قضايا وآراء

الربيع العبري

أميرة أبو الفتوح
1300x600
1300x600

لم تخطئ وزيرة الثقافة والرياضة الصهيونية "ميري ريجيف" حينما قالت إنهم في إسرائيل يعيشون ربيعا عبريا بامتياز، فقد رأت هذه الوزيرة ما لم تره في حلمها، وما لم تكن أصلا تحلم أن تحلم به! فقد فتحت لها أبواب دولة المفترض أنها عربية حتى من اسمها (دولة الإمارات العربية المتحدة)؛ على مصراعيها، وفُرشت لها الأرض بالورود والرياحين، واستقبلت هي وفريقها الرياضي استقبال الفاتحين، وعززوها ووقروها وكرموها؛ لدرجة أنهم أرادوا أن ينالوا البركة من هذه الزيارة الميمونة، فجعلوها تزور أحد مساجدهم.

وكان بديهيا ألا تذكر المسجد الأقصى ولا تصنفه ضمن قائمة المساجد الكبرى في الإسلام، فهي التي استهزأت به في مهرجان كان السينمائي وارتدت فستانا يثير العنصرية البغيضة والاستهانة بالمقدسات الإسلامية، إذ يحمل في ذيله صورا لمدينة القدس وما بها من رموز تاريخية ودينية، وعلى رأسها المسجد الأقصى وقبة الصخرة، مما أثار حالة من الاستهجان والسخط في العالم لهذا الاستفزاز الفج. ولكن حكام أبو ظبي لا يستفزهم مثل هذا المنظر بل يكرمون صاحبته!

لم تكن أرض أبو ظبي فقط التي كانت تنطق عبريا وتتراقص على أنغام النشيد الوطني الصهيوني، ويرفرف في سمائها العلم الصهيوني وتنعم أجواؤها بالربيع العبري، بل كان زلزالا عنيفا يحمل الكيان الصهيوني إلى العمق الخليجي، ففي يوم واحد امتدت توابعه في ثلاثة دول خليجية، لعل أكثرها عنفا كان في سلطنة عُمان، حيث هبطت طائرة "بنيامين نتنياهو"، رئيس وزراء الكيان الصهيوني، في مطار مسقط، بعد أن حلقت فوق الأجواء السعودية ومرت فوق البحرين وقطر والإمارات، وبعد أن فُتحت لها سماء الخليج مرحبة بقدوم فخامته للخليج العربي!! وأثناء الاستقبال الحافل له ولزوجته التي كانت في صحبته من قِبل السلطان قابوس، كان هناك ثمانية شهداء فلسطينيين قتُلوا غدرا برصاص الجنود الصهاينة الذين صوبوا نيرانهم على المتظاهرين العُزل، أثناء مظاهرتهم السلمية في الأسبوع الثاني والثلاثين من مسيرة العودة الكبرى..

 

هذا الشعب الفلسطيني البطل الذي يواجه وحده العدو الصهيوني، ويدفع وحده ضريبة من دمه دفاعا عن أمة تخاذل أبناؤها، بعد أن ارتمى الحكام العرب في أحضانه بحجة السلام الدافئ، واستسلمت الشعوب العربية للأمر الواقع، واكتفت بالفرجة، وربما بالحسرة والألم أحيانا على المجازر التي يرتكبه العدو الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني!!

لم يخجل وزير الخارجية العماني "يوسف بن علوي" من أن يصف الزيارة "بأنها زيارة طبيعية من دولة في الشرق الأوسط للتحدث عن حل الخلاف الإسرائيلي الفلسطيني"!

ولعل هذا الحل قد وجده رئيس وزراء الكيان الصهيوني في زيارته الميمونة لدولة عربية لا تربطه بها علاقات دبلوماسية، فكان بمجرد وصوله لأرض فلسطين المحتلة أن أمر جيشه بقصف قطاع غزة، ثم تحدثوننا بعد ذلك بأن الهدف بحث مساعي السلام؟!

إن الكيان الصهيوني يهدف من وراء هذه الزيارة لعُمان واللقاءات السرية، التي تحدث بينه وبين مسؤولين عسكريين وسياسيين من دول عربية، ومشاركات رياضية وفنية تطبيعية في كل من قطر والإمارات والبحرين، والتي يتعمد الإفصاح عنها من خلال وسائل إعلامه.. أعود فأقول إن الهدف وراء كل هذه المساعي الحثيثة للتطبيع تغيير الوعي العربي تجاه الاحتلال وتجاه فلسطين بشكل خاص، وتشكيل وعي عربي جديد ووجدان عربي مختلف؛ لا يعتبر الكيان الصهيوني هو العدو التاريخي للأمة العربية، بل يذهب لأبعد من ذلك باعتباره صديقا مثله مثل الدول العربية المحيطة به، وهذا ما يتوافق مع ما قاله الوزير العماني أن "إسرائيل دولة في الشرق الأوسط وليس غريبا أن تزور عُمان". ومثل هذا تصريح وزير خارجية البحرين "خالد بن أحمد" وإشادته بنتنياهو، بقوله: "لدى السيد بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل موقفا واضحا لأهمية استقرار المنطقة"!

وتقوم بهذه المهمة أيضا وسائل الإعلام العربية الممولة من دول الخليج المسمى بالخليج العربي! ونخب ليبرالية عربية صُنعت خصيصا لأداء هذا الدور وتحقيق ذلك الهدف.. صنعت هذه النخب على أعين الاستخبارات الصهيوأمريكية، وتشكلت داخل مراكز الأبحاث الأمريكية، ومُولت بالمال الخليجي، وعُرفت بالنخب البترودولارية.. هؤلاء يبذلون قصارى جهدهم لتحويل البوصلة من العداء لإسرائيل إلى العداء لإيران وتركيا وللمقاومة الإسلامية (حماس)، وللترويج للتطبيع مع الاحتلال الصهيوني، وقد رأينا بأم أعيننا على شاشات التلفزة، ذلك المذيع المصري المدعو "عمرو أديب" يرفع يده تعظيم سلام لنتنياهو لقصفه لقطاع غزة، والمدعو "توفيق عكاشة" يرفع الحذاء لحماس على الشاشة، وثالثهم "أحمد موسى" الذي يحرض السلطة في مصر على أن تذهب بطائراتها وتضرب غزة.. إلى آخر ذلك من مشاهد مخزية يندى لها الجبين العربي الذي لا يزال يحمل القضية الفلسطينية في أعماقه، ولا يزال يرى أن العدو الصهيوني هو العدو التاريخي للأمة العربية والإسلامية على السواء، ويضيره ما يحدث من عمليات تطبيع على الأرض.

تسعى تلك النخب البترودولارية لتغيير التاريخ وتزويره، والإساءة لكل الرموز التاريخية المرتبطة بفلسطين، بل والإساءة لشعب فلسطين نفسه واتهامه ببيع أرضه، فيما قدم هذا الشعب العظيم أكبر التضحيات على مدار قرن من الزمان، بمقاومة أشرس وأجرم احتلال في التاريخ..

ليس غريبا على حكام العرب التسابق المحموم على التطبيع لنيل العطف والرضى من العدو الصهيوني، فهو الحامي لعروشهم والتي كادت ثورات الربيع العربي أن تطيح بها لولا المؤامرة الكبرى التي حيكت في الغرف السوداء للاستخبارات الصهيوأمريكية، واتخذت دولة "المؤامرات العبرية" مقرا لها لتنطلق منها كل الثورات المضادة للربيع العربي، فالربيع العبري والربيع العربي لا يلتقيان، وبينهما برزخ وحجر محجورا لا يمكن تجاوزه.

لقد كانت القضية الفلسطينية حاضرة في قلب الثورات العربية، بل كانت من أهم روافدها وتشهد أعلام فلسطين التي رفعت في ميادين الحرية في عواصم البلدان العربية التي شهدت ثورات الربيع العربي على ذلك. وكلنا نتذكر ما حدث بعد ثورة 25 يناير من حصار لسفارة الكيان الصهيوني في القاهرة وإنزال علمه، وإجبار السفارة على الإغلاق وإجبار طاقمها على مغادرة البلاد. فما  زالت الذاكرة تحمل صورة هذا الشاب من شباب الثورة الذي تسلق إلى الطابق التاسع عشر من البرج المطل على نيل القاهرة أمام كوبري الجامعة، حيث مقر السفارة، وإنزال العلم الصهيوني، ثم حرق الشباب للعلم وسط تصفيق وتهليل كل المصريين المتواجدين في المكان. لقد كان حدثا فطريا، معبرا عن الضمير العربي، مما أذهل العالم الذي اغتر بدعاوى السلام المزعوم..

كان الربيع العربي يسير في الاتجاه المعاكس لنهج التطبيع، ولذلك تجد أن الذين كانوا يحاربون الربيع العربي والذين شكلوا محورا معاديا للتغيير والتحرر؛ واتخذوا غرفة عملياتهم في دولة "المؤامرات العبرية"، هم الأكثر هرولة الآن في اتجاه التطبيع..

لم نكن بحاجة لما كشفته صحيفة "واشنطن بوست" من أن ولي العهد السعودي "محمد بن سلمان" لجأ إلى "نتنياهو" لإنقاذه من ورطة مقتل #جمال_خاشقجي، والضغط على أمريكا كي تطوي هذا الملف ليظل هو في موقعه ولا يصيبه أذى. وحسب ما جاء في الصحيفة، فإن نتنياهو تواصل مع مسؤولين كبار في إدارة ترامب لدعم ولي العهد السعودي باعتباره شريكا استراتيجيا هاما في المنطقة..

وكان لافتا للنظر أن أول تعليق لنتنياهو بعد شهر من مقتل #خاشقجي جاء خلال منتدى "كرايوفا" المنعقد في بلغاريا، حيث قال: "ما حدث في القنصلية بإسطنبول ومقتل الإعلامي #جمال_خاشقجي كان مروعا ويجب التعامل معه بشكل مناسب"، ثم عاد وكتب في تغريدة له: "ولكن في نفس الوقت أقول إنه مهم جدا من أجل استقرار المنطقة والعالم؛ أن تبقى السعودية مستقرة، ويجب إيجاد الطريق لتحقيق هذين الهدفين؛ لأنني أعتقد أن المشكلة الأكبر تأتي من قبل إيران".

منذ صعود الأمير الطائش إلى ولاية العهد وهو يتقرب زلفى إلى الكيان الصهيوني، وما كان يفعله أسلافه في الخفاء من اتصالات سرية مع العدو الصهيوني، فعله هو في العلن، وأخذ الدعم اللازم منه بتبنيه صفقة القرن والضغط على محمود عباس لقبولها، ونسيان القدس والقبول بأبو ديس بدلا منها عاصمة للدولة الفلسطينية المزعومة.. كذلك زيارة ابن سلمان السرية إلى تل أبيب العالم الماضي ومقابلته للمسؤولين الصهاينة، والتي لم ينفها الجانب السعودي، وهي تؤكد أن هذا الأمير صُنع على أعين الاستخبارات الصهيونية وصنعته لنفسها، فمن الصعب، بل يكاد يكون من المستحيل أن تفرط في هذا الكنز الاستراتيجي، لذلك سيبذل الصهاينة قصارى جهدهم لإنقاذه من السقوط. ولكن تبقى تدابير الله، والتي هي فوق تدابير البشر، وما ستحمله الأيام القادمة من أحداث قد تكون مفاجئة للجميع، ولكن من المؤكد أن العالم بعد اغتيال #جمال_خاشقجي في 2 تشرين الأول/ أكتوبر غير العالم بعده..

إن هذا السباق المسعور من الحكام العرب لينالوا العطف والرضى من العدو الصهيوني، ليس بالجديد، ولكنه الأكثر فجاجة، حتى الذين يرفعون شعارات المقاومة والممانعة ستجدونهم الأكثر زحفا على أعتاب الباب العالي؛ يطلبون الدعم والحماية ليظلوا قابعين على مقاعدهم! فقد سبق أن قال نتنياهو العام الماضي إن "هناك صداقة حميمة تجمعنا مع العديد من الدول العربية"، وأن دولا بالمنطقة باتت تعد إسرائيل شريكة في الحرب المشتركة ضد الإسلام السياسي، وليست عدوة، وان "هذه الدول تنظر إلى إسرائيل وقوتها التي ثبتت بشكل قاطع في حرب الأيام الستة، بل وتثمن هذه الدول مكافحة إسرائيل وموقفها الحازم ضد الإرهاب". وفي خطابه في الكنيست العام الماضي، قال إن "الزعماء العرب ليسوا عائقا أمام توسيع علاقات إسرائيل مع جيرانها من الدول العربية، إنما الحاجز الذي تصطدم فيه إسرائيل وتخشاه دائما هو الشعوب العربية والرأي العام العربي". وأكاد أسمع صوته الآن يقول لهؤلاء الزعماء العرب: "بالدور يا عرب، كله سيأخذ نصيبه"!!

لقد أخجلتم يا سادة العدو الصهيوني بالتسابق المحموم على التطبيع.. الكل يهرول. وهنا تحضرني رائعة الشاعر الراحل "نزار قباني" (المهرولون):

"ودخلنا في زمن الهرولة

ووقفنا بالطوابير، كأغنام أمام المقصلة

وركضنا ولهثنا وتسابقنا لتقبيل حذاء القتلة"..

لقد حقق الكيان الصهيوني مكاسب ومغانم في فترة السلام المزعوم ما لم تحققه في حروبها الأربعة ضد العرب..

* * *

#التطبيع_خيانة، خيانة لدماء الشهداء الذين يروون الأرض بدمائهم على مدار ستين عاما، خيانة للأقصى والمسرى.. عار كبير أن يُستقبل القاتل "نتنياهو" على أرض عربية، عار كبير أن يرتفع نشيد الكيان الصهيوني ويرفرف علمه في سماء أرض عربية، تحت أي ذريعة كانت. إن التطبيع مع الكيان الصهيوني خيانة أيا كان فاعله، وكل ذريعة تساق لتبريره هي ذريعة متهافتة لا وزن لها ولا قيمة..

وعلى الرغم من كل هذه المحاولات المستميتة التي تبذلها، سواء دولة الاحتلال أو تلك النخب العربية الصهيونية أو الحكام الصهاينة العرب لجعل التطبيع حقيقة وواقع على الأرض، إلا أن الشعوب العربية بغالبيتها العظمى ترفض التطبيع، وأعلنها شعب قطر برفضه لفريق الجمباز الصهيوني في بلاده، رافعا الرايات "لا للتطبيع"..

الشعب العربي لم ولن تتغير بوصلته، فلا يزال يرى في القدس بوصلته، ولا تزال فلسطين ساكنة في وجدانه وتسري في دمه، وقضيته الجوهرية هي الصراع مع الكيان الصهيوني الذي اغتصب قلب الأمة (فلسطين). ولا بد من إعادتها مرة أخرى للأمة مهما طال زمن الصراع ومهما تعاقبت الأجيال، ولن يستطيعوا الاستفراد بفلسطين وجعل الصراع معها فقط، وإبعادها عن محيطها العربي أو إبعاد الدول العربية عنها بهذا التطبيع البائس، والذي لن يرى النور أبدا طالما لا يزال في الأمة نبض ينبض، ورجال أشداء في غزة على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين ولا يضرهم من عاداهم..

التعليقات (0)