مقالات مختارة

كيكي… والسيسي «التحدي»

يحيى مصطفى كامل
1300x600
1300x600

شيئا فشيئا تزحف عليّ تلك المرحلة من الحياة، التي كثيرا ما لاحظتها في كبار السن من أسرتي الضيقة ومعارفنا، وخلت أنني معصوم منها بإرادتي محاربة تقدم السن، ويقظتي للرتابة والتصلب اللذين يغزوان حياة كل منا.


فكبار السن هؤلاء يبدون غير عصريين، فاقدي الاتصال بأحدث «التقاليع» والصيحات، خارج مستجد الصرعات، يستمعون إلى موسيقى قديمة ولا يطربون لغيرها، كما لا يشاهدون سوى الأفلام القديمة المحفوظة، حيث يقف ممثلون بشعر مدهون يلمع بما نقع فيه من الفازلين، مبتسمين ابتسامة بلاستيكية لزجة، مبادرين كل آنسة خجولة في طريقهم (ليست سوى البطلة بالطبع كما يتكشف سريعا) بـ «نهارك سعيد يا مدموازيل»، يحنون لزمن ضائع لن يعود.


لكن الشاهد أنني رغم حرصي لم أفلت من ذلك، إذ لم أفق في الآونة الأخيرة على «تقليعة» جديدة إلا بعد أن انتشرت وقلدها إعلاميون، وتسببت في إصابات للبعض فصارت حديث مواقع التواصل الاجتماعي، ووجدت طريقها إلى صفحات الجرائد، وناهيك عن كوني لم أتعرف على أغلب المتحمسين من الإعلاميين (ما يدل أيضا على درجة الانفصال)، فإن «التقليعة» الجديدة لم تثر فيّ سوى الامتعاض، فهي مفتقدة المعنى تماما، خالية من أي لمحة جمالية. اشُتهرت تلك «التقليعة» أو التفنية الجديدة باسم تحدي كيكي أو «كيكي تشالنج»، حيث يهبط المُتحدي من سيارة لم تزل تتحرك ببطء ويرقص بجوارها، بينما يصوره السائق أو أي شخص آخر يتصادف وجوده داخلها. يرقص بخفة روح متظاهرا بالانسجام والانطلاق.


ثم بتصريفة لا يعلمها إلا خالق الكون والبشر على حالهم العجب بأدمغتهم الأعجب تسربت إلينا، بل غزتنا تلك التقليعة. لست بحكم على الناس، ولن أكون، كما أنني ليس لديّ اعتراضات جوهرية على أنماط حياة الأفراد ولا اختياراتهم، بالطبع ما لم تجُر على مساحات الآخرين وحرياتهم، ولم تعرض حياتهم للخطر، لكن ربما ما أزعجني في هذه الصيحة الأخيرة، هي كونها خارج سياقنا الاجتماعي والثقافي بصفة عامة، ولا تعدو في بدايتها أن تكون تقليدا أعمى، لأي منتج استهلاكي غربي قفزت إليه الطبقات المخملية، من موقع التغريب المتواصل والانفصام، المتعمد أحيانا، عن واقع مغاير ورث تماما، ومن ثم تسرب إلى قطاع أوسع، شأنه شأن أي شيء آخر، فبتنا نرى تسجيلات لمذيعات «يَقبلن التحدي ويُقبلن عليه» في شوارعنا المزدحمة المتكسرة المتسخة المتوقفة بصورة شبه دائمة، التي لم تعرف في العهد الحديث أي قواعد مرور، كأن ذلك ما كان ينقصها. تمشيا مع فكرة روح العصر، ولما كان عصرنا الآن ثورة مضادة، وهجمة يمينية بشعة، فلن نبالغ بأن ثقافة التفاهة والعدمية تفاقمت في الطبقات المعادية، عقب انكسار وانكفاء الثورة، وفي استحضار لكلمات عمنا الراحل نجم «أحبك محشش مفرفش مطنش ودايخ مدوخ وآخر انسطال». سرت إلى قطاعات أوسع، فالمشهد بليد والأفق مسدود ولم يبق لدى العديدين إزاء القمع والتصفيات غير المسبقة، سوى الرقص والتغييب و«الانسطال». إن رقصة كتلك تؤكد وتنطق بكل معاني العبثية واللامعقول.


بيد أن الحياة المتجددة أبدا أثبتت أن هناك دائما في جعبتها ما في مقدوره أن يدهش ويفاجئ، وهذه المرة جاءت على يد نجم العرض الأول متصدر المشهد، بإرادة الظهور وطمس المحيطين والمنافسين المحتملين: السيسي. فقد أدهشني الرجل وأحرجني إذ تبين لي أنه هو الآخر يعرف بـ«تحدي كيكي»، ما أشعرني بانفصالي الشخصي عن الواقع (على رداءته)، وبالشيخوخة المبكرة التي دائماً\ ما خشيتها وسعيت للفرار منها، دون جدوى. بيد أن دهشتي لم تصدر عن غيرة ومرارة من مواكبته لآخر صيحة وروح العصر فحسب، بل من تساؤل، فقد أخبرنا مرارا وأعاد علينا بأننا فقراء جدا، وأن البلد يحتاج إلى مجهود خرافي لإعادة بنائه، وأن ما كان متبقيا عشية الثورة لم يزد عن شبه دولة إلخ، ومع ذلك فلديه من الوقت ما يكفي ليتابع أحدث الصرعات والتفاهات، كتحدي كيكي، وأغلب الظن أنه وراء أسواره التي ما تني تزداد عددا وعلوا يصل إليه الكثير من الأخبار والشائعات عن طريق أجهزة الأمن، كالهاشتاغ الذي يطالبه بأن يحل عن سمائنا، فأنعم بها أجهزة إن كانت هي التي تغذيه بآخر «موضة»، وسط مشاغلها من التنصت على المواطنين وملاحقتهم، والإرهاب الذي وُعدنا بالقضاء عليه منذ فترة لم أعد أذكرها.


وفي ما يخصه تحديدا تبقى نقطة تتعلق بالكياسة، لن أتحدث عن ثقل الظل من خفته فهذا حكمٌ شخصي ونسبي، وما أراه ثقلا تنوء به الجبال قد يراه سيسيٌ متيمٌ قمة الظرف واللطف، «فحبيبك يبلع لك الزلط»، على حسب المثل الشائع، لكن المشكلة أن السيسي وقد ابتدأ من حيث انتهى السادات، أي بجلسات المصاطب حيث يجمعون المصطفين الأشرار من ممالئي السلطة والمخبرين، ومن يتصور النظام مقدرته على شرائهم، موليا إيانا قفاه الكريم، ليعظ وينظر ويتحفنا كل مرة بكلمة أو خلاصة جديدة شد ما يبدو فرحا بها، فتارة الفقر والآن «العوز»، إلا أن الأكيد أنه يعوزه أبسط قدر من الكياسة ومراعاة حال الغالبية من المواطنين، فالناس المطحونون فقرا وعوزا (لنستعر منه لكي لا يأخذ على خاطره) يطحنهم غلاء الوقود وشتى السلع الأساسية، مسببا لهم التعاسة في شتى مناحي حياتهم، لذا حين يطلب رفع الأسعار حتى من قبيل المزاح، فإنه بذلك يؤكد الطابع «المصطبي» لهذه المؤتمرات التي وعدت من قبل بالرخاء والاستثمارات، ولم تأت بشيء يُذكر.


والحقيقة أنني بعد تأمل وجيز وصلت لنتيجة محزنة ومفزعة تحمل الشيء الكثير من رثاء النفس، إذ أنني أكرر دائما أن شيئا ما لا يحدث اعتباطا، وأن الصورة الكلية مكونة من أجزاء مترابطة، وعليه فقد اكتشفت أننا جميعا في حقيقة الأمر نرقص وفق تحدي كيكي في مصر السيسي: هو تحدي السيسي.


ففي مصر السيسي، مصر التي تنزلق كل يوم بعيدا عن نفسها وإمكانياتها وما كان مأمولا منها، وسط وضع بليد كئيب، صودر فيه المجال العام وتُسحق فيه أي مبادرة ولم تزل بعد بذرة في رأس صاحبها (ورأسه نفسها في أحيان كثيرة) بقدم الأمن الغليظة الباطشة، وعلى خلفية المعتقلات المكتظة بالسياسيين في ظروف لا ترتضيها دول كثيرة شرقا وغربا للحيوانات والمواشي، ووسط غلاء وتضخم مرعبين، وتحلل من كل الالتزامات تجاه المواطنين، وتفريط في الأرض وتنسيق مع إسرائيل لتصفية كل حقوقنا، وسط كل ذلك فكثيرون منا يمارس الرقص راكضا وراء سيارة السيسي وطبقته التي لن يحصلوها، يرقصون منهكين مفلسين خائفين، وقد يتظاهرون بالخفة والسعادة والمرح، مسترجعين أذكار السيسي وتعويذاته، أننا أفضل من سوريا وليبيا والعراق، وأن الرخاء مقبل بالتأكيد، ينتظرون الدولار الذي وعد محافظ البنك المركزي بانهيار سعره، ودخل قناة السويس الذي سيتضاعف ثلاث أو أربع مرات، يركضون وراء سراب الاستقرار، يعيشون اللاجدوى والعبث، يركضون ويتعثرون ويسقطون.


رجوعا للحق بعد تفكير، لقد كان السيسي محقا حين ذكر «كيكي» ضاحكا، فهو يسوق حافلة البلد مسرعا، وأكثرنا يرقص في بلاهة محاولا إقناع نفسه بالأوهام وأولها اللحاق به، وكما قال أمل دنقل سابقا: «الناس في مدينتي يرقصون لأن غيرهم يصفقون».

 

عن صحيفة القدس العربي

0
التعليقات (0)