مقالات مختارة

قراءة دبلوماسية ضرورية لخطاب أردوغان

أحمد القديدي
1300x600
1300x600

أبرز استنتاج لخطاب أردوغان هو الاقتصار على ذكر الملك السعودي دون ولي عهده
أردوغان طالب علناً بالبحث عن مرتكبي الجريمة من أسفل السلم إلى أعلاه

أتفهم أنه لا يجد الرأي العام العربي والإسلامي والدولي ما توقعه المواطن العادي المصدوم بالجريمة من حقائق مثيرة أو اكتشافات مخابراتية تركية تضيء له ما خفي من هذه العملية المقززة، التي اقترفت تحت راية التوحيد المرفرفة في علم المملكة، وأتفهم الحذر السياسي الذي تحلى به رجل دولة ذو مصداقية في قامة رجب طيب أردوغان وهو يدير أزمة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات الدولية الحديث. 

لكن الخبير بالشأن الدبلوماسي لا بد أن تكون لديه قراءة مختلفة معمقة استشرافية لخطاب الرئيس التركي يوم الثلاثاء، لأنه خطاب منتظر بشغف مشروع من العالم بأسره، بالنظر إلى فداحة الجرم وغباء مقترفيه، ومدبريه، وتراكم التسريبات المتعاقبة التي لا يخلو منها الفضاء الإعلامي والافتراضي لأي حدث في هذا الحجم.

أول ما يمكن استخلاصه من عرض الرئيس التركي، دقة التسلسل بالدقيقة للأحداث منذ التخطيط لها قبل أيام، ما يؤكد صبغة القصد الجنائي والترصد للضحية والإيقاع به في فخ يوم الثاني من أكتوبر، وإعداد كل عناصر ارتكاب الجريمة بحلول الفريق الإجرامي (وليس الأمني) من المملكة بوسائل تنقل مختلفة بغاية التمويه، ثم طبيعة تشكيل هذا الفريق الذي يضم أحد الأطباء المتخصصين في التشريح وإثبات الاتصالات المستمرة بين مركز القرار أي الرياض (في أي مستوى كان) ومسرح الجريمة أي مقر القنصلية إلى جانب تعطيل التسجيل من الكاميرات بانتزاع القرص الصلب المسجل صباح الثاني من أكتوبر ثم التصريح الرسمي الصادر عن الأبحاث السعودية بأن جثة الضحية سلمت لمتعاون محلي (أي من دولة المقر تركيا) للتصرف فيها! 

كل هذه العناصر التي صدرت عن رئيس الدولة التركية تفيد بطلان ما صدر عن الجانب السعودي من يوم 2 أكتوبر إلى يوم 18 أكتوبر تاريخ الاعتراف بالجريمة.

أبرز استنتاج دبلوماسي لخطاب أردوغان هو الاقتصار على ذكر الملك السعودي وحده دون ذكر ولي عهده كما جرت عادة السلطات السعودية والسبب هو التزام الدولة التركية على لسان رئيسها بالأعراف الدبلوماسية التي تتيح في هذه الحالة تعاون رأس الدولة السعودية مع الدولة التركية من أجل كشف الحقائق وهذه الحقائق التي وصفها السيد أردوغان علنا بالبحث عن مرتكبي الجريمة من أسفل السلم إلى أعلاه. 

وهي الإشارة الأوضح إلى توقع تركيا لتحديد المسؤوليات بكامل ترتيباتها السياسية وعدم الوقوف عند عزل أحمد عسيري وسعود القحطاني والتخلي نهائيا عن تخريج الجريمة في شكل "شجار" بين جمال خاشقجي وبعض الأفراد أدى إلى خنق الضحية ثم إلى التخلص من الجثة وهو التفسير الغبي الذي تندر به الناس كأنما جمال خاشقجي المثقف الملتزم والمعتدل والمسالم ارتاد أحد الملاهي الليلية وهو ثمل مع غانية من غواني المراقص ثم حصل شجار بينه وبين صعلوك من صعاليك الليل انتهى إلى قتل غير متعمد! 

المبدأ الثاني المستخلص من خطاب الرئيس التركي وهو الأهم والأشمل يتمثل في المطالبة بتحوير جوهري لمعاهدة (أو اتفاقية فيينا لسنة 1961)، لأن الذي حصل في مقر القنصلية السعودية بإسطنبول يؤكد أن كل بحث في جريمة ارتكبت داخل حرم دبلوماسي يصبح معطلا أو مستحيلا في إطار المادة 22 من الاتفاقية والتي تقول حرفيا "مادة 22: "تتمتع مباني البعثة بالحرمة، وليس لممثلي الحكومة المعتمدين لديها الحق في دخول مباني البعثة إلا إذا وافق على ذلك رئيس البعثة. وعلى الدولة المعتمد لديها التزام خاص باتخاذ كافة الوسائل اللازمة لمنع اقتحام أو الإضرار بمباني البعثة وبصيانة أمن البعثة من الاضطراب أو من الحط من كرامتها. لا يجوز أن تكون مباني البعثة أو مفروشاتها أو كل ما يوجد فيها من أشياء أو كافة وسائل النقل عرضة للاستيلاء أو التفتيش أو الحجز لأي إجراء تنفيذي". 

هذا ما جاء في المادة 22 من اتفاقية فيينا، ولكن ظروف 1961 ليست ظروف 2018، لأنه تأكد بأن بعض المقرات الدبلوماسية تحولت إلى مسالخ بشرية، وأن بعض الحقائب الدبلوماسية التي حددت الاتفاقية محتوياتها في البند التاسع أصبحت معدة لنقل جثث الضحايا وأدوات الجريمة! 

ما يؤكد ضرورة المراجعة المستعجلة للاتفاقية حتى تتلاءم مع واقع جديد ليس من اليسير التكهن بأسراره وطلاسمه مع تفشي بلطجة جديدة في العلاقات الدولية وتحريف الدبلوماسية إلى عكس غاياتها النبيلة.

ونذكر هنا أن الاتفاقية بدأ سنها من قبل سبع دول فقط في فيينا ذاتها سنة 1815، أي منذ زمن بعيد شعرت فيها تلك الدول (وهي أوروبية في الأساس) أن مبعوثيها ليسوا في أمان لأن بعض الطغاة قتلوا السفراء وأرسلوا رؤوسهم إلى ملوكهم! 

ثم تطورت العلاقات الدولية إلى أن وصلت الدول إلى سن اتفاقية 1961، ثم أضافت إليها مواد تتعلق بحماية البيئة والوقاية من الأوبئة واستغلال الفضاء وتطوير قانون البحار إلى غير ذلك مما طرأ على العالم من مستجدات. 

فالتحوير الذي دعا إليه الرئيس أردوغان هو الذي سيوفر سريعا ملاحقة الإجرام المرتكب تحت غطاء الحصانة والذي يمنع من عقاب الجناة.

(عن صحيفة الشرق القطرية)

التعليقات (0)