قضايا وآراء

" بلاد العرب أوطاني ".. بين زجل الأحلام ومراثي الواقع

فريد بغداد
1300x600
1300x600
المتمعن في سيرة عالم عربي مسلم من شاكلة ابن خلدون؛ سيجد أنّه وخلال عمره الذي لم يمتد لأكثر من ستين سنة قد عايش أحداثا جساما باضطراباتها الاجتماعية وقلاقلها السياسية، وعاين ثورات وانهيار دول واندثار ممالك وصعود سلاطين وسقوط أمراء، كلّ ذلك وهو يتنقل بين دويلات العالم الإسلامي التي لم يكن بين حكامها من الودّ ما يشجع أحدهم على النّظر في وجه الآخر.

وُلد ابن خلدون في تونس، وفيها ترعرع ونشأ وتعلّم، ومنها خرج إلى بسكرة في المغرب الأوسط (الجزائر حاليا)، ثمّ إلى فاس بالمغرب الأقصى حيث قلّده سلطانها مناصب عدّة، ثمّ إلى غرناطة فإشبيلية ببلاد الأندلس، وبعدها قفل راجعا إلى تيهرت في الجزائر.. كلّ ذلك وهو يتنقل بين التأليف ومشاغل الحكم والسياسة، ثمّ من جديد إلى تونس التي لم يلبث بها طويلا ليشد الرحال إلى بيت الله الحرام حاجا، وبعد فراغه من المناسك يتوجه صوب الإسكندرية ليستقر بعدها بمصر بقية عمره.

لم يكن ابن خلدون وحيد زمانه ولا فريد عصره في مجال السفر والترحال والاستقرار تارة والرحيل أخرى، فقد سار على هذا الدرب من الضرب في الأرض والطواف في أرجاء العالم الإسلامي وقتها وقبلها وبعدها الكثير من الناس، طلبا للعلم أو التجارة أو الحج والعمرة، أو سعيا وراء الرزق أو المكانة أو الحظوة أو الجاه والسلطان، كل ذلك وهم ينتقلون من دولة إلى أخرى ويقطعون الحدود دون تأشيرة أو جواز سفر، جنسيتهم هي الدين واللغة والقومية والقبيلة.

ما حدث مع ابن خلدون من إمكانية التنقل من دولة إلى أخرى والاستقرار في أيّ البلاد العربية والإسلامية حلّ، وتمكنّه من مزاولة مناصب دينية وعلمية وسياسية في عدّة إمارات ودول؛ يقابله في عصرنا ما يعرف بتمتع مواطني الكيانات الفوق قومية بالحقوق المدنية والسّياسية ذاتها داخل دول تلك الكيانات، على غرار ما هو حاصل في الاتحاد الأوروبي، وقد أمكن ذلك لابن خلدون ولكثير من معاصريه دون ممانعة سلاطين تلك الفترة على ما كان بينهم من الخصومة والعداوة التي كانت تصل حدّ إعلان الحروب.

وعلى هذا، وقياسا للحركة الخطية للزمن التي يستعملها الكثير من فلاسفة التاريخ بقصد تحليل التطور الحضاري للشعوب والأمم المتعاقبة، سنجد أنّ تلك الدّويلات في عصر ابن خلدون قد سبقتنا بمراحل وحقب رغم كونها جاءت قبلنا تاريخيا. وبهذا، وباستعارة التعبير الماركسي في تحليل الجدلية التاريخية وتطوّر مراحلها عبر الزمن، يصبح معاصرو تلك الأزمنة الغابرة تقدميّون ونضحى نحن رجعيون.

بالرجوع إلى واقعنا العربي الذي يبدو متخلفا كثيرا بالمقارنة مع ما تعيشه أوروبا من حدود مفتوحة أين لا مجال للتّأشيرة أو الازدواج الضريبي، بل حتى لوجود الرسوم من الأصل، ومن تنقل للأشخاص والبضائع وتمتّع بالحقوق المدنية والسياسية في جميع دول الاتحاد، سنجد أنّنا نعيش في القرن الواحد والعشرين بملابسات عصور ما قبل ابن خلدون.

وعند ابتعادنا في خط الرجعة حيث يستقر بنا المطاف في عصور ما قبل الإسلام حتى لا نقول العصر الجاهلي فنضيف صفة الجهل إلى تخلّفنا؛ سنجد القبائل العربية يستبيح بعضها البعض وتغزو إحداها الأخرى، فتقتل وتنهب وتسبي، حتى إذا ما حلّت الأشهر الحرم ساد السّلام وعمّ الوئام، فأين هذه الحال ممّا يحدث الآن في سوريا واليمن وليبيا، لا يكاد المرء يجد فرقا بين رجب وشوال، فالقتال مباح طوال السّنة.

على تلك العهود الموغلة في التّخلف والموحلة في الظلام، وعلى ما كان بين القبائل من ثارات وأحقاد لم يحدث أن مُنعت قبيلة من دخول مكة بغرض الحج أو العمرة، على ما كان بين قريش التي كانت تؤول لها مهمّة إدارة مناسك وطقوس الحج وبين العديد من القبائل والعشائر العربية حينها من ضغينة وحروب سجال. أين تلك الأخلاق الجاهلية مما تعيشه الأمّة الآن من منع لدول وشخصيات ومؤسسات بيت الله الحرام وأداء مناسكه وشعائره؟ لقد كانت قريش بجاهليتها أشدّ التزاما بروح الإسلام وسماحته، حتى قبل مبعث نبي الرّحمة عليه الصّلاة والسّلام، ممّن يديرون مناسك الحج في زمننا ويحتكرون الدّين ويمذهبونه بما يتفق مع هواهم وسياساتهم.

إنّ ما أقدمت عليه السلطات السعودية من منع لنصف مليون فلسطيني من زيارة الأماكن المقدسة؛ يعد انسياقا فاضحا وراء مخططات ترامب لتفكيك القضية الفلسطينية، وهو فعل لا ينفك عن وقف أمريكا دعمها لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا".. كلّ ذلك يدخل في مخطط ترهيب الفلسطينيين وإجبارهم على الخضوع لبنود صفقة القرن. وفي حين يمنع الصّهاينة الفلسطينيين من المسجد الأقصى؛ يحول آل سعود بينهم وبين المسجد الحرام.

صحيح أنّ تنقل الأفراد من بلد عربي إلى آخر لا يمثل الإشكالية الوحيدة التي تطبع العلاقات البينية العربية المكهربة على المستوى الدولي والنخبوي وحتى الشعبي، فهو يعتبر مشكلة ضمن منظومة من المعضلات على غرار التكامل والاندماج والوحدة، ورفع الحواجز والعوائق عن المبادلات البينية التجارية والمالية والثقافية.

وخلال عقود من نكبات وحروب شهدتها الأمّة العربية لم يعان المبعدون والمهجّرون واللاّجئون من مصائب فقد الأوطان ومآسي الغربة فحسب، فقد تجرعوا مِرارا مَرارات تنكّر أنظمة يحكمها بنو جلدتهم هاجروا إلى دولهم في تغريباتهم العديدة والطويلة قسرا ومرغمين، واصطدموا بجمود قوانين وشرائع تلك الأنظمة العربية التي أبت أن تساوي بينهم وبين شعوبها في الحقوق والجنسية والعمل والسكن، فعوملوا كطارئين أو في أحسن الأحوال كانوا وظلّوا مواطنين من الدّرجة الثانية، وهي الحال التي عاشها أبناؤهم وأحفادهم الذين ولدوا في بلدان عربية لكنّها في الحقيقة أجنبية، رغم أنّهم لم يبصروا النّور إلاّ فيها ولم يعرفوا غيرها؛ فهي مسقط الرأس ومهوى الفؤاد، وفي الغالب ستكون مسجى الجسد وموئل الرّوح عندما يحلّ الأجل.

وما يحزّ في النّفس ويقهرها؛ حينما نسمع عن احتضان دول غربية لا تربطها بأولئك التّعساء المشتتين في الأرض رابطة من عرق أو دين أو لغة، فتتيح لهم من الحقوق بل ومن الامتيازات والتسهيلات ما لا تحدّه حدود، حتى يصبح المهاجر إبن بلد، حاله كحال أي مواطن أصيل من تلك الدولة، لا يكاد يفرّق بينهما حق أو واجب. وكم من عربي تسنّم في المراتب وترقّى في المناصب إلى أن أصبح رئيسا في بلاد نعدّها مع دولنا في نفس الخانة من التصنيف، نحن وهم عالم ثالث متخلف.. ألا يعد ذلك مفارقة عجائبية.

بل إنّ ما يعيشه المواطن العربي في الدّولة التي يحمل جنسيتها فضلا عن أن يكون متغرّبا في بلد عربي آخر، من مهانة وإذلال وقيود وضيق أفق وإهدار حقوق وظلم اجتماعي، هو في حد ذاته غربة لا تختلف كثيرا عن غربته في بلاد النّاس.. إنّه حال سجناء الرأي والسياسة في مصر والسعودية والإمارات وسوريا وغيرها.
التعليقات (1)
محمود أحمد
الأربعاء، 26-09-2018 12:51 م
ما يعيشه العرب والمسلمين اليوم من دسائس ومآمرات من طرف بني سلول(ال سعود) يفوق ما عاشه المجمع الإسلامي الفتي من مآمرات يهود بني قريضة وبني قنيقاع...لهذا علينا إجلاء بني سلول من الجزيرة العربية كما فعلها سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما..فنطهر أرض الإسلام من رجس هؤلاء الخبثاء

خبر عاجل