أفكَار

في المراجعة النقدية للأصوليات.. "النهضة" والإسلام الليبرالي

قال بأن "النهضة" التونسية لم تستطع التخلص نهائيا من طبيعتها الإسلامية
قال بأن "النهضة" التونسية لم تستطع التخلص نهائيا من طبيعتها الإسلامية
لم يأخذ موضوع تحالفات الإسلاميين السياسية حظّه من البحث والدراسة، وذلك لأسباب عديدة منها طول أمد العزلة السياسية التي عاشها الإسلاميون بسبب تحالفات النظم الحاكمة مع بعض القوى السياسية، واستثناء الإسلاميين من هذه التحالفات، بناء على قواسم أيدولوجية مشتركة بين الأنظمة ونلك التيارات.

لكن، مع ربيع الشعوب العربية، ومع تصدر الحركات الإسلامية للعمليات الإنتخابية في أكثر من قطر عربي، نسج الإسلاميون تحالفات مختلفة مع عدد من القوى السياسية داخل مربع الحكم، وترتب عن هذه التحالفات صياغة واقع سياسي موضوعي مختلف، ما جعل هذا الموضوع  يستدعي تأطيرا نظريا على قاعدة رصد تحليلي لواقع هذه التحالفات: دواعيها وأسسها وصيغها وتوافقاتها وتوتراتها وصيغ تدبير الخلاف داخلها، وأدوارها ووظائفها، وتجاربها وحصيلتها بما في ذلك نجاحاتها وإخفاقاتها.

يشارك في هذا الملف الأول من نوعه في وسائل الإعلام العربية نخبة من السياسيين والمفكرين والإعلاميين العرب، بتقارير وآراء تقييمية لنهج الحركات الإسلامية على المستوى السياسي، ولأدائها في الحكم كما في المعارضة.

اليوم يعيد الباحث في شؤون الفكر السياسي الكاتب التونسي توفيق المديني، قراءة تجربة الإسلاميين في تونس، ويرى بأن مساعي الفصل بين الديني والسياسي التي رفعها رئيس حركة "النهضة" راشد الغنوشي لم تحقق على الأرض الكثير.  

في المراجعة النقدية للأصوليات المعاصرة.. النهضة والإسلام الليبرالي

منذ أن وصلت إلى السلطة عقب انتخابات 23 تشرين الأول/أكتوبر 2011، تعيش حركة "النهضة" صراعًا مريرًا بين أن تتحول إلى حزب مدني يعتنق "الإسلام الليبرالي" المنفتح، وبين أن تحافظ على أرتودكسيتها الإخوانية. 

ورغم أنّ زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي دأب طيلة السنوات الماضية، على إعطاء صورة متميزة عن حركته من كونها تؤمن بفكرة "الإسلام الليبرالي"، وببناء دولة مدنية قد لا تصل إلى حد فصل الدين عن الدولة كما هو الحال في الدولة العلمانية السائدة في الغرب، لكنها في الواقع دولة إسلامية ليبرالية قائمة على مؤسسات سياسية ليبرالية (كالبرلمان والإنتخابات والحقوق المدنية) بل وحتى بعض سياسات الرعاية الإجتماعية، على أساس أنها لا تتناقض مع أي نصوص دينية، دولة مدنية يختار فيها المواطنون مؤسساتهم السياسية كما يريدون، ويغيرونها إذا شاؤوا حسب الظروف، فإنّه بعد خمس سنوات من التأسيس للتوافق، لم تتغير النهضة، ولم يتغير أنصارها وخاصة منهم الراديكاليون والمحافظون، الذين لا يزالون يدافعون عن أرثودكسيتهم الإيديولوجية الإخوانية، ويرفضون إمكانية أن يتخلى الإسلام عن "فرادته" بالمعنى السلبي للكلمة، أي عدم تقبله من حيث أنه "دين ودولة"، لملاقاة المفاهيم والمسلمات الحضارية المعاصرة (حرية، ديمقراطية، حق الإختلاف، حقوق الإنسان، الأولوية لحرية الإنسان كفرد وصون كرامته، وإحترام الآخر المختلف جماعات وأفراداً، التسامح الديني خارج إطار الذمية...) والتي باتت معتمدة في غالبية المجتمعات في عصر العولمة الليبرالية. 

وفيما جعلت الاتجاهات المتنوعة في مجال الليبرالية الإسلامية بعض الباحثين المتخصصين في العالم العربي والإسلامي أكثر تفاؤلاً بنمو تيار "الإسلام الليبرالي" وتصاعده في تونس، حين تتالت التصريحات القاطعة التي صدرت عن زعيم حركة "النهضة" الإسلامية في تونس، راشد الغنوشي قبوله للفكر الليبرالي، أثارت  حركة النهضة الإسلامية التي تمثل التيار الأساسي في الإسلام السياسي في تحولاته المعاصرة الخوف في داخل المجتمع التونسي خلال تجربة حكم الترويكا، بعدما اتجه أنصار الإسلام السياسي إلى تغيير نموذج المجتمع التونسي الليبرالي والمنفتح، وفق اجتهاداتهم المتنوعة.

المدنية والإسلامية

"النهضة المدنية تختفي وراء النهضة الإسلامية"، هذا ما عبرت عنه حركة النهضة رسميًا في بيان لها عن رفضها لمبادرة رئيس الجمهورية التونسية الباجي قائد السبسي المعلن لتقديم مشروع قانون يساوي في الميراث بين الرجل والمرأة، ويترك حرية الاختيار للمورث إعلان التمسك بنظام الميراث القائم على الشرع قبل وفاته، إذ جاء فيه"..قرّر مجلس الشورى التمسك بنظام المواريث كما ورد في النصوص القطعية في القرآن والسنة، وعبرت عنه مجلة الأحوال الشخصية. ويؤكد أنّ مبادرة المساواة في الإرث فضلا عن تعارضها مع قطعيات الدين ونصوص الدستور ومجلة الأحوال الشخصية فهي تثير جملة من المخاوف على استقرار الأسرة التونسية ونمط المجتمع. ويدعم المجلس كل مسعى لتطوير المجلة، بما يسهم في ضمان حقوق المرأة، وبما لا يتعارض مع النصوص القطعية في الدين ونصوص الدستور".

وجاء تقرير لجنة الحريات والمساواة الأخير، الذي طرح إقرار المساوة في الميراث بين الرجل والمرأة، ليكشف من جديد هيجان أنصار النهضة، الذين قاموا بتجييش الشارع التونسي، والتحامل على الرئيس الباجي قائد السبسي، واستخفافهم بطبيعة الدولة المدنية التونسية، التي تسير في تحقيق جملة من المطالب المتعلقة بالمواطنة المتساوية وبالديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان وغيرها من المطالب المتصلة بحاجة  الشعب التونسي إلى التطور والتنمية، وتستمدُّ قانونها من القانون الوضعي أكثر منه من الشريعة الإسلامية، وتلتزم بمنظومة الحريات الأساسية في الفكر والرأي، واحترامها الكامل لمنظومة حقوق الإنسان الدولية، وعلوية الدستور التونسي، ورفضها لنهج التكفير والتخوين. 

وهذا ما جعل الغنوشي مستاء من "حملات التشويه التي تدار بطريقة منهجية عبر ترويج الأكاذيب وبث الفتن والتحريض على الشخصيات السياسية والأحزاب ورموز الدولة وإطاراتها، ويدين في الوقت عينه "بكل شدة ما تعرض له بالخصوص رئيس الدولة من ثلب وتهجم" قبل أن يدعو أجهزة الدولة الى التحرك ضمن القانون لضرب العابثين بالشبكات الاجتماعية.

فقد أكدّت السنوات العجاف التي عاشتها تونس على أن المسألة الخلافية بين الإسلام الليبرالي الذي يقدمه الغنوشي وبين الشق الأرثودكسي الإخواني الرافض في حركة النهضة له، ليست محصورة في التوافق بل إنه تجاوز هذا "المحرّم" لدى بعض أنصاره و"المكروه" لدى البعض الآخر و"المباح للضرورة" لدى بعض ثالث إلى مبادرة رئيس الجمهورية حول الحريات الفردية والمساواة، فهذا الجسم المحافظ من حركة النهضة الذي يستند إلى حماية المؤسسة الدينية التقليدية ممثلة بالجامعة الزيتونية، والمتحالف مع التيارات الراديكالية من الإسلام السياسي، يستعيد من جديد الصراع بين المشروعين العلماني والديني، وهو الصراع الذي كان قائماً منذ فجر الاستقلال.

ثنائية السياسي والديني

وإذا أردنا أن نتعمق أكثر، فالصراع بين السياسي والديني في تونس يعود في الواقع، إلى ثنائية ازدادت متطلباتها ثقلاً بين الدستوريين والزيتونيين، منذ مرحلة الاستعمارولغاية هذه المرحلة الجديدة من عمر الثورة التونسية المجهضة، وهو يعكس صراعاً أيديولوجياً وسياسياً بين سيادتين: واحدة إلهية ـ دينية، وأخرى شعبية ديمقراطية. وعلى نقيض المرجعية الإسلامية الإخوانية التي شكلت الأساس الأيديولوجي الذي تقوم عليه حركة النهضة، يتبنى المجتمع التونسي بكل أطيافه، باستثناء الإسلام السياسي على اختلاف تنوعاته، فكرة "الإسلام الليبرالي"، التي تعتمد بناء الدولة المدنية في المسألة السياسية والتنظيمية المتعلقة بالمجتمع السياسي، باعتبارها دولة زمنية لا يجوز للفقهاء أن يتولوا السلطة فيها.

ولا يزال مفهوم الدولة المدنية حديث الإستعمال في الخطاب الفكري والسياسي العربي. فمفهوم الدولة المدنية طُرِحَ في سياق ما بات يُعْرَفُ بربيع الثورات العربية، للإشارة إلى رؤية جديدة لعملية الإصلاح، والعلاقة بين الحاكم والمحكوم في المجتمعات العربية، التي أسقطت الديكتاتوريات العسكرية والبوليسية، التي كانت قائمة. فقد جاء في الفصل الثاني من الدستور التونسي الذي أُقِرَّ في 27 كانون الثاني/يناير 2014: "تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب، وعلوية القانون". وهو ما يؤكد أن الشعب التونسي اختار بإرادته (وعبر ممثليه الذين انتخبهم لعضوية المجلس الوطني الدستوري) مدنية الدولة.

هناك اتفاق بين فقهاء القانون الدستوري حول تعريف الدولة المدنية بكونها الدولة التي تحمي مواطنيها وتجعلهم متساوين أمام القانون بغض النظر عن دينهم أو عرقهم أو فكرهم...

الدولة المدنية

ومن أهم شروط الدولة المدنية ومبادئها عدم مزج الدين بالسياسة والتعامل معه بحياد تام فلا ترفضه وتقمعه ولا تحشر أحكامه في القوانين. فالدولة المدنية لا ترفض الدين ولا تعادي الدين ولكنها ترفض استغلال الدين لأغراض سياسية، فهي ترفض إضفاء طابع القداسة على الأطروحات السياسية لأي من الفرقاء في العمل السياسي أو تنزيه أي رأي من الآراء أو اجتهاد من الاجتهادات عن النقد أو النصح والتوجيه. والإسلام يفرق بين الوحي وبين الاجتهاد في فهم وتفسير الوحي، فلا يعطي لهذه الإجتهادات لذاتها قداسة وإنما يقبلها بقدر ما تقدمه من حجج على صحة فهمها وتفسيرها للكتاب والسنة. ومن جانب آخر فإن الدولة المدنية ترفض نزع الإسلام من ميدانه الروحي ومن مجاله المقدس والزج به في المجال المدنس الذي هو مجال الصراعات والمؤامرات والألاعيب السياسية.

الدولة المدنية من هذا المنظور هي دعوة للانفتاح ودعوة لاستيعاب تراث فكرالحداثة الغربية، لا سيما في مجال قضية حقوق الإنسان، باعتبارها القضية المركزية في نسق الحداثة وفي منظومتها القيمية، وفي الثقافة الديمقراطية سواء بسواء. ولا يمكن فصل مقولة الحرية أو مشكلة الحرية، بتعبير الفلاسفة، عن قضية حقوق الإنسان وكرامته. ومن المهم أن نلاحظ أن قضية الحرية كانت غائبة عن الثقافة العربية وعن الفكر السياسي خاصة، ولا تزال غائبة، ولذلك من السهل تذويب الفرد في العشيرة والطائفة والجماعة الإثنية.

القطيعة مع الأرثودكسية الإخوانية

غدت الدعوة إلى الحوار الديمقراطي بين مختلف التيارات الفكرية الكبرى السائدة في العالم العربي (الليبرالية، والإسلامية، والقومية، والماركسية) وإقامة الجسور والتلاقي فيما بينها، وإيجاد صيغة ديمقراطية لضبط الخلافات والمعارك الفكرية بين هذه التيارات، أكثر القضايا إلحاحًا اليوم، وأهمية من أجل مناقشة مستقبل البلدان العربية، لا سيما بعد التداعيات الكارثية "للربيع العربي"، وما أصاب الدول الوطنية من حالات التفكك و التشظي المجتمعي.

ويكمن الهدف من الحوار بناء وعي مطابق للواقع العربي وحاجات تغييره وتحسينه، في ظل الواقع المتغير والحاجات الجديدة التي تتطلب بلورة تعميق رؤى جديدة من كل تيار إزاء الآخر. ولما كان الحوار يهدف إلى الإنفتاح والتعرف إلى ما عند التيارات الأخرى، فإنّه في الوقت عينه لا يستبعد أي تيار من التيارات السائدة في الأمة، أو تحريم مذهب من مذاهبها، أو حظر أطروحة من أطروحاتها، في هذه القضية العربية أو تلك، أو في ميادين المعرفة والفكر. فالحوار يركز أولا وأساسا على إزالة الجفوة والإنقطاع وعوامل الاستبعاد والنفي والإنكار المتبادل، الذي قاد إلى تشظي المعرفة وإنقاصها وإلى الحجر على حرية العقل وصولاً إلى إخصائه، وإلى مذهبة المعرفة أو تحزيبها وإنتاج "وعي مذهبي"، وإلى تكريس الجهل بالآخر وسد قنوات الحوار والتواصل الإجتماعي ـ السياسي.

الحوار جزء لا يتجزأ من مشروع نقد العقل السياسي العربي، وعملية المراجعة النقدية الجذرية الفكرية والسياسية الشاملة لكامل التجربة الماضية، لا ينحاز لتيار ضد التيارات الأخرى، ولا يقف مع عقيدة إيديولوجية ضد العقائد الإيديولوجية ـ التي ظهرت ـ و تزداد ضرورة الحوار مع ازدياد مشروع نقد العقل السياسي العربي اتساعًا، ليشمل ظاهرة الإسلام السياسي المعاصر، والخطاب الإيديولوجي الإسلاموي المتطرف الدوغمائي من جهة، والفكري المرن والنقدي المنفتح من جهة أخرى، الذي مازال يرفض تجسيد القطيعة المعرفية والمنهجية، التي تأتي في سياق العملية التاريخية، وكنتيجة حتمية للتطور التاريخي العام في المجتمع العربي، باعتبارها هي وحدها التي تؤهلها (هذه العملية) لبناء مشروع ثقافي إسلامي تنويري يصير تكوينًا و ليس تكرارًا .

علمًا أنّ هذه القطيعة متى حصلت تمثل تاريخ التحولات الجذرية في نظرة العقل الإسلامي نفسه إلى المعرفة، وطرق إدراكه للواقع العربي والاشتباك مع معضلاته الأساسية، وتعبيره المعرفي والسياسي عن تأويلاته لهذا الواقع. ولا تعني هذه القطيعة انفصالاً كليًا ونهائيًا عن الماضي والتراث والتاريخ والشعب، بل إنها فاعلية اجتماعية كفاحية من أجل التحرر المعرفي الحقيقي للتراث من الميراث المحدّد الذي أصبح يشكل عقبة معرفية في الخطاب الإيديولوجي للحركات الإسلامية المعاصرة، وباعتبارها أيضا نتاجًا تاريخيًا ناجمًا عن جهد بوساطة هذه القطيعة، تكون بذلك تنويرًا حقيقيًا، حيث أن التنوير لم يكن حكرًا على التجربة التاريخية الغربية المحددة بعصر صعود البرجوازية والرأسمالية منذ القرن السادس عشر، بل إن الحضارة العربية الإسلامية امتلكت تراثًا تنويريًا مع ابن رشد في القرون الوسطى، سبق التنوير الغربي في العصر الحديث.

ففي نطاق عملية المواجهة للتطور الداخلي لكل تيار مع نقد شامل إزاء فكره وممارسته أولاً، وفي علاقة كل تيار مع التيارات الأخرى ثانيًا، وفي كيفية تحديد العلاقة مع سلطة الدولة ثالثًا، وفي منهج التعامل مع مقتضيات التحولات الكونية التي يشهدها عالم متغير بكل ما فيه من قوى عظمى تعمل على تهميش العالم الثالث بكل اتجاهاته، ومنها العالم العربي رابعًا، لا يجوز أن يظل الفكر الإسلامي الراهن لا يقر بهذه القطيعة، لأنه يرفض أية علاقة بالفكر الغربي ويطالب بخصوصية إسلامية وأصالة عقلية وعلمية مطلقة بحيث يعتقد اليوم أنه في غنى عما أبدعه التفكير الغربي والبحث العلمي خارج دائرة المعارف الإسلامية المتأصلة في القرآن والمنطلقة منه، ويتفاخر من جهة بتأثير الفكر العربي على الفكر الغربي في القرون الوسطى، ويرفض من جهة أخرى تطبيق العلوم الحديثة على دراسة الفكر الإسلامي لأن تلك العلوم خاصة بالغرب.

ولا يزال الخطاب الإسلامي المعاصر خطابًا أسطوريًا و إيديولوجيًا، أي خطاب التيولوجيا الإسلامية التقليدية، الذي لم يخرج من السياج الدوغمائي، وظل أسير التنظيم المعرفي المغلق من الإعتقادات في رؤيته الفلسفية للحياة والعالم. ولهذا، فإنّ الصراعات الإيديولوجية التي خاضها الإسلام السياسي بكيفية خاصة حين لجأ إلى ترسانة الأسلحة الإيديولوجية ليأخذ ما أمكن من الإيديولوجيا الإسلامية السلفية والأسطورية، كانت على علاقة بحركة الصراع التي تخوضها القوى الإسلامية المنظمة ضد القضية القومية، والتي تحتل إشكالية الهوية التي طمست وشوهت من قبل الإستعمار الغربي، وعلاقة الحركة القومية بالغرب العلماني حتى وإن خاضت نوعًا محدّدًا من الصراع ضد الإمبريالية والصهيونية.

التحرر من الصنميات الأيديولوجية

المنظرون القوميون والمذهبيون الماركسيون مطالبون اليوم بالمراجعة الجذرية للرايات الكبيرة التي رفعوها: نهضة، قومية عربية، وحدة عربية، طبقة عاملة، اشتراكية، والتي تحولت إلى أصنام، حيث تشهد هذه الحقبة التاريخية ذاتها من انهيار الحركة القومية التقليدية والرومانسية وانهيارالاشتراكية، سقوط هذه الأصنام، وتحول الخطاب القومي والماركسي التقليدي ـ الذي فقد مصداقيته وفعاليته لدى قسم مهم من الشعوب العربية ـ من مشروع مجتمعي إلى مجرد فكرة أخلاقية أو دعوة مجردة إصلاحية للعدالة الإجتماعية، لا علاقة لها بطبيعة التركيبة الإقتصادية والإجتماعية في ضوء تحول العولمة الرأسمالية الجديدة إلى نظام كوني.

الفكرة القومية العربية ذاتها بالتغريب، موقع المركز فيها، لم تعكس العلاقات الطبقية، ولا الصراعات الفلسفية المستندة إلى منهج التاريخية في التحليل الذي يدرس التغيير والإنقطاع كما يدرس الإستمرارية والبنية المتصلة في الواقع التاريخي، التي تقود إلى التمييز والتفريق بين الإسلام الأسطوري المشدود إلى يقيناته التيولوجية المتعالية، والإسلام التاريخي الذي يقبل بالإنفتاح الإيجابي على العقلية العلمية، ويقبل بتطبيق القرارات المنهجية والإبستمولوجية على التراث الإسلامي، ويؤمن بالتعددية، و"المتشكل هو ذاته نتيجة التجاور والتتابع الزمني للإسلاميات السوسيولوجية "على حد قول محمد أركون.

إن التوافق في المصالح والمطامح المشتركة للطبقات والفئات الإجتماعية في عملية التغيير الراديكالية تحتم على القوى القومية الديمقراطية والماركسية والإسلامية المستنيرة على الرغم من تعددها، ومن عدم اتسامها بالتقارب الإيديولوجي أن تدفع بالحوار الديمقراطي نحو التلاقي الإستراتيجي، الذي لا يفترض الوحدة الإيديولوجية كمعطى أولى، والمرتكز على المبدأ الديمقراطي ومتطلباته من تعددية سياسية، واحترام الرأي الآخر، وقبول التعايش والصراع السلمي الديمقراطي، باعتباره هو الذي يدفعها إلى العمل المشترك، والنضال المشترك، ويضعها أمام اختبارات الواقع، من أجل صياغة وبلورة المشروع القومي الديمقراطي النهضوي كخيار سياسي وتاريخي بما يمكن هذه القوى أو المكونات الأساسية للأمة العربية من رسم استراتيجية عربية جديدة تعطي أجوبة واقعية وعقلانية، وتاريخية، للمعضلات، التي يدور حولها النضال العربي منذ بداية عصر النهضة إلى يومنا هذا: المشروع الوحدوي العربي في مواجهة قوى التجزئة والتفتيت بكل تلاوينها وأشكالها القطرية والطائفية والقبلية، المسألة الديمقراطية وتلازمها مع بناء المجتمع المدني الحديث ودولة الحق والقانون في مواجهة النظام الشمولي التسلطي العربي.
التعليقات (0)