مقالات مختارة

روسيا و«الناتو»... المناورات الحربية ليست مجرد تكتيكات

جيمس ستافريديس
1300x600
1300x600

خلال الأسابيع المقبلة، سوف تنطلق سلسلة من المناورات الحربية فائقة التطور بين كلّ من حلف شمال الأطلسي والاتحاد الروسي. وليست هذه المناورات من قبيل المتعة الحربية بحال - بل في واقع الأمر إنها مهام تدريبية شديدة الحسم والجدية، يشارك فيها الآلاف من الجنود المقاتلين، والآلاف من الطائرات المقاتلة، وأساطيل من السفن الحربية. وفي حين أنه لن يلقى أحد حتفه في هذه المناورات (بخلاف ما تقتضيه المصادفات، وهو أمر غير مألوف في مثل هذه المناورات)، فإن الرسائل المنقولة ذهابا وإيابا بشأنها شديدة الوضوح: نحن على استعداد للحرب!


تحمل المناورات الروسية اسم «فوستوك»، وهي تعني «الشرق» - وتأخذ مكانها بشكل أساسي إلى الشرق من جبال الأورال. وهي أكبر مناورات عسكرية تقوم بها روسيا منذ الحقبة السوفياتية (في عام 1981)، وتشارك فيها قوة تقدَّر بنحو 300 ألف جندي، وأكثر من 1000 طائرة عسكرية. وتجدر الإشارة إلى أن الصين تشارك في المناورات بالآلاف من الجنود العاملين جنبا إلى جنب مع الجنود الروس (وهناك وحدات رمزية مشاركة من القوات المسلحة في منغوليا، التي كانت شريكا لكلّ من روسيا وحلف الناتو في بعض الأحيان).


والرسالة إلى الغرب واضحة للغاية: يمكن لروسيا والصين العمل معا على الصعيد العسكري ضد حلف شمال الأطلسي في الشرق، أو ضد الولايات المتحدة وحلفائها في المحيط الهادئ. تقدم الرواية المستقبلية المعنونة «الأسطول الخفي: غوست فليت» من تأليف بيتر سينغر وأوغست كول، وصفا فريدا من نوعه لحرب فائقة التقنية، تلك التي تندلع على نحو غير متوقع في المحيط الهادئ مع روسيا والصين متحالفتين ضد الولايات المتحدة. وتوفر المناورات الحربية عرضا لما يبدو عليه هذا النوع من النشاط العسكري - وينبغي أن تكون مثيرة لدرجة كبيرة من القلق لدى المخططين الأمريكيين.
ومن شأن حلف الناتو أن يُجري مناورات عسكرية ضخمة تحمل اسم «المنعطف الثلاثي 2018: ترايدنت جانكشر 2018». وسوف يتم تنفيذ أعمال المناورات على الحدود الشمالية للحلف، وسوف تضم نحو 40 ألف مقاتل من كل الدول الأعضاء في الحلف (29 دولة)، إلى جانب بضع مئات من الطائرات المقاتلة، وعشرات السفن الحربية. وفي حين أن مناورات الأطلسي ليست في مثل مقدار مناورات «فوستوك» الروسية من حيث الحجم، فإنها سوف تكون بمنزلة «مناورة التخرج» لقوة حلف شمال الأطلسي الجديدة المعروفة باسم «قوة رأس الحربة: سبيرهيد فورس»، وهي تشكيل قتالي عالي الجدية، وفائق الحركة والإمكانات، يمكنه أن يضع قوات حلف الناتو القتالية في دول البلطيق في وضعية المواجهة الندِّية لصد الغزو الروسي المحتمل في غضون أيام معدودة.
وتخضع «قوة رأس الحربة» لقيادة وحدة إيطالية فائقة الجدية والعزم يمكنها الانتقال إلى حالة الاستعداد القتالي التام خلال 48 ساعة فقط. كما أن القوة تضم كذلك وحدات قتالية هولندية ونرويجية. وتقول المصادر المطلعة على مجريات الأمور، إن المناورات الأوروبية سوف تشتمل على عملية غزو وهمية للنرويج من قبل مشاة البحرية الأمريكية. ويعد هذا الحدث المفعم بالقوة جزءا من التحسن الهائل الذي طرأ على الدول الضعيفة، من حيث الاستعداد القتالي ضمن كتلة الحلف قبل عقد من الزمن.


ومن الجدير بالذكر، أن هناك جيشين من ذوي القدرات العسكرية العالية، وليسا من الأعضاء الفاعلين في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ولكنهما شريكان وثيقان لدول الحلف سوف يشاركان في المناورات، وهما جيشا السويد وفنلندا. عندما كنت أتولى القيادة العليا لقوات حلف الناتو قبل بضع سنوات، انتابني إعجاب كبير بالاحترافية العالية والتفوق العسكري الظاهر لدى كلا البلدين، اللذين شاركا مع حلف الناتو في العديد من العمليات على الصعيد العالمي.


ويساور الجانب الروسي حالة من القلق العميق حيال إمكانية انضمام كل من السويد وفنلندا إلى عضوية الحلف، ومن شأن مشاركتهما في مناورات «المنعطف الثلاثي 2018» أن تزيد من حدة هذا القلق لدى موسكو. ويعني كل ما تقدم زيادة حدة التوتر وإمكانات سوء تقدير الأمور. ويلزمنا إيلاء الاهتمام الخاص لأربعة عناصر رئيسية تتعلق بهذه المناورات الحربية شديدة الجدية.


أولا، نحن بحاجة إلى إدراك أن هناك رسائل ضمنية مبعوثة هنا بين مختلف الأطراف. ففي الحالة الروسية (ولا سيما من زاوية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين)، فإن المناورات تبعث برسالة مفادها القدرات العالية والاحترافية الفائقة للقوات المسلحة الروسية. وهذا ينبني على الكبرياء الوطني الذي تضخم في أعقاب غزو أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، في إشارة واضحة إلى عامة سكان الاتحاد الروسي، بأن الجيش الوطني أكثر من قادر على المحافظة على هذه المكاسب.


أما بالنسبة إلى حلف الناتو، فإن الرسالة مشابهة، وهي موجّهة نحو دول خط المواجهة مع روسيا - وهي إستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، وبولندا، والنرويج - وفنلندا والسويد شركاء حلف الأطلسي. وفي الغرب، فإن الرسالة الواضحة من القدرة والمصداقية والاستعداد للقتال إذا ما لزم الأمر.


ثانياً، الدور الصيني الدقيق. بدت المناورات الروسية للوهلة الأولى موجهة إلى ردع الصين وليس ضد حلف الناتو. ودعُونا نواجه الأمر: فإن الصين، مع تعداد السكان الهائل والحاجة الملحة إلى النمو الاقتصادي، تنظر إلى المساحات الشاسعة من الموارد الطبيعية الغنية بها سيبيريا الروسية، بنفس الطريقة التي ينظر بها الذئب الجائع إلى شريحة اللحم الناضجة. ومع ذلك، فإن تصاعد النزعة القومية لدى الرئيس الصيني شي جينبينغ، وعدم الارتياح الظاهر بشأن سياسات إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب المتشددة حيال التجارة، يجعل الصين تتطلع إلى تطوير العلاقات القوية مع موسكو.

وروسيا، على الجانب الآخر، التي تساورها مشاعر الإحباط من كراهية الولايات المتحدة (المدفوعة في هذه الأيام بقرارات الكونغرس وليس البيت الأبيض كما جرت العادة) تحدوها الرغبة القوية هي الأخرى في تحقيق التقارب مع الصين. وفي حين أن العلاقات طويلة الأمد تكون دوماً محفوفة بالمخاطر، فإنها شراكة الاعتبارات الملائمة (والمناورات الحربية) في الوقت الراهن.


ثالثاً، هناك قدر من التحسن العسكري الحقيقي الذي ينشأ من قلب هذه المناورات. فإن دفع الحلفاء الأوروبيين وكندا إلى نشر القوات العسكرية يسمح بزيادة قابلية التعاون العملياتي على عدة جبهات: المزامنة التقنية للاتصالات اللاسلكية، واتساق الاستهداف من طائرات الدول المختلفة (وهو التحدي الكبير الذي ظهر في عملية حلف الناتو في ليبيا، على سبيل المثال)، والعمليات الحربية المعقدة للغاية لمكافحة الغواصات المعادية، ومناورات وحدات المشاة والمدرعات المتعددة. وكل هذه التحديات عصيبة للغاية، والممارسة المستمرة سوف تجعل كلا الجانبين أقرب إلى حد الكمال.


أخيرا، من المهم إمعان النظر على وجه التحديد في البعد البحري للمناورات الروسية ومناورات الناتو. فليس من قبيل المصادفة أن عملية حلف الناتو سوف تكون تحت قيادة أدميرال أمريكي كبير ومخضرم هو الأدميرال البحري جيمس فوغو. وهو القائد السابق لقوات الغواصات التابعة للحلف، والأسطول الأمريكي السادس الشهير في البحر الأبيض المتوسط. وفكّر الأدميرال فوغو بعمق (وكثيرا ما نشر مقالات) بشأن العمليات البحرية في بيئة حلف الناتو - روسيا الحالية. وسوف تكون هناك مجموعات بحرية مهمة من حلف الناتو ومن روسيا، تعمل في بحر البلطيق والبحر الأسود وشرق البحر الأبيض المتوسط وحتى في المنطقة القطبية الشمالية.


والأنباء السارة من المنظور الغربي، تفيد بأن قوات العمليات البرية، والجوية، والبحرية، والسيبرانية، والعمليات الخاصة سوف تعمل جنبا إلى جنب، وتظهر في صورة أكثر قدرة وقابلية على التشغيل العملياتي المتبادل. أما الأنباء السيئة فتقول: إن القوات الروسية سوف تحقق الميزة نفسها كذلك، واتساقهم الغريب مع الصين - في الوقت الراهن على أقل تقدير - سوف يؤدي إلى المزيد من القلق على الصعيد العالمي.


وسوف تواصل الولايات المتحدة وحلفاؤها التدريب والاستعداد للقتال، على أمل أن يسفر الاستعداد الأمثل عن إيجاد حالة الردع المطلوبة، ويقلل من الميل إلى المغامرات غير المحسوبة من الجانبين. لكن، يجب ألا نخدع أنفسنا: فهذه المناورات الحربية من الشؤون الجدية والخطيرة للغاية.

 

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية

0
التعليقات (0)