كتاب عربي 21

أين هم من ميركل؟

جعفر عباس
1300x600
1300x600
انتقل أمس إلى رحمة مولاه، الطبيب الخاص بفخامة الرئيس، إثر علة أمهلت الرئيس طويلا.. هذه الكلمات، هي أبلغ ما قيل في حال الحكام العرب الذين لا يغادرون كراسيهم إلا إذا زارهم عزرائيل، أو إذا تحول الشعب إلى ما يشبه طير أبابيل وأرغمهم على الرحيل، ولا نعرف حاكما عربيا غادر منصبه طوعا حتى وهو يزعم أنه منتخب ديمقراطيا، ويجلس على كرسي الرئاسة بموجب الدستور. فرغم  أن الرؤساء العرب هم من يصوغ الدساتير التي تحدد عدد ولايات الحكم، إلا أنهم أول من يخرق تلك الدساتير، بإشباعها قصا ولصقا، حتى تناسب "مقاساتهم"، عندما يمكثون طويلا في قصورهم وتترهل أبدانهم وعقولهم.

نموذج عربي فريد


المشير عبد الرحمن سوار الذهب رحمه الله، تنازل عن منصبه كرئيس للمجلس العسكري الانتقالي في السودان، وهو المنصب الذي شغله لسنة واحدة، بعد سقوط حكم جعفر نميري، وكان هو وزير الدفاع في حكومة نميري، ولكن ميثاق الانتفاضة الشعبية العارمة التي أطاحت بنميري، وأرغمت العسكريين على الانحياز للملايين التي هبت ضد حكمه، هو الذي قضى بأن تكون ولاية المجلس العسكري، الذي كان الراحل سوار الذهب على رأسه سنة واحدة فقط، وكانت قوى الانتفاضة من أحزاب ونقابات، جاهزة للتحرك ضد المجلس العسكري إذا قرر الاستمرار في السلطة.

قرار رئيسة الحكومة الألمانية (المستشارة) أنجيلا ميركل بالتخلي عن مناصبها التنفيذية والدستورية والحزبية، فتح الجروح والقروح في الدول التي يجلس على صدور الشعوب فيها حكام مزمنون، وللتسلط مدمنين، وفات على الناعين على أصحاب الفخامة هوسهم بالسلطة والتسلط، أنهم (أصحاب الفخامة)، لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه أصلا بإذن من أحد، فكراسي الحكم في بلداننا تُؤخذ عنوة واقتدارا، وكما أن طويل الجرح يغري بالتناسي، فإن البقاء طويلا في قصور الحكم يغري ويغوي باستدامة البقاء، وتناسي ما يعانيه الشعب من جروح ومعاناة، مع ما قد  يتطلبه ذلك من قمع وقهر وبطش بكل من يعترض على ذلك.

رؤساء سابقون في أمريكا


في الولايات المتحدة اليوم خمسة رؤساء سابقون: كارتر وكلينتون وبوش الأب وبوش الابن وأوباما، يعيشون جميعا معززين مكرمين، ولا يثير أمر بقائهم محالين للمعاش دهشة أحد في بلدهم.

وبالمقابل فإن صدام حسين ومعمر القذافي حكما لعقود طويلة ولم يرحلا من السلطة إلا إلى القبر، ولكنهما على الأقل حاربا الخصوم حتى النهاية، بينما آثر الغر الغرير المغرور زين العابدين بن علي الهرب المخزي، وأنور السادات رحل قتيلا، وخلفه حسني مبارك خرج مطرودا ذليلا.

الرئيس السوداني عمر البشير يحكم منذ منتصف عام 1989، ويعمل حاليا على ترقيع الدستور الذي كتبه بنفسه، حتى يحكم لخمس سنوات أخرى إلى عام 2025، وبوتفليقة في الجزائر يجلس منذ سنوات على كرسي حكم مدولب/ متحرك، ويا ويل من يقول إن حالته الصحية لا تسمح له بالاستمرار رئيسا للبلاد.

سؤال مُحيّر


ما لا أفهمه هو: ما الممتع في البقاء على كرسي الحكم، والجالس عليه يعرف أن الملايين تصب عليه اللعنات والسباب وتتمنى هلاكه، وليس فقط رحيله؟ فجميع الحكام الطغاة يحيطون أنفسهم بقوم غلاظ شداد لا يعصون لهم أمراً، ودورهم هو القضاء على "المعارضين" بالسجن والتشريد والنفي والتغريب والقتل، وليس بينهم واحد يستطيع أن يتجول بين رعيته دون أن يكون محاطا ببلدوزرات بشرية.

الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري، كان أكثر الطغاة صراحة في أمر اعتزامه البقاء في السلطة مدى الحياة، فعندما خرجت مظاهرات شعبية ضخمة ضد حكمه، قال عبر وسائل الإعلام: لن أكون الرئيس السوداني السابق بل فقط "الراحل"، وفي هذا يقول الناس "العبد في التفكير والرب في التدبير"، فقد صار نميري رئيسا سابقا، وعاش في المنفى في القاهرة لنحو خمس عشرة سنة، ثم صار "الراحل" بعد عودته إلى السودان كرئيس "سابق"، رحل عن منصبه مكرها.

الحكام المتشبثون بالكراسي محرومون من متع ينعم بها المواطن العادي: الجلوس مع الأقارب، وصلة الأرحام بدون بروتوكولات؛ عيادة قريب نزيل المستشفى؛ تناول سندويتش ع الماشي في الطريق إلى وجهة ما، التجول داخل المدن والقرى دون خوف من محاولة اغتيال؛ مراجعة الدروس مع العيال؛ الضحك بصوت عال في الأسواق والأماكن العامة؛ مواساة جيران تعرضوا لمصاب أليم، متابعة مباراة لنادي القرية الرياضي في ملعب ليست به مقاعد للمتفرجين.

احكموا عليهم بأعمالهم

أنجيلا ميركل تخطط لحياة هادئة وجميلة كمواطنة عادية، وستنشر مذكرات عن سنوات حكمها كما يفعل جميع الرؤساء الذين يجردون حسابات سنوات حكمهم، ويقولون للناس "احكموا علينا بأعمالنا"، وقد يعرضهم ذلك للنقد الجارح، ولكن حتى منتقدوهم يحمدون لهم السماح للشعب بقراءة كتبهم.

وأنا أقارن بين ميركل والحكام المزمنين، تحضرني أبيات من قصيدة الشاعر المصري الراحل أحمد فؤاد نجم من قصيدة "كلب الست"، التي تتعلق بواقعة هجوم كلب للمطربة أم كلثوم على المواطن البسيط إسماعيل، الذي تعرض للبهدلة والاستجواب لأنه لحمه الدنس لوث فم كلب الست:

أنت فين والكلب فين/ ما أنت كدا يا اسماعين/ هو كلب الست يا ابني / وانت تطلع ابن مين؟
التعليقات (2)
منال سالم
الأحد، 11-11-2018 03:10 م
رؤيه حقيقيه واسلوب سهل بسيط تسلم
متفائل
السبت، 03-11-2018 04:06 م
وماذا إذا قلت أن العدوى ليست بيولوجية فقط ، بل تتعداها إلى عدوى تصيب العقل والروح في آن واحد ، ذاك سرطان ، وهذا سرطان أخطر بكثير ، فهلا اجتهدت نخبتنا المتسرطنة في البحث عن مخرج ؟