كتاب عربي 21

العنصرية المتأصلة فينا (1)

طارق أوشن
1300x600
1300x600

على طاولة غذاء تجمع كلود وماري ببناتهما وأزواجهن، يشتد النقاش مرة أخرى وتظهر سوء التفاهمات مجددا. تحاول أوديل إنهاء الجدل. والمشهد من فيلم (ماذا فعلنا بحق الرب؟- 2014) للمخرج الفرنسي فيليب دوشوفرون.


أوديل: وماذا فعلتما أمس يا والدتي؟
ماري: تناولنا العشاء في مطعم صغير فلكلوري.
أوديل: كان أمرا طيبا إذن؟
كلود: كان كذلك. لكن عند عودتنا أضعنا الطريق ووجدنا نفسينا في منطقة باربيس (حي باريسي بغالبية مغاربية) وكان الوضع فلكلوريا أيضا. 
رشيد: هل لك أن توضح ما تعنيه بالفلكلوري؟
ماري: ليس في ذلك أي إساءة يا رشيد. لكن بالنسبة لأشخاص مثلنا يعيشون في مدينة صغيرة خارج باريس فحي باربيس يمثل صدمة لنا.


كلود: كنت محظوظا بحمل جواز سفري لأنني تخيلت نفسي بباد الواد (حي جزائري شعبي)
لور: لقد تعديت كل الحدود يا والدي.
كلود: لم يكن هناك من فرنسي واحد على قارعة الطريق. هذا تحصيل حاصل.
رشيد: وكيف عرفت أنهم ليسوا فرنسيين؟ هل اطلعت على وثائقهم الثبوتية؟
كلود: لم النرفزة يا رشيد؟ ألا يمكننا فتح نقاش على طاولة الغذاء؟
رشيد: تسمي هذا نقاشا؟ منذ بداية جلستنا وأطروحاتك على  الحافة..
كلود: أي حافة؟
رشيد: حافة العنصرية.


كلود: أنا عنصري؟ أنا جمهوري ديغولي.. أرفض اتهامي بالعنصري. لا تنسوا أنني منحت ثلاثة من بناتي الأربع لأزواج من أصول مهاجرة. بالمقابل، ما الذي قدمتوه أنتم لفرنسا؟
عندما صرح الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو أن القارة الإفريقية هي من فازت بكأس العالم بروسيا باعتبار أن المنتخب الفرنسي حاز على اللقب بفضل أداء لاعبيه من أبناء المهاجرين الأففارقة، فإنه لم يكن مجانبا للصواب بل وضع الأصبع على موضوع محرج كثيرا ما يتم الالتفاف حوله بدعاوي الاندماج أحيانا والتعايش أحايين أخرى.

 

الأكيد أن أبناء المهاجرين الأفارقة الذين يصنعون أفراح فرنسا وكثير من دول الاستعمار القديم ما هم إلا امتداد طبيعي لما قدمه آباؤهم وأجدادهم من تضحيات في سبيل تحرير فرنسا من النازية وإعادة بناء اقتصادها لما بعد الحرب العالمية الثانية. بعد عقود على تلك الحرب المدمرة، صار موضوع اللجوء والهجرة مثار مزايدات سياسية تحول معها الفرنسيون والأوربيون من أبناء الهجرة إلى قربان يتقاذفه الساسة والإعلام والمجتمع ويحملونه أسباب الهزائم والخيبات. لم يشفع لهؤلاء يوما أنهم صانعو مجد كثير من تلك البلدان ورافعو راياتها في المحافل والمنتديات. 


انتهى مونديال روسيا ورددت الجماهير أسماء نجوم لم تعد ألقابهم تثير الريبة لحظة الانتصار. لكن واقع الحال يبين أنها مجرد استراحة محارب قبل أن تعود نفس الأسماء غريبة على المجتمع وثقيلة على السمع خصوصا إن كان أصحابها مجرد أشخاص عاديين تتقاذفهم أمواج الواقع المتلاطمة من فقر وخصاص وبطالة وحرمان.


في مصعد عمارة حيث يلتحق كلود وزوجته ماري بمعية ابنتيه لور وايزابيل، الحامل من زوجها رشيد، بحفل عقيقة ابنتهما الثالثة أوديل المتزوجة من اليهودي دافيد، يدور الحوار التالي:
ماري: هل اخترتم له اسما؟
ايزابيل: ليس بعد. نحن محتاران بين أنطوان ولوكاس ..
رشيد: ومحمود.
كلود (مستنكرا): محمود؟
رشيد: أحب كثيرا اسم محمود... وأنتم ماذا تفضلون؟
كلود: لا حق لي في التدخل لكنني أعترف أنني أميل إلى أنطوان أو لوكاس.
ماري: صحيح.. ليس سهلا حمل اسم مثل محمود.
بعد الخروج من المصعد حديث هامس وضاحك بين ايزابيل وزوجها رشيد.
ايزابيل: ما الذي فعلته يا غبي؟
رشيد: أعتقدت أنه سيصاب بسكتة قلبية.


محمود اسم غير مرغوب وحمله يثقل كاهل صاحبه دون شك. مسعود أيضا صار اسما غريبا على الأذن الألمانية بعد أن تجرأ أوزيل، نجم المنتخب الألماني الحائز على بطولة كأس العالم في نسخته السابقة 2014، على التقاط صورة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ذيلها بعبارة "رئيسي".

 

وقع ذلك قبل انطلاق التظاهرة الرياضية العالمية لكن الضربات لم تتهاوى فعليا على اللاعب إلا بعد الخروج المذل للمنتخب الألماني فكان مسعود أوزيل كبش الفداء. رد فعل مسعود كان غاضبا بشكل عرى على واقع لا تنفع معه مساحيق تجميل الاندماج الانتقائي.


يقول اوزيل في بيان اعتزاله اللعب الدولي: في أعين غريندل (رئيس الاتحاد الألماني) ومؤيديه أكون ألمانيا عندما نفوز وأكون لاجئا عندما نخسر.

 

رغم أنني أدفع الضرائب في ألمانيا وأتبرع بمنشآت لمدارس ألمانية وفزت بكأس العالم 2014 ما زلت مرفوضا من قبل المجتمع.. بقلب حزين، وبعد الكثير من التفكير في الأحداث الأخيرة، لن أعود للعب على المستوى الدولي بعد هذا السلوك العنصري الذي تعرضت له وعدم الاحترام.. "جذور أسلافي تعود إلى أكثر من بلد واحد، في حين نشأت وترعرعت بألمانيا، تملك عائلتي جذوراً راسخة في تركيا، لديّ قلبان: أحدهما ألماني، والآخر تركي..


الاندماج في المفهوم الأوربي يعني بالضبط الانسلاخ عن الجذور والتنكر لها. العرق الأوربي الصافي لا يقبل دماء مختلطة وهو تفكير لا يختلف في شيء عن أدبيات الحزب النازي الذي أدى في نهاية المطاف لتدمير القارة العجوز.

 

هنا يبدو الفهم الديمقراطي الأوربي في هذا المجال قاصرا رغم كثير من النجاحات التي حققها المهاجرون وأبناؤهم على مدار السنوات.

 

هذه النجاحات تشكل استثناء لقاعدة تجعل التهميش أساسا لتعاملها مع الأعراق الوافدة على المجال الأوربي. حالات مثل مسعود أوزيل وقبله كريم بنزيمة، الذي تحول وفق ما تختزنه الذهنية الفرنسية عن أبناء الضواحي المغاربيين  لمجرد زعيم تشكيل عصابي يبتز زملاءه، ليبعد عن المنتخب منذ سنوات تأكيد آخر أن صعود اليمين المتطرف وتحول اليمين التقليدي لطروحاته تعبير عن توجه مجتمعي حقيقي أصبح يرى في الوجود الإسلامي على أرض أوربا تهديدا لنقاء العرق الأوربي.

 

التهديدات والأعمال الإرهابية زادت من تأجيج ما يعتمل في النفوس من خوف أو كراهية أو عنصرية متأصلة لا تنتظر إلا من يطلق لانطلاقها المبررات.

 

الأكيد أن من يسعى لاختصار "قضية" أوزيل في صورة جمعته بأردوغان واهم. التركيز على الانتماء العرقي والديني متأصل في النظرة الغربية مهما بدت الاستثناءات قادرة على تجاوز الحدود المرسومة وفق محددات وتصورات قبلية لا تقبل بالاختلاف الحقيقي نهجا وسلوكا.


في غرفة جانبية بعد ليلة احتفال بعيد الميلاد، يتحاور كلود وأزواج بناته الثلاثة..
رشيد: عندما أشاهد مباراة للفريق الفرنسي لكرة القدم أو أستمع للنشيد الوطني تجتاحني قشعريرة.
دافيد: وأنا كذلك.
شاو لينغ: أنا أيضا علما أنني لا أهتم لكرة القدم.
كلود: أنتم تسخرون مني.. هل تحفظون فعلا النشيد الوطني؟
يبدأ رشيد بالإنشاد ويتبعه الآخرون.
كلود: لقد أشعرتموني بالقشعريرة.

 

0
التعليقات (0)

خبر عاجل