قضايا وآراء

قراءة في الأزمة البنيوية للإعلام التونسي

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
في تونس، لا تكاد تختلف الأطراف المتدخلة في الشأن الإعلامي على وجود أزمة في القطاع الإعلامي. لكن، رغم الاتفاق على التوصيف، فإننا نجد اختلافا كبيرا في تحديد آليات الإصلاح. ولا شك في أن هذا الاختلاف يعكس تضاربا في مصالح تلك الأطراف والجهات التي تمثلها. ولذلك، استحال إلى حد الآن الوصول إلى مشروع إصلاحي إجماعي (أو حتى توافقي) ملزم لكل الأطراف.

ورغم دسترة "الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي البصري" (المعروفة اختصارا بـ"الهايكا")، فإننا نستطيع أن نقف على حجم الأزمة في القطاع الإعلامي بملاحظة الفارق بين ما ضبطه المشرع للهايكا من وظائف؛ وبين الواقع الإعلامي التونسي. وقد لا يكون من المبالغة أن نقول إن المشهد الإعلامي التونسي لم يشهد تحسنا يُذكر منذ إرساء الهايكا، بل يمكننا القول بأن هذا المشهد يحث الخطى عكس كل ما جاءت هذه الهيئة الدستورية لترسيخه: "تعديل المشهد الإعلامي وتنظيمه، الاستعداد للمواعيد الانتخابية (أي عدم التأثير في نوايا التصويت أو توجيه الناخبين)، إرساء استقلالية وسائل الإعلام عن كل السّلط السياسية والمالية، احترام قواعد المهنة وتأصيل قيم التعددية الإعلامية".

رغم الدور المركزي الذي أسنده المشّرع للهايكا في تعديل المشهد الإعلامي التونسي، فإن من الظلم أن نحصر المسؤولية عن الوضع الحالي في هذه الهيئة الدستورية. فهي مجرد هيكل دستوري لا يمتلك من الصلاحيات ولا من القوة ما يجعله يواجه استراتيجيات باقي المتدخلين في المشهد الإعلامي، من حكومة ونقابة وطنية للصحافيين وفاعلين سياسيين ونقابيين، ورؤوس أموال "مشبوهة"، وبعض القوى الإقليمية أو الدولية التي لا تخفي انحيازها للخيار الانقلابي.

لو أردنا اعتماد شهادة أحد الأطراف المتدخلة في الشأن الإعلامي، يمكننا الانطلاق من رأي النقابة الوطنية للصحفيين في وضع الإعلام التونسي؛ الذي اتهمته بـ"خضوعه لسلطة رأس المال الفاسد، وتوجيه الرأي العام التونسي نحو خدمة أجندات سياسية و"مافيوزية" لرجال أعمال وسياسيين متورطين في الفساد". وبصرف النظر عن دور نقابة الصحفيين ذاتها في الوصول إلى هذا الوضع الكارثي، من المؤكد أن هذه التهمة تطال الصحفيين، والهايكا، والحكومة، ورجال الأعمال والسياسيين. إننا أمام تصريح لا لبس فيه بضرب من "التضامن في المسؤولية" بين أكثر من طرف، ولكننا نرى أنّ علينا توسيع هذه القائمة، أو بالأحرى وضعها ضمن قائمة أعم نراها مسؤولة أخلاقيا وسياسي (فضلا عن مسؤوليتها الجنائية) عن هذا الوضع اللاسوي في المشهد الإعلامي:

1-حكومة شرعية (حكومة الترويكا) أرادت الاستفادة من تراث الفساد الإعلامي بتدجينه، أو على الأقل بتحييده دون أي رغبة حقيقية في تغييره بنيويا لجعله صوت الثورة. فالحكومة نفسها قد تبنّت منطق الدولة ورهانات السلطة والمحافظة عليها، ممّا جعل من "المثالية" تصوّر إمكانية تبنيها لمنظور إصلاحي، أو حتى قيامها بمحاسبة جادة لرموز الفساد الإعلامي في عهد ابن علي، وضرب الشبكات المالية والزبونية التي يرتبطون بها.

2- معارضة "مجروحة" في نرجسيتها الشعبية بعد انتخابات المجلس التأسيسي، مما جعلها لا تتردّد في التحالف مع بقايا الآلة الإعلامية زمن ابن علي، في إطار منطق "تبادل المنافع" المتمثّل في الدعاية مقابل الحماية، وذلك في إطار حملاتها الانتخابية المبكّرة، والتي انطلقت منذ بدأت حكومة الترويكا في الاضطلاع بمهامها. إننا هنا أمام تحالف براغماتي ميتا- أيديولوجي يشتغل بمنطق الضدية (مناهضة النهضة)، ولا يعنيه كثيرا البعد المهني ولا محاسبة الفساد المترسب من زمن المخلوع ابن علي.

3- رأسمال لا وطني يهيمن على الإعلام الخاص منذ عهد ابن علي، من منطلق الطبيعة الزبونية للدولة، وهذا الرأسمال يعيش وضعية "برزخية" ملتبسة ومؤثرة على "خطوط التحرير" التي تتبناها وسائل الإعلام المملوكة له، فهو يعلم أنه في حكم "المجرم" قانونيا وسياسيا، ولكنه يعلم أيضا أنه يستطيع مقايضة هذا الوضع إمّا بالتوجه إلى المعارضة أو بالدخول في بيت الطاعة الحكومي، ولكنه في الحالتين لن يكون محتاجا إلى القيام بمراجعات ايطيقية أو نقدية لماضيه الأسود زمن ابن علي.

4- نقابة صحفيين لا يمكن لها أن تكون فاعلا جماعيا مستقلا عن استراتيجيات الهيمنة، وذلك بحكم "التجانس" الأيديولوجي بينها وبين أغلب مكوّنات المعارضة من جهة أولى، وبحكم توجّسها خيفة من أي محاولة حكومية لتنظيم القطاع بطريقة قد تمس توازنات القوة "الأيديولوجية" المتحكمة فيه. ولا يخفى على الملاحظ أنّ "شراسة" النقابة ومبدئيتها لم تكن دائما ذات سقف واحد مع الحكومات الانتقالية المتعاقبة، ولا مع الإعلاميين "المتضررين" من قمع الجهاز التنفيذي عندما يكونون محسوبين على توجهات فكرية غير"تقدمية" (على أن نفهم التقدمية هنا باعتبارها "المشترك القيمي" الذي يوحّد بين مواقع ومصالح ليبرالية ويسارية،  هي في الأصل متباينة طبقيا وأيديولوجيا، يحكمها العداء المشترك للإسلاميين، خاصة النهضويين).

5-هيئة تعديل دستورية (الهايكا) تحوّلت، رغم طابعها التعديلي وحياديتها المفترضة نظريا، إلى جزء من الأزمة الإعلامية. فلا يخفى على المراقب للشأن التونسي ارتجالية العديد من قرارات هذه الهيئة و"تسيّسها"، ولا يخفى أيضا انخراطها في استراتيجيات سلطوية وأيديولوجية تجعل من العسير اضطلاعها بمهمتها التعديلية بعيدا عن أي تضامنات أيديولوجية أو فئوية، ولكنّنا نرى أن الهيئة تبقى شريكا ضروريا في أي مشروع جدي لإصلاح الإعلام.

6- سلطة نيو- تجمعية ما زالت لا تفرّق بين الإعلام الحكومي والإعلام العمومي، أي إنها ما زالت تعتبر الإعلام العمومي مجرد أداة للدعاية وللتلهية عن القضايا الحقيقية للمواطنين، ولذلك كثرت تدخلاتها في الخط التحريري للإعلام العمومي. ويُشتبه في تعاملها مع الإعلام الخاص بمنطق الابتزاز والتسويات البعيدة عن القانون أو أخلاقيات الصحافة، وقد كثر في الفترة الأخيرة الحديث عن تدخل رئاستي الحكومة والجمهورية في وسائل الإعلام، سواء بـ"التعليمات" (للإعلام العام) أو بالابتزاز بملفات الفساد المالي لبعض مالكي القنوات الخاصة.

7- جمهور تونسي جزء منه "مسيّس" ومؤدلج يُغريه الحديث عن "قدسية" الحقيقة ومهنية الصحفي، ولكنه لا يريد منه "واقعيا" إلاّ الاندراج في أفق انتظاره، وتحقيق وظيفة واحدة هي خدمة استراتيجياته الصدامية وبرامجه الانتخابية، ولو على حساب كل الحقائق الموضوعية. والجزء الأعظم من الجمهور غير مؤدلج ولا يهمه إلا التسلية والبحث عن الفرجة، حتى تحوّلت الحوارات السياسية إلى منابر سفسطائية هدفها البحث عن الإثارة لا عن الحقيقة، وتحولت باقي البرامج الترفيهية إلى منابر لتدمير قيم الأسرة وهدم المنظومة الأخلاقية بدعوى "حرية التعبير".

ختاما، من الواضح أن المشهد الإعلامي التونسي لا يخضع لطرف مفرد، بل يخضع لجملة من الاستراتيجيات المتنازعة التي أنتجت ما يُسمّى ب"أثر النفي المتبادل"، أي إننا أمام وضعية تنفي فيها كل استراتيجية باقي الاستراتيجيات، وهو ما ولّد نوعا من العطالة المعمّمة ومنع أي إصلاح حقيقي للمشهد الإعلامي. كما أن إصلاح الإعلام ومحاربة ما فيه من فساد ومن شبكات مالية "مشبوهة"، لا يبدو أولوية من أولويات رئيس الحكومة في حربه المعلنة على الفساد، بل لا يبدو هذا الملف أولوية، حتى في "الهئية الوطنية لمكافحة الفساد" برئاسة الأستاذ شوقي الطبيب؛ الذي تحول (رغم كل مزايداته الخطابية) إلى طفل مدلل في العديد من المنابر الإعلامية "المشبوهة". ونحن نستبعد حصول إصلاح حقيقي للمشهد الإعلامي في ظل مسار انتقال ديمقراطي هش، وتحت حكم نخبة سياسية ونقابية؛ هي في أغلب رموزها إمّا "صنيعة" المال السياسي الفساد أو حليفة له.
التعليقات (1)
محمد علي الباصومي
السبت، 20-10-2018 11:06 ص
كما تفضلت بالقول، فإن الجميع تقريبا مقرّ بحالة التردّي الذي يصل حدّ الأزمة في مجال الإعلام العمومي والخاص، على أنّ الكثير منا لسان حاله يقول: لا نحبّك ولا نصبر عليك.. (كما بينت ذلك في النقطة الأخيرة).. على أن لي بعض التعقيبات على مضمون المقال: إن كثرة المتخرّجين من معهد الصحافة، ومحدودية الإنتداب في القطاع العمومي (والذي يخضع لمعايير المحاباة والأيديولوجيا) لا يترك لهم من اختيار سوى طرف أبواب الإعلام الخاص، والذي سوف يلزمهم بالخضوع لمقايضة بسيطة: "تسمعْ الكلام وإلّا نشوف غيرك"، ما يعني أن إحدى الإشكالات هي حاجة الصحفي كمواطن ليكسب عيشه في مجال لا يعرف رواجا كبيرا، ولا يسمح إلا للقلّة من الفتح للحساب "الخاص" (لخدمة غيره في معظم الأحيان لقلّة إيرادات الإعلام الخاص).. قيام معهد الصحافة والعلوم الإنسانية عموما كقلاع "جامعيّة" بأيدي اليسار، يُشكلون فيها عقول طلبتهم لتكون مشبعة بتصورات نمطيّة تستهدف تيارا ايديلوجيا بعينه، وتفتح الطريق أماما المتميزين منهم لمواصلة مسيرتهم التعليمية والمهنية بنجاح حقق لهم السطوة في عدة مجالات، وحوّل هذه المجالات وبعض مؤسسات الدولة إلى نوادي شبه محرّمة على الطائفة الدّنيا.. والحفاظ على هذه النوادي من تسلّل المُختلف لا يمكن بحال أن يؤسس للتعدّد والإنفتاح.. القول بأنّ "حكومة الترويكا أرادت الاستفادة من تراث الفساد الإعلامي بتدجينه، أو على الأقل بتحييده دون أي رغبة حقيقية في تغييره بُنْيويا لجعله صوت الثورة" قويّا بعض الشيء لأسباب منها حساسية مجال الإعلام، و"قداسته" (أو تصويره كذلك) بالنسبة لجميع الفاعلين المحليين والأجانب، واعتبار أي تدخّل فيه لارتداد على الثورة... استعصاء قطاع الإعلام على الإصلاح هو كما ذكرتَ مرتبط بهشاشة مسار الإنتقال الديمقراطي، وتقديري أن من أحد أكثر وجوه الفشل في أداء القوى المحسوبة على الثورة هي تشرذمها، وعدم قدرتها على صياغة خطاب مناسب للمرحلة.. وفشلها في الدخول أصلا في مجال الإعلام.. فعلى سبيل المثال، لا تمتلك النهضة أي وسيلة إعلامية، ربما خوفا من المتربصين بها، أو من سؤالها: "من أين لك هذا؟".. وحتى في صورة امتلاكها لأداة إعلامية، فلن تكون على الأرجح سوى مصدرا إضافيا لإذكاء خطاب التنافي وتهميش القضايا الحقيقية للوطن..