كتاب عربي 21

مفاوضات الكيلو 64

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
نتذكر مفاوضات السلام المصرية مع العدو، نتذكر طابا، نتذكر خيمة التفاوض في النقطة الكيلو مترية 101، نستعير التسمية، نسمي مفاوضات إسقاط الحكومة التونسية بالدوران حول نقطة الخلاف 64 من وثيقة قرطاج الثانية، مفاوضات الكيلو 64. ليس فيها طرف صهيوني، ولكن فيها طرف مدعو إلى الاستسلام؛ لأن فيها طرفا خلق أزمة من فراغ الوقت، ويريد أن يستثمر صبر شركائه حتى القطرة الأخيرة، فيخرج ملكا ويرسل الرعية خلف قطعانها. فقد ولد ليرى الناس قطيعا، وقد ساءه أن لا يسوقهم حيث يريد.

الكعرار يبقى كعرارا

لنعرّب اللفظ أولا.. الكَعْرَار هو الذي يعود إلى حديث محسوم النتيجة مرة تلو المرة، طامعا في إعادة قلب نتيجته دون كلل أو ملل، حتى يدفع خصمه إلى الجنون أو الاستسلام. حسم أمر بقاء حكومة الشاهد عندما تمت تزكية وزير الداخلية، وخلنا أن الأمور هدأت لنذهب إلى معالجة هموم أشد ثقلا، فإذا هو هدوء مغشوش. الشق الخاسر من بقاء الشاهد حرك عصاه الغليظة في وجه الحكومة. إضرابات وحشية من أجل الحصول على خروف العيد مجانا وتهديد بسنة دراسية ساخنة، وتعمد ظهور القيادة النقابية في مواضع ظهور الحكومة، كأنها حكومة موازية تدير البلد بلا تفويض شعبي وتقول بضرورة تأجيل الانتخابات.

يرد رئيس الحكومة بتوجيه ضربة لبؤرة من بؤر الفساد، ترد العصا الغليظة المأمورة باحتجاز المسافرين في المطارات والموانئ، يرد رئيس الحكومة بتسخير الجيش، يرد الرئيس بطلب التفاوض حول النقطة 64، يأتي زعيم حزب النهضة للتفاوض مرغما وقد ظن أن الأمر محسوم، فإذا هو في نفس النقطة الكيلو 64.. لنسقط حكومة يوسف الشاهد. سيضطر رئيس حزب النهضة إلى لحس جملته القوية "انتهى عصر تنازل النهضة"، وأصبحنا في الغميصاء. مسؤول وآخر يسأل ولا يجيب: من بديل الشاهد؟ كعرر ومصدرها تكعرير.. نحن في أيام التكعرير بنخبة كعرارة.

الهدف قصر قرطاج 2019

الشاهد يريده وقد كبرت برأسه حتى أعلن الحرب، والرئيس يريده له ولو بالكيرتزون، أو لابنه من بعده عبر الصندوق، وليس على طريقة بشار بن حافظ. ولا نعرف ما إذا كان الغنوشي يريده أيضا له أو لأحد جنرالاته الأقربين، ولا نعرف طموح البقية الصامتة بعد. معارك الكيلو 64 من أجل القصر لا من أجل أهداف الثورة المؤجلة، حتى صار من يذكر بها محل سخرية سوداء.

من أجل القصر يستعمل الشاهد موقعه الحالي لتنظيف الطريق أمامه. ومن الواضح أنه حدد قائمة خصومه، وبدأ إطلاق النار من منصة رئيس الحكومة. لذلك وجه ضربة قاصمة للنقابة بعزل وزير الطاقة بتهمة مخلة بالشرف السياسي. وزير الطاقة ابن مدلل للنقابة، إذ هو ابن أحد قياداتها التاريخية. ضربة مزدوجة لأن فتح ملف التلاعب بالطاقة يمس اسم الرئيس مباشرة، ويضعه في وضع دفاع عن أسرته. ملف الطاقة هو الملف الممنوع ففيه أسرار وخبايا تتعلق برخص التنقيب والاستغلال، وإحالة ملكية الشركات المصادرة بعد الثورة، حيث أن مكتب المحاماة الذي يملكه الرئيس وشقيقه متهم بعد. يستبق الشاهد عزله بضرب الرئيس والنقابة المنحازة له.

ظاهر الأمر مقاومة للفساد، وباطنه تشويه اسم الرئيس وأسرته وفضح انحياز النقابة التي تتمتع بمكرمات وزير الطاقة، ومنها تعيين ابن الطبوبي، الأمين العام، موظفا ساميا في الشركة، ومنحه مكتبا فخما وجراية كبيرة، وربما ساعة رولكس. كم في الأمر من حق ومن باطل؟ لا يهم، فالنقابة المستأسدة عرفت كيف ترد: إغلاق المطارات والموانئ وتعطيل حياة الناس، وإطلاق الإعلام ضد الشاهد. هل تملك النقابة الإعلام؟ لا، ولكن خط النقابة وخط الإعلام واحد، إنه خط اليسار المعادي للشاهد بظن أنه ينسق مواقفه مع حزب النهضة.

النهضة الحزب الذي يقف حجر عثرة في طريق الجميع، والذي يحتاجه الجميع ليسد به الطريق على خصمه. لا يريد أن يكون أداة في الصراع، يستعمل كسدادة ثقوب في جدران البعض، يرفض الحزب استعمال الشاهد لموقعه في طريقه إلى الرئاسة، ولكنه لا يجد حلا لعزله (ولا يريد تحمل مسؤولية القيادة، رغم وضعه البرلماني المريح). فسؤال رئيس الحزب عن بديل الشاهد بديهي ومشروع، غير أنه وهو يخرج يوم الاثنين من لقائه مع الرئيس متحدثا عن التوافق وضرورة تأمين الانتخابات، كشف تقريبا أن التفاوض حول النقطة 64 قد حسم: الرئيس يضمن إجراء الانتخابات في موعدها، والنهضة ترفع يدها عن الشاهد. اتفاق بلا ضمانات، طبعا سوى كلام لطيف عن التوافق المنجي من الهلاك. يعرف الرئيس المتمرس كيف يعد، ولا يعرف حزب النهضة كيف يمكن أن يلتف عليه الضامن (شيء شبيه بإخلاص السيسي لمرسي في القاهرة). وقديما قيل الغفلة أخت الطيبة الشقيقة.

وحياة المواطن التونسي في هذه الحرب؟

سؤال رومانسي لثوار خلف الحواسيب. لدى المواطن التونسي الحق الكامل في أن يصف هذه الحرب بأنها حرب قذرة. فالمواطن التونسي حر بقدر قد لا يحتاجه من الحرية، لكن ليس عليه أن يتدخل فيها. فكثير من الثوار يقولون "اللهم اضرب الظالمين بالظالمين"، وهو وضع مريح. إذ يكفي أن نتخيل فناء المتخاصمين بيد القدر، لنجد البلد نظيفا كأنما مرت عليه غسالة النوادر (مطر الحريف العاصف).

سيكون على المواطن التونسي الدخول في وضع الدفاع عن أولاده في المدرسة العمومية، فالنقابات عائدة بالحديد والنار. عليه أيضا أن يعيش مرعوبا من عدم وصول راتبه التقاعدي في موعده، فالوزير النقابي يتحدث عن إفلاس صندوق تقاعد القطاع العام، كأنه غير معني بتمويله من القطاع العام نفسه، حيث الحكومة التي يشارك فيها لا تقيم وزنا لحياة الناس، فلا تدفع مساهماتها إلى الصندوق.

سيتابع هذه المواطن أخبار الاغتصاب، ويخوض معارك من أجل تطبيق حكم الإعدام أو التمسك بحقوق السجناء في حياة كريمة بعد الجريمة، لذلك ننشر له كل يوم خبر اغتصاب طفل في منطقة نائية. إنه مواطن طيب سيخوض النقاش حتى النهاية، وليس عليه أن يتذكر أهداف الثورة. مواطن طيب يكفي أن يخرج عليه إعلامي بخبر ليقع في الحفرة.

الطيبة أخت الغفلة الشقيقة

أوركسترا متوافقة النغمات لصرف ذهن المواطن عن مطالبه، يقودها يسار متمرس بوضع العصا الغليظة في يد حاكم فاسد، ويهرب أمامها إسلامي بلا مشروع يتمتع بوضع الضحية ويتخيل جنة المسكنة، ويربح منها انتهازي ولد بعد الثورة فصار رئيس حكومة، ويريد أن يكون رئيسا، وغير مهم ما إذا كان يحسن تكوين جملة مفيدة بلغة فصيحة. فهو يزع بالسلطان ولا يزع بالقرآن، ولا حتى بالدستور. آه بالمناسبة، الدستور هنا أقوى من القرآن، والقرآن نص ميت، كما قال الفرنسيس. من قال بها حكم تونس. إنها الجملة المفتاح لقصر قرطاج. سيقولها الشاهد في الفصل الأخير من حربه، وستضمن له تمويلا كافيا للبقاء ويغلق ملف الطاقة.

"مصافي المشاش آلفا كل مجزر"، ولكن لا شنفرى يغزو بليل مدلهم، إنما بالغميصاء كل يوم. يجلس فريقان من الشعب الكريم، مسؤول وآخر يسأل: من غزانا بليل، فأيّم نسوانا ويتّم إلدة؟ فيجيبان: "ما كها الإنس تفعل". فيعلق ثائر الحاسوب المحبط: من يهن يسهل الهوان عليه. يوجد موضوع أكثر إثارة للنقاش: هل يحق للذكر الزواج بذكر مثله؟ هذه أيضا على طاولة مفاوضات الكيلو 64.
التعليقات (0)