مقالات مختارة

مصر: كشف حساب الكامب

عبدالحليم قنديل
1300x600
1300x600

ربما لم يتبق من اتفاقية كامب ديفيد التي عقدت قبل أربعين سنة، سوى ميدالية الكونغرس الأمريكي الممنوحة لاسم الرئيس السادات، فلم تتحقق أبدا وعود اتفاق الكامب الموقع في 17 أيلول/سبتمبر/1978، ولا وعود “معاهدة السلام” التي وقعت في 26 آذار/مارس 1979، فلم يعترف بها الشعب المصري أبدا، وأسقط بالضربة القاضية كل محاولات النفاذ بالتطبيع إلى العمق المصري، تماما كما حطم الجيش المصري أخطر قيود نزع السلاح، وعادت قواته إلى الحدود المصرية الفلسطينية لأول مرة من خمسين سنة.


ولم تكن معركة الشعب المصري سهلة ضد عار كامب ديفيد، وقد فرضوا عليه اتفاقية فمعاهدة، تلزم بالتطبيع الكامل مع إسرائيل شعبيا ورسميا، وهو ما رفضه الشعب المصري بغالبه الساحق من أول لحظة، فقد قدم المصريون مئة ألف شهيد وجريح في الحروب مع كيان الاغتصاب الإسرائيلي، ومع صدمة تبادل السفراء، كانت سيرة الشهداء تتجدد، وعلى طريقة سعد إدريس حلاوة وسليمان خاطر، والعمليات الجريئة لتنظيم “ثورة مصر” في قلب القاهرة، وقد كان تنظيما ناصريا سريا مسلحا، طارد بالرصاص طواقم المخابرات الملحقة بسفارة إسرائيل في القاهرة، ولم يقتل مصريا واحدا، ولا حتى على سبيل الخطأ الميداني، وجرى اتهام خالد جمال عبد الناصر مع محمود نور الدين ورفاقه في محاكمات التنظيم، بالتوازي مع غضب شعبي سلمي فوار، نجح سريعا في إلغاء مشاركات إسرائيل في معرض القاهرة الدولي للكتاب، ثم في معرض القاهرة الصناعي الزراعي، ومطاردة كل صور التطبيع الرسمي في مجالات الزراعة والثقافة والتعليم، ثم في القفزة الكبرى، التي خلعت مبارك أعظم كنز استراتيجي لإسرائيل، في ثورة شعبية عظمى، قادت توالياتها إلى حرق مقر السفارة الإسرائيلية المطل على نيل الجيزة، وألغت من قبل وجود ما كان يسمى “المركز الأكاديمي الإسرائيلي”، ومن وقتها حوصر الوجود الإسرائيلي الدبلوماسي في منزل سفير معزول بضاحية المعادي، وصار أي لقاء بسفير العدو، عارا يوجب البتر الشعبي، وعلى نحو ما جرى مع حالات شذوذ فاقع معدودة على أصابع اليدين.


وحين بدا أن السفير الإسرائيلي قد يخرج من عزلته، ويحتفل بما يسمونه عيد استقلال إسرائيل، في الذكرى السبعين للنكبة، وفي فندق بإدارة أجنبية، يطل على ميدان التحرير في قلب القاهرة، وفي استفزاز مهين لأبسط مشاعر المصريين، وبما وضع الذين وافقوا في حرج صادم، كانت نتيجته الفورية، أنه لم يحضر أي رسمي مصري معروف إلى حفل السفارة الإسرائيلية، رغم دعوات جرى توجيهها بالمئات، ولم يحضر حتى الذين تورطوا في تطبيع اقتصادي مع العدو الإسرائيلي، على طريقة شركاء "اتفاق الكويز"، وشركاء اتفاقات الغاز، ودون أن يعني ما جرى، أن المعركة الشعبية انتهت ضد التطبيع، فلا يزال الخطر قائما ويتجدد، لكن تبقى كراهية الشعب المصري للتطبيع في مقام التحريم الديني، ويبقى المصريون أكثر شعوب الأمة كراهية ورفضا لوجود الكيان الإسرائيلي من أصله.


ورغم بقاء اتفاقية كامب ديفيد، ومن بعدها ما تسمى بمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، سارية بأحكامها العامة، وغالبا عبر القنوات الأمنية المحددة الدور بالتفاعلات الفلسطينية، رغم بقاء الاعتراف الرسمي، وأحاديث تطفو وتخبو عن السلام إياه، إلا أن ما يجري على الأرض في واد آخر، وفي سيناء بالذات، التي فرضت عليها أخطر القيود في نزع السلاح، فالمعاهدة فرضت في ملاحقها الأمنية قيودا بالجملة، وقسمت سيناء في توزيع السلاح المصري إلى مناطق (أ) و (ب) و(ج)، المنطقة (أ) شرق خط قناة السويس، وبعمق 59 كيلومترا، تنتهي غرب منطقة المضايق الحاكمة استراتيجيا، وسمحت ملاحق المعاهدة بوجود فرقة مشاة ميكانيكية مصرية واحدة فيها، ثم تأتي المنطقة (ب)، وبعرض 109 كيلومترات وسط سيناء، ولا تسمح ملاحق المعاهدة سوى بوجود أربع كتائب حرس حدود فيها، وفي المنطقة (ج)، وبعرض 33 كيلومترا إلى خط الحدود المصرية مع فلسطين المحتلة، لا تسمح ملاحق المعاهدة بأي وجود عسكري مصري عدا رجال الشرطة المدنية، والمحصلة، أن ملاحق المعاهدة قضت بنزع سلاح سيناء بريا إلى عمق يقارب المئة والخمسين كيلومترا، فوق أن المعاهدة قضت بمنع إنشاء أي مطارات عسكرية مصرية في سيناء كلها، وبحظر أي نشاط أو موانئ بحرية حربية في سيناء بالكامل، وكانت تلك أم الكوارث في المعاهدة المشؤومة، فسيناء ذات الواحد والستين ألف كيلومتر مربع، التي تمثل ستة في المئة من مساحة مصر، وتزيد على ثلاثة أمثال ونصف المثل لمساحة فلسطين المحتلة بكاملها، وهي عين مصر على المشرق العربي، وخط الدفاع الذي دارت عنده أغلب الحروب في التاريخ المصري الألفي، سيناء التي لها كل هذه الأهمية القصوى، عادت اسميا إلى مصر مع نزع السلاح بمقتضى كامب ديفيد، لكنها لم تعد فعليا إلا بحرب أخرى، يخوضها الجيش المصري إلى اليوم في سيناء، ويكمل ما انقطع خيطه منذ حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، ويدهس بأقدامه مناطق نزع السلاح المذلة، ويحطم قيدا ثقيلا فرضته المعاهدة، التي ماتزال سارية رسميا، لكن جرى اختراقها فعليا بقرار الجيش المصري في السنوات الأخيرة، وبتصرف سياسي براغماتي ذكي، استثمر تغير الظروف في مصر بعد ثورة كانون الثاني/يناير 2011 وموجتها الثانية في 30 يونيو/حزيران 2013، واستند رسميا إلى دواعي الحرب ضد جماعات الإرهاب، ودفع بقوات الجيش المصري إلى سيناء التي كانت محرمة عليه، وفرض واقعا جديدا لا رجعة عنه ولا ارتداد، واندفع عشرات الألوف من الضباط والجنود إلى سيناء، وتوالى إنشاء وتطوير المطارات العسكرية، وعاد النشاط البحري الحربي بكامل قوته، وصارت قيادة قوات الشرق في موقع حصين تحت الأرض بمنطقة كانت منزوعة السلاح، وعاد الجيش المصري بكامل هيئته وأسلحته إلى خط الحدود المصرية التاريخية مع فلسطين المحتلة، وهو ما يحدث لأول مرة من خمسين سنة، أي منذ هزيمة 1967، فقد ظلت سيناء محتلة رسميا لمدة 15 سنة، وإلى أن جرى الانسحاب الإسرائيلي منها بعد المعاهدة، ودون أن تعود قوات الجيش المصري إلى خرائط سيناء كاملة، وهو ما جرى فقط في السنوات الأخيرة، وبمزيج من الحسم والحيلة، وعلى نحو حول كل قيود الملاحق الأمنية للمعاهدة إلى فتات، وإلى حبر يجف فوق الورق، في انقلاب استراتيجي كامل الأوصاف على قيود المعاهدة المشؤومة.


قيد ثالث فرضته المعاهدة، ويتآكل تدريجيا في السنوات الأخيرة، نعني به دور أمريكا في مصر، فقد كانت واشنطن هي الضامن الحصري لاتفاقية كامب ديفيد وللمعاهدة من بعدها، وفي يوم توقيع المعاهدة في 26 آذار/مارس 1979، كانت أمريكا قد وقعت مع إسرائيل مذكرة تفاهم تخصهما، وأبلغ بها الرئيس السادات صباح يوم التوقيع، ونصت المذكرة على ضمان تدخل أمريكا ضد مصر حال الإخلال بالمعاهدة، أو مخالفة ملاحقها الأمنية، ومع التهديد بالعصا الأمريكية، قدمت واشنطن لمصر جزرة اسمها المعونة الأمريكية، كضمان التزام بالمعاهدة، لكن ما جرى في السنوات الأخيرة، بدا كضربة مصرية مزدوجة، أطاحت بقيود نزع السلاح الواردة بالمعاهدة، وأطاحت بإكراهات المعونة الأمريكية في الوقت نفسه، فلم تعد مصر تلقي بالا عظيما لمناقشات تخفيض المعونة في الكونغرس أو في البيت الأبيض، ولم تعد المعونة العسكرية الأمريكية (1300 مليون دولار سنويا) تشكل رقما يعتد به عند صانع القرار المصري، الذي لا مانع عنده إن جاءت المعونة، أو أن جرى تخفيضها، أو حجبها كما تكرر مرات في السنوات الأخيرة، فقد جرى فك ارتباط الجيش المصري بالتسليح الأمريكي شبه الوحيد، ولجأت القاهرة مجددا إلى سياسة تنويع مصادر السلاح، وإلى تكثيف الاهتمام مجددا بالصناعات الحربية، وتحول بندول الصفقات العسكرية الكبرى إلى روسيا والصين وفرنسا وغيرها، بما جعل الجيش المصري عاشر أقوى جيش في الدنيا كلها، ومع التقدم الملحوظ في حرب تحرير سيناء الثانية الجارية، والإدارة المصرية الممتازة لتوقي الخطر المقبل من ليبيا المحطمة، بدأت المصلحة المصرية المباشرة تتقدم إلى أعلى سلم الأولويات، ودون حاجة لتطابق مع الأولويات الأمريكية، كما كان معتادا من قبل، وبما أدى إلى استرداد جوانب مؤثرة من استقلالية القرار الوطني، وتراجع دواعي التبعية لاعتبارات واشنطن، التي كان سفيرها في مصر بمنزلة المندوب السامي البريطاني القديم، وتراجع دوره الآن، وإن ظلت شبكة علاقات واشنطن وثيقة ممتدة مع "جماعة البيزنس" ورأسمالية المحاسيب ومجموعات التمويل الأجنبي، وكلها تنشط في التأثير على الاختيارات الداخلية المتضاربة للنظام الحاكم، وتحاول استعادة ما كان من علاقات “عروة وثقى” مع واشنطن والكيان الإسرائيلي.


وبالجملة، يبدو أن اتفاقية كامب ديفيد ومعاهدتها، يتراجع تأثيرها بعامة، وتتعرض لعملية “شد أطراف”، تبقى نصوصها عالقة فوق الورق، بينما يتحطم الكثير من قيودها في الواقع الفعلي، ودون أن تنتهي معركة الأربعين سنة إلى مشهد ختام نهائي، تزول فيه كامب ديفيد، ويطوى زمانها بالكامل، وتسقط اختيارات السياسة والاقتصاد الكارثية التى صاحبتها وتلتها، وكما يأمل كاتب السطور المؤمن الواثق بعبقرية الشعب المصري، وبعين الله الحارسة لمصر والمصريين.

 

عن صحيفة القدس العربي

2
التعليقات (2)
عباس حنفى
الإثنين، 24-09-2018 01:30 م
الجبن سيد الاخلاق عند هؤلاء --- قرار اية وبطيخ اية المستقل عن الادارة الامريكية --- الاقتراب من النظام الحكم خط احمر لايمكن الاقتراب منه --- لله الامر من قبل ومن بعد
اخمد
الإثنين، 24-09-2018 03:21 ص
يا ابن الخول ....