كتاب عربي 21

رابعة لا تزال جرحا

آيات عـرابي
1300x600
1300x600

يمكنك بقليل من الخيال إعادة بناء قصص كاملة، وتصور حياة أصحابها من خلال الصور. المقاطع المرئية حتى لو كانت قصيرة، فهي توفر دون شك رؤية أكثر عمقا واستيعابا للتفاصيل. ولا شك عندي أن هناك تفاصيل مروعة تختفي تحت غبار الأحداث والأخبار المتلاحقة التي أعقبت المجزرة، رغم الجهود الدؤوبة التي بُذلت لتوثيقها، وهي جهود تستحق الشكر دون شك. أحد أهم محاولات التوثيق كان كتاب أعده بعض النشطاء بعنوان "مجزرة رابعة بين الرواية والتوثيق". 

والحقيقة أن تصفح الكتاب يبعث على القشعريرة، فشهادات بعض الناجين من محرقة رابعة وإن كانت مبعثرة كما هو متوقع من محاولة توثيق أنتجت في ظروف قمع غير مسبوق، إلا أنها تعطي صورة رهيبة للأحداث وتكشف عن حقيقة ساعات الرعب التي عاشها أهل رابعة.

بعض الناجين من المجزرة رووا كيف صلوا الفجر ثم ناموا عدة ساعات ليستيقظوا في حوالي الساعة السادسة صباحا على أصوات تدعوهم لمغادرة الخيام لأن (الضرب قد بدأ) ويا لها من جملة رهيبة. 

تصور أن توقظ بشرا عزلا يتصاعد ترقبهم يوما بعد يوم وهم يتابعون في توجس عمليات الشحن الإعلامي والتسخين المجتمعي التي مارسها إعلام العسكر ضد المعتصمين العزل، لتخبرهم أن (الضرب قد بدأ). 

شهادات أخرى للناجين تحدثوا فيها عن حالة الفزع التي انتابتهم. وليس من الصعب تصور فزع أطفال وبكائهم وهم يشاهدون سحب الدخان تتعالى من عدة شوارع، أو أن تتصور حالة الشعور بالنهاية التي انتابت البالغين. 

ما زلت حتى الآن أتذكر رنين كلمات متحدث وزارة الصحة على القناة الأولى بالتليفزيون المصري وهو يتحدث عن مجزرة الحرس الجمهوري التي سبقت مجزرة رابعة، ويقول بلهجة رسمية شابها الغضب (ما حدث هو مجزرة متكاملة الأركان) وقتها شعرت كما شعر كثيرون غيري، برائحة الدماء التي تتصاعد في الأجواء بمصر، وبأن الانقلاب لا ينوي التوقف عند هذا الحد وأنه لابد أن يرتكب مجازر أبشع. 

ما زلت أذكر شعوري وأنا متسمرة أمام شاشة التليفزيون أشاهد في ارتياع سحب الدخان المتصاعدة من رابعة والقشعريرة التي شعرت بها وأنا أتصور هؤلاء العزل الذين فوجئوا بالمدرعات تحاصرهم وبالطائرات تحوم فوق رؤوسهم.

الحقيقة أنني كنت لا أزال عاجزة عن تصور قدرة البعض على الإمساك بالبنادق وإطلاقها على أجساد أطفال ونساء ورجال عزل وسفك دماءهم بكل هذه السهولة. 

الحقيقة أن محاولة تصور مشاعر أم استيقظت لتتفاجأ بأخبار المجزرة ثم تحاول الاتصال بابنها وقلبها ينخلع من مكانه ورياح القلق تعصف به فتضربه يمينا ويسارا لهو أمر مرعب. 

من المشاهد التي ترفض مغادرة ذاكرتي، مشهد الطفل الذي يحتمي بجدار ليرفع أذان الظهر، ومشهد الطفل المحمول غارقا في دمائه في قطعة من القماش. هذه الصور حُفرت في عقلي وقلبي وتأبى أن تغادره، وأنا أشاهدها في صورة أو مقطع مرئي على بعد آلاف الأميال، فكيف بمن رآها رأي العين.

بالنسبة لي فقد توقف الزمن عندي في هذه اللحظات، توقف الزمن عندي في تلك اللحظات التي جلس فيها بعض المعتصمين يحتمون بأواني بلاستيكية (لا يمكن أن تحمي أحدا) من رصاصات متطايرة. 

مازلت أرى ألسنة اللهب المتطايرة من الأرض حول مسجد رابعة المحترق في نهاية المجزرة. مازلت أرى عشرات الصور تدور في عقلي كشريط سينمائي يأبى أن يتوقف. مازلت أرى تلك الجرافة العسكرية وفي مواجهتها لافتة مكتوب عليها (كل عام وأنتم بخير), لم تنجح هذه السنوات في محو هذه صورة الأم المسنة الجالسة أمام جثمان ابنها واضعة يدها على خدها وهي تنظر إليه. 

بالنسبة لي وبالنسبة لكثيرين غيري، فإن رابعة لا تزال جرحا لم يندمل.

 

2
التعليقات (2)
HerrMohammad
الأحد، 12-08-2018 10:43 م
والله ياأستاذه ولن يندمل مهما مر من الزمن ( رابعه حدث خيالي في كل شيئ )
Mohamed Abdel Salam
الأحد، 12-08-2018 10:23 ص
بجد مقال اكثر من راءع