كتاب عربي 21

لعبة سحب الزرابي التونسية

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600

الزرابي ليست تونسية، ولكن اللعبة تجري في تونس، فلتكن إذن لعبة تونسية؛ يسحب فيها السياسيون الزرابي من تحت أرجل بعضهم البعض فيما هم يتدربون على البقاء وقوفا رغم فقدان الأرض الصلبة تحت أقدامهم. تبدو لعبة مسلية للمتفرج الذي فقد الأمل في التقدم بالتجربة، ولكنها لعبة معزية حتى الآن، إذ ليس فيها رصاص ولا بنادق. لا بل إنه في كل هذا السواد القاتم يخرج علينا بعض الطيبين بحكمة سلاحف: انظروا المشانق في مصر.. لقد نجوتم. أحدهم سيبقى واقفا على جثث البقية، لكنه قد لا يجد وطنا يحكمه. فاللعبة السلمية حتى الآن تعصف بالوطن المرغوب، وتترك للاعبين زرابي معلقة في فضاء سيقول الشعراء - وهم قلة - بُسُطُ ريح تطير لكن إلى الجحيم. وهذه جملة ظاهرها وصفي وباطنها دعاء على نخبة لم تحسن تلقف ثورة شعبية لتبني بها بلدا عظيما.


الشاهد يشفط النداء شفطا

مثل آلة تنظيف البواليع يقوم الشاهد (رئيس الحكومة الذي نجا) بشفط نواب النداء في البرلمان وتكوين كتله النيابية الجديدة. بدأ أولا بشفط نواب كتلة الحرة، وهم كتلة شفطها أولا مشروع تونس رفضا (تقدميا) لتحالف حكومي مع النهضة (الرجعية)، ولكن التحالف قام بمن بقي مع الباجي. ومع تقدم الزمن تآكلت الكتلة، وعاد منها كثيرون إلى النداء واستقال منها بعضهم محافظا على راتبه البرلماني فقط. قام الشاهد باستعادتها من المشروع، وكانت نواة كتلته النيابية (لا يعد مهما هنا أن الشاهد قريب سياسيا من النهضة)، فالجماعة يرفضون التوافق ويقبلون الوفاق. ولا داعي للتمحيص اللغوي في جذر وفق الثلاثي المجرد.

ثم قام بجذب (شفط) جزء مهم من كتلة النداء نفسها في نهاية الأسبوع الأول من شهر أيلول/ سبتمبر، ومنها نائبان يمثلان حقيبتي فلوس لا تقدر (السيد السلامي ومن ورائه رأس المال الصفاقسي، والسيدة إدريس ومن ورائها حقيبة المال الساحلية)، بحيث اقترب حجم كتلته من الموقع الثاني بعد كتلة النهضة. لم تعلن كتلة الوفاق انحيازا مباشرا للشاهد، ولكن لعبة التسميات لم تعد مهمة عند المتابع؛ لأن اللعب مكشوف. الشاهد لا ينوي التراجع عن معركته ولا يؤجل طموحه، ويضع كل الأطراف في وضع الدفاع عن أنفسها. وقد بدأ البعض يتساءل: لماذا نتصدى له؟ سنتحدث عن الخاسرين. فالرابحون لم يقبضوا بعد.

النقابة تعرّت أخلاقيا وسياسيا

منذ بداية معركة الشاهد مع أسرة الباجي (طرح وثيقة قرطاج2). ظهرت علينا النقابة بخطاب الدفاع عن القطاع العام ضد حكومة التفويت. وطرحنا السؤال: هل أن شق الرئيس هو الضامن الحقيقي للمؤسسات العمومية والاقتصاد الاجتماعي وحقوق الطبقة الشغيلة فعلا؟ لم يجبنا النقابيون؛ لأن شق الباجي أكثر ليبرالية من شق الشاهد. وقد قام الشاهد بتوفير دليل عندما أعاد فتح ملف الثروات الباطنية (البترول)، فانكشفت أسرار كثيرة لم تكن النقابة تود كشفها، فبعض قياداتها متورطة حتى الأذقان.

والآن والشاهد يتحول إلى رئيس حكومة بسند برلماني ثابت لا يسمح بإسقاطه في البرلمان، وبقي موقف النقابة معلقا مع الشق الأقلي من النداء. لقد عزلت النقابة نفسها بحجة غير قائمة فعلا، وتبين لكل ذي بصيرة أن الانحياز لم يكن من أجل القطاع العام المسكين الذي يهدده الشاهد بالتفكيك (بناء على أوامر المقرضين الدوليين)، بل كان من أجل استدامة معركة الاستئصال التي لا يعيش يسار النقابة خارجها. لقد أخذ اليسار النقابة إلى معركة ليست معركتها منذ البداية؛ تطبيقا لمقولة أحد وجوه اليسار ذات لحظة انفعال: "نحن ننتظر موقف النهضة ونختار الموقف المضاد له دوما". النهضة وقفت مع الشاهد إذن اليسار يقف ضده. حتى الآن الشاهد وحليفه النهضة يخرجان رابحين، بينما يجد يسار النقابة نفسه معزولا يتظاهر بالدفاع عن الفقراء. أعتقد أننا سنكتب قريبا عن نهاية اليسار النقابي، وربما نفرح باستعادة النقابة لمهمتها النقابية في المؤتمر القادم.

النهضة تخسر ورقة مهمة

كانت خطة حزب النهضة بعد خسارته السلطة في 2013؛ مجاراة الوضع السياسي دون مصادمته وانتظار تآكله الداخلي بناء على قراءة بدت الآن سليمة (أن المنظومة الفاسدة ستتآكل من الداخل وتهيئ نفسها لموت سياسي). ما جرى أن المنظومة أكلت أطرافها ووصلت إلى القلب، ولم يفدها حتى قانون المصالحة الذي أبقى ثرواتها بين يديها وأنقذها من محاسبة قضائية لم تكن مجدية بقضاء فاسد. كان للضغط الشعبي دور مهم، وبعض هذا الضغط جاء من معارضة ضعيفة ومشتتة ولكنها مثابرة.

الشق الثاني من الخطة هو ترسيخ البناء الحزبي وتوطيد ماكينته الانتخابية، وقد نجح الحزب في ذلك واستعاد مكانته في البلديات، بما جعله في موقف تفاوضي مريح من المنظومة المهترئة. أثبت الحزب قوته في لحظة إسقاط حكومة الشاهد، وكان رفضه محددا للحظة الراهنة.

أفق التفاوض كان (وإن لم يعلن) الرئاسة مقابل الحكومة، أو على الأقل الرئاسة مقابل وضع ينتهي فيه حديث الاستئصال والتعامل مع حزب النهضة كمتسول على باب الوطن والسياسة؛ يمنحه اليسار صفة المدنية أو يعطف عليه ببعض المناصب الصغيرة، ويرفع فوق رأسه سيف الإرهاب. لكن أن يبرز في الطريق منافس قوي على منصب الرئيس لا يروض بسهولة فمعناه أن التفاوض سيعاد منذ نقطة الصفر. هنا يقيم حزب النهضة خساراته.. المنظومة المهترئة أخرجت منها عنصر قوة جديدا غير قابل للترويض وله طموحات كبيرة، بل له إسناد خارجي قوي معاد للنهضة ويزداد قوة قبل نهاية المدة النيابية.

إن الحزب، وإن كان يهنئ نفسه بالحفاظ على المسار الانتخابي بحكومة الشاهد المستقرة، إلا أنه مضطر إلى إعادة حساب أوراقه وتخفيض سقف طموحاته التفاوضية، فقصر قرطاج لم يعد ورقة تمنحها النهضة لمن عليه أن يرد لها الحكومة. الشاهد، رغم فضل النهضة عليه الآن، إلا أنه كسر وسيحطم معادلة قرطاج (الرئاسة) مقابل القصبة (الحكومة). الشاهد أو فريقه أو نصحاؤه من الخارج تدربوا جيدا على لعبة سحب الزرابي.

في جميع الاحتمالات نحن لا نتحدث عن اليسار

أين اليسار التونسي في كل هذا؟ إنه في النقابة يبحث عن إضراب، ولا ينتبه أن كل إضراب يدمر سمعة النقابة. لقد دفع بعمال بسطاء في معمل بسكويت إلى مواجهة مع بعضهم البعض، فسمح للسلطة بدور الحكم فخرج خاسرا. من ضمن حوالي 500 عامل لم يجد معه إلا ثمانية مضربين أغلقوا الورشة في وجه زملائهم.

الجميع تذكر الآن بأن هناك جريمة اسمها الصد عن العمل، وستكون للسلطة حجة بعد اقتحام معمل البسكويت وستستعملها في وجه نقابة التعليم التي تتعمد غلق الثانويات في وجوه التلاميذ؛ لتقول بأن الإضرابات ناجحة. هذا هو اليسار التونسي.. إنه أقلي وينكشف، وعندما نقرأ مواقع الأحزاب التي تفاوض على الحكم والمستقبل نجده يذوي خلف خطاب كاذب (الدفاع عن الفقراء)؛ وجب التذكير بأنه يدافع أيضا عن سرّاق الحقائب في المطارات فهم من الطبقة العاملة.

يبدو أنه لم يكن لليسار زربية يقف عليها، لذلك لم يسحب من تحته غير دوره في استئصال الإسلاميين وفتح الطريق لفساد التجمع ثم النداء. ويبدو أنه لم يعد هناك من يحتاج هذا الدور (آخر من حاول ذلك كان وزير الداخلية المقال منذ أشهر، والذي استمات اليسار في الدفاع عنه بصفته المخلص). وفي هذا غنم كبير ومكرمة ثورية. لقد بقي الفقراء بلا محام كذاب، وسيكون عليهم أن يخترعوا لهم لسانا وذراعا في مواجهة حكومات تقف على بُسُطِ ريح لا يتغنى بها فريد الأطرش.

التعليقات (0)