قضايا وآراء

المسكوت عنه في الندوة الإعلامية لليسار الجبهوي

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
بعد أن أعلن الرئيس التونسي نهاية التوافق بينه وبين حركة النهضة (بطلب منها أو بسعب منها على حد تعبيره في حواره التلفزي الأخير)، كان من المتوقع عند المتابعين للشأن التونسي عودة بعض الملفات التي عاشت بياتها الشتوي في فترة التوافق. ومن أبرز تلك الملفات، نجد ملف اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد والقيادي القومي الحاج محمد براهمي، رحمة الله عليهما. وبصرف النظر عن العلاقة الراجحة بين تحريك هذا الملف وبين انحياز الجبهة الصريح لشق ابن الرئيس في صراعه مع رئيس الوزراء يوسف الشاهد، فإن التحشيد الإعلامي الذي سبق الندوة كان عند أغلب المراقبين كالبرق الخُلّب الذي أخلف وعده عند سماع المعطيات"السرية" و"الخطيرة" التي بشّر بها القائمون على هذا الحدث الإعلامي.

ونحن في هذا المقال، لن نعود إلى الندوة التي قتلتها وسائل الإعلام التقليدية ومواقع التواصل الاجتماعي تحليلا ونقدا، بل سنحاول أن نقف عند المسكوت عنه في تلك الندوة أو عند ما يؤسسها في العقل السياسي اليساري التونسي. ولأننا نرفض التدخل في عمل القضاء أو الأجهزة الأمنية، ولأننا لا نزعم القدرة على التحليل العلمي والموضوعي للوثائق المزعومة، فإننا نترك تقدير القيمة الحقيقية لتلك الوثائق للجهات الرسمية. فما يهمنا بالتحديد هو تقديم عناصر قد تفيد في الإجابة عن السؤال التالي: ما هو مدى مصداقية هذه الندوة إذا ما ربطناها بالمواقف السابقة لليساريين من المنظومة الحاكمة والإسلاميين قبل الثورة وبعدها؟

لا يخفى على أي مهتم بالشأن التونسي أنّ اليسار التونسي قد كان طرفا أساسيا في الصراعات الهووية الثقافوية قبل الثورة وبعدها. وليس يعنينا في هذا المقال مساءلة دور اليسار "الوظيفي" في منظومة حكم المخلوع منذ انقلابه على "الفاصل الديمقراطي" القصير؛ ودخوله في مواجهة أمنية شرسة مع حركة النهضة أوائل التسعينيات من القرن الماضي. فهذه مسألة تهم المؤرخين الذين يستطيعون تحميل كل طرف مسؤوليته في قتل الحياة السياسية؛ وتركيز منظومة الاستبداد الجهوية- الأمنية- الزبونية تحت شعار "الدفاع عن النمط المجتمعي التونسي" من تهديدات "الظلامية" و"الرجعية الدينية". فنحن معنيون أساسا بأداء اليسار (خاصة الجبهة الشعبية) بعد الثورة ودورها "اللاوظيفي" من جهة استحقاقات الثورة، ومن جهة بناء جمهورية المواطنة التي يُفترض فيها مأسسة تلك الاستحقاقات على أساس مواطني لا على أساس آخر.

بكثير من الاختزال الذي لا يعني التسطيح وانعدام القيمة التفسيرية، يمكننا أن نقول إن الصراعات الهوياتية الثقافوية التي أعقبت الثورة قد دفعت بالقوى اليسارية إلى العودة إلى المربع الأيديولوجي؛ الذي حدّد مواقفها وخياراتها الاستراتيجية خلال المواجهة بين المخلوع ابن علي والنهضويين. فقد ارتدت القوى اليسارية إلى منطق التناقض الرئيس مع الرجعية الدينية (الممثلة أساسا بحركة النهضة) والتناقض الثانوي مع البرجوازية الرجعية (الممثلة أساسا في القوى التجمعية الجديدة بقيادة حركة نداء تونس). لذلك لم تجد القوى اليسارية حرجا في "التطبيع" مع ورثة التجمع، بل لم تجد حرجا في شرعنة وجودهم داخل "العائلة الديمقراطية" باعتبارهم "رافدا" مهما للقوى التقدمية والحداثية في مواجهة الرجعية والظلامية. وقد كان هذا الخيار هو بوصلة مواقف القوى اليسارية الجبهوية خلال مختلف المراحل الانتقال الديمقراطي، بداء بالمرحلة التأسيسية، مرورا بفترة الترويكا ووصولا إلى عودة ورثة التجمع إلى مركز السلطتين التنفيذية والتشريعية.

بارتداده عن مقولة الصراع الطبقي واعتماده المتضخم على مفردات الصراع الهوياتي؛ التي تصل أحيانا إلى حد إدارة الصراع على أساس وجودي لا علاقة لها بالحقل السياسي وبآليات إدارته للاختلاف، ترسّخت عند العديد من المواطنين قناعة مفادها أنّ اليسار في تونس ليس إلا ملحقا وظيفيا في خدمة استراتيجيات النواة الصلبة لمنظومة الحكم الجهوية- المالية-الأمنية، أي بالتحديد ملحقا ببعض مراكز القوى فيه. فتناقض هذا اليسار لم يعد مع منظومة الاستبداد والفساد والتبعية التي استهدفتها الثورة، بل هو أساسا مع الوافد الجديد على تلك المنظومة، أي مع حركة النهضة ومرجعيتها الإسلامية تحديدا. ولعل ما يزيد من مصداقية هذه القراءة لأداء الجبهة الشعبية هو أنّ عداءها "للنهضة" لا يمكن أن يُفسَّر بانضمام هذه الحركة لمنظومة الحكم "الرجعية" و"العميلة"، كما يحلو لليساريين أن يسمّوها.

فلو كان الأمر كذلك لكانت المفاصلة السياسية عن نداء تونس أعظم؛ لأنه يُمثل وريث تلك المنظومة والقائم على رعاية مصالحها المادية والرمزية، ولو كان الأمر هو عداء لخيارات سياسية أو أيديولوجية تنيتها قيادات النهضة بعد الثورة، فإننا سنعجز عن تفسير الموقف المعادي للإسلاميين من ضحايا القمع زمن المخلوع، أي الموقف من رد الاعتبار المادي والمعنوي لهؤلاء وفق ما تفرضه المواثيق الدولية ومعايير العدالة والإنصاف، والموقف من هيئة الحقيقة والكرامة التي تحالف العديد من اليساريين مع ورثة التجمع على استهدافها والطعن في مصداقية رئيستها. ولعل ما يثير حساسية الوعي الشعبي أكثر مما تقدم كله، هو أنّ صدامية الجبهة لم تنحصر في خيارات قيادات النهضة ولا في آليات التعامل مع ضحايا الاستبداد من الإسلاميين، بل تعدّته لتصبح صدامية مع الإسلام ذاته - على الأقل حسب الفهم الشعبي العفوي لمواقف الجبهة - وهو أمر لا يمكن أن يغيب على أي متتبع لمواقف اليسار في العديد من القضايا الخلافية، وآخرها قضية وجود ثكنات في المؤسسات العسكرية.

لقد جاءت الندوة الإعلامية لهيئة الدفاع عن شكري بلعيد والحاج محمد براهمي في سياق "مشبوه" منشأ ومآلا (كما يقول صديقنا المناصل الاجتماعي لامين البوعزيزي)، وهو سياق كان من الممكن للعقل السياسي الجبهوي أن يحدّ من آثاره السلبية على مخرجات ندوته؛ لو أنه أظهر تعاملا مختلفا و"مبدئيا" مع ظواهر الإرهاب والتسفير إلى سوريا والاغتيال السياسي والأمن الموازي وغيرها من القضايا التي طرحتها الندوة. فبصرف النظر عن المسؤولية السياسية المؤكدة لحركة النهضة وللترويكا عمّا حصل خلال وجودهم في الحكم، يبدو من الإبعاد في النجعة في التسييس والأدلجة تحويلُ المسؤولية السياسية إلى مسؤولية جنائية؛ عبر "قضاء مواز" لا يُفرّق بين "المشتبه فيه " و"المتهم" و"المجرم". كما يبدو من الغريب في الندوة استبعاد كل الفرضيات الأخرى المتعلقة بالجهة المشتبه في وقوفها وراء الاغتيالات (بما فيها تلك الفرضية التي ذكرها الأستاذ خالد عواينية صهر المرحوم البراهمي وعضو هيئة الدفاع عنه). أما عمليات التسفير إلى سوريا، فإن تركيز الجبهويين على اتهام النهضة جعلهم يُعرضون عن طرح أسئلة هامة قد تساعد على فك شفرة سؤالي الإرهاب والتسفير إلى سوريا بعد الثورة: من كان وراء عمليات التسفير لأفغانستان و البوسنة والهرسك خلال حكم المخلوع (داخليا وخارجيا)؟ وما علاقة بعض القيادات الأمنية التي تقلدت مناصبها بعد الثورة بذلك؟ وما هو دور أولئك "الجهاديين" زمن ابن علي في بناء تنظيم أنصار الشريعة بعد الثورة؟ وما هي الجهات "المدنية" التي كانت تربطها علاقات بالأجهزة الأمنية زمن ابن علي ووظفتها بعد الثورة لبناء ما يُسمّى بالأمن الموازي؟ وما علاقة كل ذلك بجميع الفاعلين الجماعيين، وليس بحركة النهضة فقط؟

إنها جملة من الأسئلة "المقموعة" في الندوة الإعلامية لهيئة الدفاع عن المرحومين شكري بعليد ومحمد البراهمي، بل هي أسئلة مكبوتة في مجمل الخطابات اليسارية. وهو كبت قصدي ذو خلفيات أيديولوجية (العداء للإسلام السياسي الذي قد يتحول أحيانا إلى عداء للإسلام ذاته) وخلفيات سياسية (دعم شق الرئيس وابنه في مواجهة التحالف الجديد بين رئيس الوزراء وحركة النهضة) وخلفيات انتخابية (إعادة التحشيد الهووي للناخبين بترسيخ التناقض المطلق والنهائي مع حركة النهضة). ولا شك في أن أكبر متضرر من ذلك كله هو "الحقيقة" ذاتها، ولكن هل إن اليسار التونسي مازال مشغولا بسؤال "الحقيقة" (معرفيا وسياسيا) بعد أن تخلى عن المحدد الثاني من محددات المثقف العضوي: "الانحياز لمن هم أسفل السلم الاجتماعي"؟
التعليقات (1)
محمد علي الباصومي
السبت، 06-10-2018 11:41 ص
في تقديري أنه بمجرد تقاطع إشكالية معينة مع "مقدساتنا" ومجال عواطفنا، يقبل العقل طوعا التحول من منطق الموضوعية والعلمية والحياد إلى منطق التبعيّة والخدمة الوظيفة.. ومن طرح الأسئلة الإستفهامية إلى طرح الأسئلة البلاغية الخبرية (كما عرّفها الكاتب في مقال سباق له).. وقد أردت من خلال هذه الملاحظة التمهيد لطرح أسئلة ذات صلة بالمقال المنشور: هل إن عدم تماهي الغنوشي مع السيد الرئيس يعبر عن إعادة رسم لتحالفات جديدة، أو هو ينسجم مع استراتيجية حددتها الحركة سلفا، وهي إيلاء الأولولية القصوى لإكمال المسار الديمقراطي مهما كان الثمن، بطريقة يضمن تواجد الإسلاميين في المشهد السياسي، ويحافظ على سلطة الصندوق.. وما وقوفهم مع الشاهد الذي لم يختاروه إلا انعكاسا لاستراتيجية تفضل الفشل على الفراغ أو إمكان انحدار أكثر خطرا نحو فردانية الحكم وأدلجته؟.. ما مدى صحّة القول بأنّ القوى اليسارية "إلى منطق التناقض الرئيس مع الرجعية الدينية.. والتناقض الثانوي مع البرجوازية الرجعية"، بتعبر آخر: هل كان اليسار في أوج نضاله ضد الإستبداد السياسي يرى في هذا الإستبداد العدوّ للحرية والحليف لرأس المال.. أم كان يرى فيه عائقا دون تحقيق حلمه بالوصول إلى سلطة سوف يوظفها لانزيل مُسقط لمشروع لينين وستالين على الواقع المحلي؟ مشروع تمّ "توطينه" بتغييب شبه كلي لأسسه وتضخيم المسائل الإجتماعية المرتبطة بمظاهر التديّن؟.. أليس من الممكن أن يكون شعار "الدين أفيون الشعوب" هو اليافطة الكبرى لمشروع عموم اليسار من بدايات تأسيسه، وأن تقديرهم لموازين القوى جعلتهم يعتقدون بأنهم سوف يستبدون بالشأن السياسي بمجرد سقوط استبداد دولة ما بعد "الإستقلال"، مستهينون بقدرة الإسلاميين على التفاعل إيجابيا مع مقتضيات السياسة، وأن ما عاينوه بعد الربيع العربي من نكسة على مستوى فشلهم، وقدرة الإسلاميين على التطور.. جعلهم "يندمون" عمليا على إسقاط الإستبداد، والعودة إلى أصل مشروعهم: "الدين أفيون الشعرب".. وأضرب لما سبق مثالا قد يبدو بعيدا بعض الشيء: نشأ وتدرّب معاوية منذ نعومة أظفاره على تنمية مهاراته السياسية والإقتصادية، مع شحنة عاطفية كبيرة من العداء للثورة المحمدية.. وهذه المهارات هي التي أرشدته مع أبيه إلى القبول بالأمر الواقع في "الفتح"، ومحاولة التماهي مع القادة الجدد دون تغيير جذري في الأسس الفكرية.. ثم كانت فرصة الفوضى التي أعقبت قتل الخليفة الثالث لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء على المستوى السياسي، وتوظيف مواطن القوة التي وفرها الدين الجديد لمواصلة نفس المنهج الذي تربى عليه معاوية: بورجوازية وتنمية المال واستبداد بالشأن مع مهارة في إدراته.. أي أن معاوية بهذا المعنى لم يرتدّ على أفكاره ومشروعه، بل حيّن مشروعه بطريقة مناسبة.. مع إشارة أخيرة، وهي أن سطوة المنطق العاطفي هو الذي يفسر في تقديري عدم قدرة العقل اليساري عموما على طرح أي أسئلة تخص "عقيدته"، وتقديمه لمعطيات ساذجة أو غير دفقيقة أو مكذوبة من أجل تحقيق غاياته.. ومن ذلك القول بوجود قاعات للصلاة في المؤسسات العسكرية..