مقالات مختارة

ليس بوتفليقة المريض فقط… الجزائر كذلك مريضة

ناصر جابي
1300x600
1300x600

هذا ما يتأكد يوميا منذ الإعلان عن مرض الرئيس في ربيع 2012 الذي توقف فيه عن الحركة والكلام، فلم يُحدث الجزائريين مباشرة منذ ذلك التاريخ، وهو في نهاية عهدته الثالثة. ترشح الرئيس رغم هذا المرض إلى عهدة رابعة (2014) وهو على كرسي متحرك. لم يشارك في الحملة الانتخابية ولم نسمعه يحدثنا أثناءها ولو لدقائق. ومع ذلك نجح في هذا «الانتخابات» التي تزاحمت لتنشيط حملتها الانتخابية مجموعة كبيرة من قيادات الأحزاب والجمعيات، بمن فيهم الأمين العام لأكبر نقابة عمالية ممسوخة.


رئيس كان قد استحوذ «قانونا» على صلاحيات كبيرة جدا، كان قد تحصل عليها فعلا على أرض الواقع، قربته من حالة «ملكية» وحولته إلى أول مؤسسة سياسية في البلد، مثل الرؤساء الذين كانوا قبله، على حساب كل المؤسسات الأخرى المنتخبة والمعينة. قبل أن يظهر أنه عاجز تماما عن القيام بمهامه الدستورية، فلا سفر للخارج لتمثيل البلد، ولا حديث إلى المواطنين، ولا اجتماعات عادية لمجلس الوزراء، أو استقبال لضيوف الجزائر، إلا بالقدر البسيط جدا، الذي يثبت أن الرجل مازال حي يرزق ولم يمت بعد، حسب الشائعات التي تحولت إلى خبز يومي للمواطن الجزائري، كما هو الحال هذه الأيام، بعد انتقاله إلى سويسرا للعلاج.


رغم كل هذه العلامات البادية عن مرض الرئيس وعجزه عن القيام بمهامه الدستورية اليومية، على وجه مقبول، حتى لا نقول أحسن وجه، لم تتحرك أي مؤسسة سيادية يفترض أنها حامية للدستور، لتقول إن الوضع الصحي للرئيس لا يسمح له بالقيام بالمهام التي يفترض أنها من وظائف أي رئيس دولة عادية، ومن باب أولى لا يستطيع المطالبة بعهدة جديدة! الرئيس الذي قام خلال الفترة نفسها بتعديلات دستورية تلاعب فيها بالعهدات الرئاسية، فتحا وغلقا. بهدف البقاء في السلطة مدى الحياة، بعد أن تحول التشبث بالسلطة إلى مرض لديه.

 

الأدهى أن يتبارى الكثير من المسؤولين والمؤسسات السياسية الرسمية والأحزاب لادعاء العكس تماما، بما يحيل إلى قضايا أخلاقية عميقة، تمس الأفراد والمؤسسات. فالرئيس ليس مريضا، بل يحدثهم يوميا وسيعود إلى المشي بعد ستة أشهر (كلام قيل منذ أكثر من سنة)، وهو يقوم بنشاطاته بشكل عادي، فلا خوف إذن على مصلحة الجزائر الموجودة بين أيد أمينة، في وقت يعرف فيه الجميع المكانة الفعلية لرئيس الحزب والوزير في نظام بوتفليقة، الذي يمكن أن يعين فيه وزيرا لسنوات، دون أن يحادثه مباشرة وقد لا يراه، إلا في مناسبة اجتماعات مجلس الوزراء من بعيد. مثله مثل المواطن العادي، في نشرة أخبار الثامنة.


يكثر هذا الحديث في حين تثبت الوقائع اليومية وبالعين المجردة، على مستوى تسيير مؤسسات الدولة أن الأمور ليست على مايرام تماما، بل وصلت إلى مرحلة من العجز الخطير، فقد أصبح من العادي أن يعين وزير ضمن الطاقم الحكومي، لبضع ساعات، يعلن بعدها أن الرجل متابع قانونيا بما لا يسمح له بالتعيين في هذا المنصب، الذي تدهورت مكانته بشكل لافت خلال فترة بوتفليقة، يتم فيها اختراق البلد من قبل مافيات دولية للترويج للكوكايين، ينتشر الفساد على نطاق واسع، تعود الكوليرا، وغير ذلك، ومع ذلك، فالبلد بخير والرئيس يسيطر على الوضع.


سمحت هذه الفترة التي مرض فيها الرئيس، بظهور «سياسيين» من نوع خاص جدا، حولوا الجزائر إلى مهزلة فعلية على مستوى العالم، أشبه في سلوكهم السياسي إلى المهرج الكبير في السن الذي لم يعد يُضحك من يتفرج عليه. لا يستحي من قول أي شيء، بما فيها الأمور التي يجب ألا تقال من قبل مسؤول، في أي نظام سياسي، يسير بشكل عادي. وجوه سياسية صعدت بقوة إلى مناصب حساسة، خلال هذه الفترة التي تدهورت فيها مكانة المؤسسات الرسمية للدولة وأهينت فيها. وضع يرشح الجزائر لأن تكون محل ابتزاز من محيطها الإقليمي والدولي على أكثر من صعيد سياسي واقتصادي. في عهد رئيس مريض ومؤسسات سياسية عاجزة ومريضة هي الأخرى. في حين يعرف المواطن العادي والمتخصص والأجنبي، مدى الأدوار المهمة للرئيس في هذا النوع من الأنظمة السياسية، التي يحتل فيها رئيس الجمهورية دورا مفتاحيا لا يمكن أن يسير من دونه. نظام من دون رئيس حاضر، يفقد بالضرورة بوصلته ويضطرب أداؤه، كما هو واضح في السنوات الأخيرة، نتيجة الشخصنة الكبيرة التي تميزه، التي زادت جرعتها مع بوتفليقة.


مرض الرئيس الذي طال، بكل الممارسات المريضة التي أنتجها على مستوى مؤسسات الدولة والقائمين عليها من رجال ونساء. هذا المرض أنتج في الأخير مواطنا مريضا هو الآخر، يكاد أن يسود كقاعدة عامة، مهمته الوحيدة في هذه الحياة انتظار الحصول على تأشيرة لمغادرة البلد بسرعة، يطالب بها الرؤساء الفرنسيين مباشرة في أثناء زياراتهم الرسمية. بلد لم يحاول هذا «المواطن» أن يصلحه، ليعلن مسبقا فشله في تغيير أحواله، يريد الهروب منه حتى على قوارب الموت للتمتع، بما أنجزه الآخرون في بلدانهم الجميلة والنظيفة، المحترمة لحقوق الإنسان! لا يشارك في الانتخابات لأنها مزورة ولا ينخرط في الأحزاب لأنها ضعيفة وغير فعالة، ولا يهتم بقضايا الشأن العام إلا في النادر القليل وبما يخدم مصالحه المباشرة، فقد استقال من أدواره كمواطن، رغم أن الاستقالة ليست من شيم الجزائري كمسؤول.


مواطن نظيف داخل بيته لحد الهوس، لكنه يرمي الأوساخ من شرفته في الحي الذي يسكنه، يعادي الرشوة والفساد تصريحا، لكنه لا يتورع عن اقتناص أول صفقة مشبوهة تقترح عليه. يدافع عن شرف أخته بالقتل إذا لزم الأمر، لكنه يتحرش ويغتصب يوميا بنات جيرانه. فأخلاق هذا الجزائري المرضية ذات صبغة فردية لا تتسع للجميع، حتى إن تلبست بنوع من الجماعية الشكلانية، كما يظهر في ممارساته الدينية التي زاد الاهتمام بها، إرضاء لمحيطه القريب والمباشر، وليس ما هو غير مرئي وبعيد، ممارسات دينية، من دون دين. كما سماها الروائي المصري، علاء الأسواني في آخر رواياته «جمهورية كأن»، التي نجح بوتفليقة في إنتاج نسختها الجزائرية خلال العشرين سنة التي قضاها في الحكم، كرئيس جمهورية.

 

عن صحيفة القدس العربي
0
التعليقات (0)