قضايا وآراء

طبقة المكلومين في منصّات النخب وخنادق التواصل

حسام شاكر
1300x600
1300x600

صعد الخطيب الوَقور المنصّة متحدثاً لصفوة من قومه في محفل عام عن قضية من قضايانا النازفة. خلط بصوته المتهدِّج الأماني بالتقديرات، والعاطفةَ بالاستراتيجيات، والأوهامَ بالحقائق. فرغ من كلمته المطوّلة، وهممتُ بمصارحته بترفّق ومكاشفته بتأدّب؛ بأنّ ما أفاض في عرضه لا يَهدي الحيارى ولا يُضيء السبل؛ وإن استنزف عاطفة الجمهرة وأبكى مُقَلها، فنصحني جليس يكبرني سنّاً وفضلاً بالصمت والقعود، لأنّ الرجل في حاله هذه "مكلوم ولا يُناقَش".


كان موقفاً في ربيع باريس 2012، ومن يومها تزايد المتحدثون على شاكلته من حاملي الألقاب المتكاثرة في أوساط الفكر والعلم والرأي والقرار، ممّن يصعدون المنصّات بمنطق لا يستقيم، ويخالجون الحوارات فيستبّدون بوُجهتها، وقد يحمل بعضهم هراواتٍ معنويةً بسطوة الفواجع التي يُحسَبون على ضحاياها. استمرأت الجمهرةُ إمساكَ ألسنها عليها تقديراً لخصوصية الحالة الضاغطة على كل مكلوم من أمثالنا وأمثالهم، حتى اتّسعت طبقة المكلومين هذه وصعدت بتقديرات فجّة لم تجد من يجرؤ على فحصها أو إعلان الشكّ ببعض مزاعمها، ومَن بوسعه أن يكسر تواطؤات الصمت المتضافرة من حول خطابات هوَت بالتقديرات وصادرت الاستراتيجيات وابتنت ما يروق لها من الحقائق والتصوّرات؟


وإن أقدم مُستَمِع جَسور على المناقشة بعد تشغيل عقله؛ قد يُرمى بشرر من شكّ في مقصده، وقد يطارده تأنيبٌ علني أو تقريع ضمني جراء تهاونه مع جراح نازفة واستهانته بآلام المكلومين في مصابهم، وسيكفي اللوْم المسدّد رادعاً لغيره عن أن يُراجعوا مقولاتٍ متفشية في مجالسهم وملتقياتهم وتطبيقات تواصلهم. ولا مراجعة هنا، بالطبع، لمفهوم المكلوم وحصرية امتيازه، أو بسلامة المنطق الذي يجعل زيداً في مرافعات المكلومين هو الممثل الضمني للضحايا دون عمرو مثلاً، بما يمنحه حق الحديث بصفة "نحن" التي يشحنها بأناه المتعالية على النقاش. 


وإن أطلق أحد المُشفقين تغريدةً خجولة تشي بقناعته في مسألة مُسيّجة بالأشواك؛ ستعود عليه المحاولة "الآثمة" بصيحات هادرة؛ تكون إيذاناً بنهشه على الملأ في مزايدات تصعيدية يتبارى المنخرطون فيها في الاغتراف من بركة الشتائم الآسنة دون الزهد في تعبيرات التشكيك والتخوين. إنه جمهور أجّجته ثقافة التوتّر وحمّى القطيعة، فاعتاد معها البحثَ عن فرائس في كل موسم لتفريغ إحباطاته في كل واحدة منها، وتحميل فريسة الموسم مسؤوليةً رمزية عن انكسارات وانهيارات؛ وعن مرارات عالقة في الحلوق.


إنْ تفهّمَ أحدُنا تأجُّج الجماهير في مأساتها ولوْعة الحيارى في فاجعتهم؛ فإنّ مروق نخب تتخلّل أوساطاً فكرية وعلمية وإرشادية من مقتضيات الرشد والتوازن؛ يبقى أمارةَ تدهوُرٍ ومؤشِّرَ إخفاق، فكيف إن أمسك بعضُهم بخطام قومه أو استبدّ بقاطرة ركبه؟


لم يكن صائباً منذ البدء أن يُمنَح أحدُهم، أيّاً كان، حق مصادرة الاستراتيجيات لذاته أو الهيمنة على التقديرات بمنطقه الخاص، بدعوى أنه جريح أو مكلوم، وليس من رُشد الجمهرة أن مكّنت لمن زاغت منهم الأبصار وبلغت قلوبهم الحناجر في نقاشات عامة وخاصة أمسكوا بزمامها؛ بما ألجم الرؤى وعقَد الألسن بسطوة الترهيب المعنوي ونظرات الشك في المقصد.


ما يؤكد الحاجة إلى هذه المكاشفة، اتساع الخرق على الراقع، وعلوّ المزايدات المتشنِّجة، وسقوط بعضها في قبضة خطابات مُغالِية، وافتراق النخب على خنادق متقابلة، حتى ضِمْن ما كان يُحسَب مربّعاً واحداً، وإعجاب كلّ منها برأي لا يساورها فيه شكّ، واستعمال بعضها فنون اللمز والتنابز بالألقاب، والتحصّن بخنادق التواصل الاجتماعي، وخلط الوقائع المجرّدة بالشواهد التي تطفح بها الشبكات والتطبيقات وبعضها مواد زائفة أو مجتزأة من سياقها. 


تجب المصارحة بأنها ملابسات لا تهدي إلى رؤية صافية يتطلّبها التصرّف الرشيد، ولا تُسعف في تقديرات مستقلة عن الزيغ والهوى، وقد يأتي بعضهم بما يُزعَم أنه من ضروب التحليل والبحث والدراسة لخدمة أحكام مُسبَقة لا تقبل عندهم تبديلاً ولا تعديلا، ولتصديق أمانيّ رغائبية منعقدة سلفاً فلا تزيد الطين إلاّ بِلّة. وقد تكاثرت "مراكز الدراسات والبحوث" المنصرفة أساساً لتسعير الجمهرة وتوفير "إثباتات علمية" تعزِّز خطابات الشحن والتعبئة ضمن مربّعات التوتر وخنادق القصف المتبادل على خطوط التماس السياسية والإقليمية والإثنية والطائفية والأيديولوجية.


ومن عادة "طبقة المكلومين" هذه أن تخرج بمقولات مضطربة وأحكام متعسِّفة على أساس من معايير مُفتعلة تتهاوى بالتمحيص الذي تتحصّن منه باستدعاء هالة الضحية وجسامة الخَطب، أو بالاحتماء بخنادق الاستقطاب في زمن الصراعات الدامية، ولكلّ خندق منها سردية لا تقبل المساس، وفرضيات جعلت مسلّمات في وعي جمهرتها.


ما الذي يُرجَى من منصّات التقدير ودوحات النظر وأروقة النخب إن استبدّت بها العواطف وأمسكت بخطامها المُزايدات ورضخت لمن يحظون بامتياز الابتزاز العاطفي باسم قضايا ومآسٍ، وهذا في مقامات التفكير والاستراتيجيات؟ إن كنّا مكلومين بدرجة أو بأخرى، أو مهتمّين بقضايانا النازفة التي تتكاثر من حولنا؛ فإنّ الواجب على الجرّاح الماهر من أحدنا أن يعزل مشاعره الإنسانية العميقة قبل الإمساك بمبضعه؛ كي لا ترتعش كفّاه، وكي لا يكون شريكاً في الفتك بقضية يُحسَب عليها، وإن حَسُنت نواياه وأجاد في نزف الدمع على ضحاياها. تلك وصية تأخّرت عن موعدها سنين عددا، تحت تأثير حكمة الصمت عن النصح والقعود عن المصارحة بدعوى أنّ "المكلوم لا يُناقَش". 

0
التعليقات (0)