مقالات مختارة

القمع السلطوي لا يلغي حركات الإصلاح

سعيد الشهابي
1300x600
1300x600

تزداد قضية المرحوم جمال خاشقجي تعقيدا بمرور الوقت، ليس بسبب الاختلاف على ما جرى بل لمدلولاتها الأوسع، خصوصا في ما يتعلق بقوى المعارضة العربية. وخلال الأسبوعين اللذين أعقبا الجريمة النكراء اتضحت أمور عديدة: أولها جنوح القوى المعنية كافة نحو التهدئة؛ ومن ذلك إعلان الولايات المتحدة أنها لن تضحي بمصالحها الاقتصادية مع السعودية بسبب هذه القضية، وإعلان تركيا قبولها مقترحا سعوديا بتشكيل مجموعة عمل مشتركة للتحقيق فيها، وعجز المجتمع الدولي عن الاتفاق على موقف جاد للتعاطي مع جريمة ارتكبت تحت غطاء الدبلوماسية المزعومة.

 

كما اتضح ان تفصيلات الجريمة عرفت منذ حدوثها لدى الجهات الاستخباراتية خصوصا التركية، ولذلك فثمة استغراب من الموقف التركي المتردد طوال هذه الفترة، برغم انتهاك السيادة التركية بشكل صارخ. فلم يستدع السفير التركي لدى الرياض، ولم تكشف تفصيلات الجريمة بشكل يضع حدا للتكنهات. وليس مستبعدا أن تكون هناك ضغوط غربية بعدم الاستعجال بإعلان ذلك، والاستفادة من عامل الزمن لتهميش القضية وتحجيم دورها في تأجيج الرأي العام، والبحث عن طريقة إخراج بعيدة عن الإثارة، تساهم في التوصل إلى توافق مع السعودية وغلق الملف تدريجيا.


لو قورنت طريقة التعاطي مع جريمة اغتيال جمال خاشقجي بما حدث بعد إعدام السعودية عالم الدين السعودي الشيعي، الشيخ نمر النمر عام 2016، لاتضح الفارق في ردود الفعل حول القضيتين. فقد خرجت المظاهرات والاحتجاجات في إيران والعراق والبحرين ولبنان وباكستان والهند وإفريقيا ودول أخرى احتجاجا على الإعدام. وتعرضت السفارة السعودية في طهران للحرق من قبل المحتجين، الأمر الذي أدى لقطع العلاقات بين البلدين. واستطاعت السعودية جر دول أخرى لقطع العلاقات مع إيران منها البحرين وجيبوتي. ولذلك فإن السماح بتهميش قضية خاشقجي تدريجيا أو السعي لتبرئة السعودية عمليا من جريمة الخطف والقتل واستغلال الحصانة الدبلوماسية لارتكاب جريمة قتل بشعة، يعتبر تعديا على العدالة وتجاهلا لحقوق البشر وتماهيا مع القتلة.


ماذا يعني ذلك لقوى المعارضة العربية؟ في بداية الأمر اعتقد الكثيرون ان المجتمع الدولي سيقوم بمعاقبة السعودية بشكل صارم، وأن ذلك سيردعها وغيرها من الدول التي تلاحق معارضيها خارج الحدود عن ارتكاب جرائم مماثلة مستقبلا. ولكن يبدو أن الأمر ليس كذلك، وأن الصدمة الأولى أخذت دورها ثم تلاشت. في البداية أظهر الغربيون شيئا من الحماس خصوصا أن خاشقجي كان قد أقام علاقات واسعة في أمريكا، وبدأ يكتب عمودا بصحيفة «واشنطن بوست». وفي عالم يبتعد تدريجيا عن قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، أصبحت المصالح الاقتصادية المعيار الأول لتحديد سياسات هذه الدول وعلاقاتها. ومن المؤكد أن الإعلام سيكون له دور مهم في هذه القضية، ولكن الإعلام الغربي محكوم بسياسات دوله، فهو يتناغم معها ويدعمها وإن أبدى اعتراضات على بعضها. وستبقى الأنظار موجهة لصحيفة «واشنطن بوست» ومدى استمرار اهتمامها بقضية خاشقجي الذي كان يكتب عمودا فيها. وبرغم ما يقال عن الإعلام الغربي فقد أصبح هو الآخر أقل بريقا وأكثر عرضة لمحاولات التأميم غير المعلن من قبل أنظمة الحكم القائمة. فليست هناك حرية تعبير مطلقة في الدول الغربية، بل محكومة بمصالح الدول من جهة ومصالح مالكي وسائل الإعلام من جهة أخرى. والأمل أن تصر الصحيفة المذكورة على إبقاء القضية ساخنة، لكي يتوفر قدر من الحماية ليس للإعلاميين فحسب، بل للمعارضين في بقية الدول أيضا.


لقد توسعت دائرة القمع السلطوي للمعارضين لتعبر حدود الوطن وتستهدفهم في منافيهم، سواء بمطالبة الإنتربول باعتقالهم أم خطفهم أم قتلهم.


في الأسبوع الماضي أعلنت منظمة «أمريكيون من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان في البحرين»، نجاحها في إزالة أسماء ثلاثة من المعارضين البحرانيين من القائمة الحمراء للشرطة الدولية «إنتربول»، بعد أن أثبتت أن حكومة البحرين قدمت وثائق مزورة للجهاز الدولي، وأنها فعلت ذلك مع عشرات المعارضين. فكل من يعارضها في الخارج تضفي عليه صفة الإرهاب وتقدم اسمه للإنتربول.

 

ماذا يعني ذلك؟ لقد توسعت دائرة القمع السلطوي للمعارضين لتعبر حدود الوطن وتستهدفهم في منافيهم، سواء بمطالبة الإنتربول باعتقالهم أم خطفهم أم قتلهم. فالإعلامي جمال خاشقجي ليس الأول ولن يكون الأخير من المعارضين الذين تستهدفهم سلطات بلدانهم. وعلى عكس ما يتصوره أي نظام يستهدف معارضيه بأساليب غير قانونية، فإن هذه السياسة تعكس ضعف النظام وهلعه وشعوره بالخطر الدائم من مناوئيه. فمنذ استيلاء محمد بن سلمان على السلطة قبل ثلاثة أعوام، ساهمت سياساته في إضعاف الأعمدة التي يقوم عليها الحكم السعودي: الشرعية الدينية التي استند عليها منذ قيامه ممثلة بالمذهب الوهابي، والدعم الأمني والعسكري الأمريكي ووحدة البيت السعودي والمال النفطي الهائل. هذه الدعامات تتلاشى تدريجيا إما بفعل سياسات ولي العهد، أو وفق المناخات المناخات السياسية والاقتصادية.

 

ولذلك يشعر النظام بالتوتر المستمر ويبحث عن أعداء وهميين لإشغال الرأي العام المحلي عن المشاكل الحياتية وتراجع الإنفاق العام ومعه مستويات المعيشة، أو ارتدادات سياساته الخاطئة كحرب اليمن ورعاية الإرهاب والتطرف. ولم يبق من دعامة قوية للحكم السعودي سوى الدعم الأمريكي الذي ترسخ في عهد الرئيس الحالي. وحتى هذه الدعامة مهددة بالتداعي بعد أن تقلصت الإمكانات المالية لدى الرياض بسبب الإنفاق غير المرشد. وكان ترامب واضحا في مطالبته السعودية بدفع المزيد من الأموال في مقابل حمايتها، وقد كرر ذلك مرارا في الشهور الأخيرة باسلوب ممجوج. إنه يطالب بالمزيد من المال وفي الوقت نفسه يضغط على السعودية لخفض أسعار النفط، فكيف يتحقق ذلك؟


يمكن قياس مدى قوة أي نظام حاكم بطريقة تعاطيه مع مناوئيه، وليس بما يملكه من أسلحة متطورة وطائرات حديثة ومنظومات صاروخية عملاقة. وقد أظهرت الحرب السعودية ـ الإماراتية على اليمن أن هذه الأسلحة لا تحقق نصرا على شعب صامد يدافع عن أرضه واستقلاله. هذه الحرب التي أكلت الأخضر واليابس، تتحول هي الأخرى إلى مستنقع لوث الأطراف المشاركة فيه. كانت السعودية تسعى لإثبات قوة ذراعها العسكرية ولكنها فشلت في ذلك وخسرت الكثير من مصداقيتها. وبدلا من الاستفادة من الدرس اليمني، أقدمت الرياض على مغامرة أخرى كرست الانطباع بحدود النفوذ السعودي. فاستهدفت قطر، وهي الدولة الجارة وعضو مجلس التعاون الخليجي. كان ولي العهد السعودي يهدف لإظهار هيمنته على حدوده الشمالية والشرقية بشكل مطلق، بالإضافة لهيمنته على الداخل السعودي سواء باستهداف المعارضين واعتقال الآلاف منهم، أم بقصف المنطقة الشرقية بشكل متواصل وقتل شبابها (آخرهم ثلاثة اغتالتهم القوات السعودية بمدينة القطيف هذا الشهر: محمد حسن الزايد، مفيد حمزة علوان، خليل إبراهيم المسلم).


هذا الضعف دفعه لتصعيد استهداف معارضيه بشكل غير مسبوق. فقد اختطف أربعة امراء على الأقل من دول أوروبية كألمانيا وسويسرا، واسترجع ناشطة حقوقية من الإمارات (لجين الهذلول). وواصل تنفيذ أحكام الإعدام بوتيرة غير مسبوقة. وذكرت منظمة «ريبريف» المعنية بقضايا الإعدام أن السعودية أعدمت 640 شخصا في السنوات الأربع الماضية. وهناك الكثيرون من المعتقلين ومن بينهم علماء دين، معرضون للإعدام بسبب آرائهم ومواقفهم. إن التوحش في التعامل مع المعارضين لا يهدف لتصفيتهم فحسب، بل لبث الرعب في قلوب الآخرين الذين يعارضون النظام أو يطالبون بما ليس متوفرا من حقوق أو دساتير أو أنظمة.

 

عن صحيفة القدس العريي
0
التعليقات (0)