مقالات مختارة

السعودية وتأثير الفراشة

إبراهيم فلامرزي
1300x600
1300x600

اعتقدت القيادةُ السعوديةُ أنها تستطيعُ التعاملَ مع المجتمعِ الدوليِّ بنفسِ الطريقةِ التي تتعاملُ بها مع شعبها، أي: بالسيفِ أو المالِ أو كليهما، فكانت النتيجةُ جريمةً علنيةً تُظهرُ فيها خروجها على القانونِ الدوليِّ، وازدراءها بكلِّ القيمِ الأخلاقيةِ والإنسانيةِ، بقتلِ خاشقجي في قنصليتها باسطنبول، والتي كشفتْ عن الفقرِ المدقعِ الذي تعاني منه في مجالاتِ التخطيطِ الاستراتيجيِّ، والمخابراتِ، والدبلوماسيةِ. ولكن هذا كله أقلُّ أهميةً عندما نقارنه بتأثيرِ الفراشةِ الذي أصبحت السعوديةُ مثالاً سياسياً حياً له. ففي علم الفيزياء، يُقال، مجازاً، إنَّ رفرفةَ جناحِ فراشةٍ في الصينِ قد يسببُ رياحاً هادرةً وأعاصيرَ وفيضاناتٍ في أفريقيا وأوروبا وأمريكا. أي أنَّ وقوعَ حدثٍ ما سينتجُ عنه سلسلةٌ من التطوراتِ المتتاليةِ التي لم يكن أحدٌ يتوقعها.

1) الفقرُ المدقعُ استراتيجياً وسياسياً: وهو أمرٌ طبيعيٌّ في بلادٍ يُعتقلُ فيها أفضلُ وأشرفُ أبنائها، ويصبحُ فيها ضحلو الثقافةِ وعديمو الوعي رموزاً للسلطةِ، وناطقينَ باسمها. فلو كان لدى قيادتها مخططونَ استراتيجيونَ، لنصحوها بتجنبِ ارتكابِ الجريمةِ لأنَّ احتمالاتِ نتائجها الخطرةِ كبيرةٌ. ولو كانتْ مخابراتها ماهرةً، لقدمتْ إليها قراءةً صحيحةً عن تركيا كدولةٍ وشعبٍ ونظامٍ سياسي لن يقبلوا بأنْ تكونَ بلادهم نسخةً من مصرَ السيسي التي يُباعُ فيها الوطنُ ومقدراته وأرضه ومياهه وتأثيره ودوره بالمالِ السعوديِّ الإماراتيِّ الحرامِ. ولو كان لديها جهازٌ دبلوماسيٌّ حقيقيٌّ، لأخبرها عن الاحتمالاتِ الكبيرةِ لانقلابِ المجتمعِ الدوليِّ عليها.

2) فتحُ الأبوابِ المغلقةِ: أدت الجريمةُ إلى فتحِ أبوابٍ كانت القيادةُ السعوديةُ تخشى من مجردِ الطرقِ عليها، وأهمها بابُ السلطاتِ التشريعيةِ والقضائيةِ والتنفيذيةِ في المملكةِ التي هي مجردُ أدواتٍ بيدِ القيادةِ، إذ لا يوجد دستورٌ أو قوانينُ تنظمها بحيثُ تكونُ في خدمةِ الوطنِ والشعبِ. وهذه قضيةٌ مهمةٌ لم يعدْ يجدي فيها أنْ يخرجَ المفتي وعبد الرحمن السديس وعائض القرني ليقولوا للناسِ إنَّ دستورَ المملكةِ هو القرآنُ الكريمُ والسنةُ النبويةُ، بعدما صمتوا عن جرائمَ عظيمةٍ لا يقبلُ بها اللهُ ورسوله، صلى اللهُ عليه وسلم، والمؤمنونَ. لقد فتحت الجريمةُ باباً كبيراً لإصلاحاتٍ داخليةٍ حقيقيةٍ، ولإيقافِ إسهاماتِ قيادةِ المملكةِ في استباحةِ الشعبِ اليمنيِّ، ومحاولاتِ تركيعِ الشعبِ الفلسطيني، وسواها من إسهاماتٍ تئنُ الأمةُ كلها تحت وطأتها.

3) انهيارُ أسوارِ القداسةِ: فمنذُ تأسيسِ المملكةِ سنة 1932م، كانت قوتها الحقيقيةُ هي مكانتها وتأثيرها في نفوسِ العربِ والمسلمينَ كديارٍ فيها أعظمُ مقدساتنا. لكن قيادتها أفقدتها تلك المكانةَ، وذلك التأثيرَ، عندما انقلبتْ على أمتها في فلسطينَ واليمنِ ومصرَ وليبيا، وأخذَ بعضُ المتصهينين فيها يعلنونَ عنصريتهم ضد العربِ والمسلمين، ويدعونَ لمعاداةِ الفلسطينيينَ والتوددِ للصهاينةِ. وهنا، لابد من الحديثِ عن جانبٍ مهمٍّ هو أنَّ الحراكَ المتصهينَ داخلَ السعوديةِ محميٌّ من القيادةِ، أما الذين فيهم ذرةٌ من عداءٍ للكيانِ الصهيونيِّ فإنهم مقموعونَ بالحديدِ والنارِ. وهو أمرٌ لا نجدُ له مثيلاً حتى في الدولِ العربيةِ التي تقيمُ علاقاتٍ دبلوماسية مع الكيانِ. إنَّ انهيارَ أسوارِ القداسةِ التي كانت تحيط بالمملكةِ، هو أمرٌ خطيرٌ ينبغي على الأسرةِ المالكةِ والعقلاءِ في السعوديةِ أنْ يتداركوه سريعاً.
4) المعتقلونَ وحقوقُ الإنسانِ: وهذه قضيةٌ مثارةٌ بشدةٍ في العالمِ، لأنَّ مقتلَ خاشقجي وتقطيعَ أوصاله يعنيانِ أنَّ هناك جرائمَ مماثلةً يتعرضُ لها عشراتُ آلافِ المعتقلينَ، ومعظمهم أشخاصٌ تتشرفُ بهم الأممُ لكنهم ليسوا إلا أرقاماً يمكنُ لقيادةِ بلادهم أنْ تمحوها ولا يجرؤ أحدٌ على مجرد التساؤلِ عن السببِ.

5) الأشخاصُ أهمُّ من الوطنِ والشعبِ: وهذه حالةٌ معروفةٌ في النظمِ المستبدةِ التي لا تقدمُ لأبناءِ شعوبها منجزاتٍ وإنجازاتٍ، وإنما تجعلهم يعيشونَ داخلَ أسوارِ أوهامِ العظمةِ والعنصريةِ والانسلاخِ عن الأمةِ وقضاياها. فقد أخبرت الجريمةُ العالمَ أنَّ وليَّ العهدِ اختصرَ الدولةَ في شخصه، فأصبحَ التهديدُ الدوليُّ لشخصه تهديداً للمملكةِ، نظاماً سياسياً وشعباً.

كلمة أخيرة

عندما يدافعُ نتنياهو عن القيادةِ السعوديةِ، فهذا يعني أنَّ كلَّ ما يقالُ عنها صحيحٌ، وأنَّ جريمةَ القنصليةِ قد أنهتْ عمرها السياسيَّ.

عن صحيفة الشرق القطرية

0
التعليقات (0)