيد الشخصي، وفقدت كاتبا في صفحة هي تقوم بتحريرها، وفي نفس الوقت فقد وجدت نفسها في معركة الدفاع عن حرية الصحافة، وحرية الرأي والتعبير.

 

ظلت كارين عطية لأسابيع تكتب يوميا عددا من التغريدات عن قضية خاشقجي، كما أنها كتبت عدة مقالات، وكانت تشارك يوميا في برامج تلفزيونية أمريكية وعالمية للدفاع عن خاشقجي، وللمطالبة بمحاكمة ومعاقبة قاتليه، وكانت في بعض الأيام تشارك في ستة برامج أو أكثر للحديث عن تطورات القضية، وتبنت حملات لمقاطعة مؤتمر الاستثمار الذي عقد في الرياض في نهاية أكتوبر الماضي.

أما "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز" وغيرهما من الصحف الأمريكية، فقد مثلت كابوسا يوميا لترامب وإدارته من خلال متابعتها للقضية، وإحراجها للإدارة التي تمتلك علاقات متميزة مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، كما أن هذه الصحف قامت بالضغط على المشرعين والسياسيين الأمريكيين لاتخاذ إجراءات صارمة وممارسة ضغوط قوية على الحكومة السعودية لإجراء تحقيق في اختفاء ومقتل خاشقجي.

وعلى الرغم من المتابعة العالمية الواسعة لهذه الجريمة البشعة، إلا أن تغطية "واشنطن بوست" اتخذت طابعا آخر، باعتبارها صحيفة جمال، وكان هذا واضحا من البيانات الرسمية التي أصدرها ناشر الصحيفة "وهو نفس مالك شركة أمازون التي ترتبط بمشاريع مهمة مع السعودية"، إضافة إلى أن الصحيفة نشرت حتى الآن عدة افتتاحيات ربما تصل إلى العشر عن القضية. ولأن الصحيفة تمتلك تأثيرا كبيرا على المشرعين وصانعي القرار في واشنطن، فيمكن القول إن وقوفها وراء قضية خاشقجي، وكفاحها المستمر للضغط، هو من أكثر العوامل التي جعلت هذه القضية على الأجندة اليومية للسياسة في واشنطن.

 

فالصحافة وجدت لمحاسبة الحكام وأصحاب السلطة، وللعمل لصالح الشعوب لا لصالح الحكومات، وهو ما يجعلها في حرب "شخصية" مع الاستبداد


وبمقابل هذه الصورة التي تعبر عن أهمية ودور الصحافة، تظهر صورة مغايرة ومؤسفة في العالم العربي، حيث امتنعت -أو بالأحرى مُنعت- صحف وكيانات صحفية وإعلامية وحتى الصحفيون والمثقفون كأفراد من التعبير ولو بكلمة عن تضامنهم مع زميل لهم قتل وعذب ببشاعة فقط بسبب كتابة آرائه التي لم تكن أصلا تحمل معارضة جذرية للحكم في السعودية، ومن ضمن هؤلاء بالطبع صحف عمل خاشقجي رئيسا لتحريرها أو محررا فيها أو كاتبا للرأي، حيث انبرى أصدقاء وزملاء جمال السابقون بدلا من ذلك للتقليل من أهمية قضيته، ولتبني روايات مثيرة للسخرية عن القضية.

إن الطريقة التي تعاملت بها "واشنطن بوست" و"كارين عطية" وغيرها من المحررين والصحفيين في العالم الذي يوجد به صحافة حرة مع قضية خاشقجي، هي بالضبط ما يجعل المستبدين في حرب دائمة مع هذه الصحافة. فالصحافة وجدت لمحاسبة الحكام وأصحاب السلطة، وللعمل لصالح الشعوب لا لصالح الحكومات، وهو ما يجعلها في حرب "شخصية" مع الاستبداد عندما تطال يده حرية أو حياة صحفي في أي مكان في العالم. 


هذا الصراع لم يبدأ اليوم، بل هو صراع ممتد بين أي نوع من أنواع السلطة وبين من يكافحون بالكلمة والفكرة لوضع هذه السلطة تحت المحاسبة، حتى قبل ظهور الصحافة، ولن ينتهي ما دامت الخليقة على هذه الأرض. وقد يكون العرب اليوم في وضع غير ناصع في هذا الصراع، حيث تمتلك السلطة اليد العليا وتسيطر على الصحافة، وتقمع الحريات، ولكن النضالات الصغيرة لبعض الصحفيين ستخلق يوما ما صحافة يستحقها الشعب العربي، تقف مع الحريات والكلمة، وتحاسب الحكام، وتمثل مصالح المحكومين، فالأمريكيون لم يصلوا إلى مرحلة "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز" و"كارين عطية" وغيرها دون نضالات وتضحيات، كما لم يصل الفرنسيون وغيرهم إلى صحافتهم الحرة بسهولة، والعرب لن يكونوا استثناء من هذه القاعدة، ولو بعد حين. عندها سيتذكر الناس من ناضلوا للحرية ودفعوا من حريتهم وحياتهم ثمنا لها.

0
التعليقات (0)