قضايا وآراء

مختارات من أدب السجون: رياحين بين مفاصل الصخر

مصطفى أبو السعود
1300x600
1300x600
يُعرف أدب السجون بأنه تلك النصوص التي يكتبها المعتقل في السجون، ويُعبر بها مجمل عواطف الإنسان وأفكاره وخواطره، وقضايا تشغله، وهذا يؤكد أن السجن لا يستطيع تحويل الأسير إلى كتلةٍ بلا مشاعر أو أحاسيس أو أفكار.

وفي واقعنا الفلسطيني وجهادنا ضد الاحتلال، فقد ظن المحتلون أن قتلهم لأهل الحق، سيميت الحق، وأنهم باعتقالهم لأجساد الأسود ستموت الإرادة والروح، وأنهم بتجبرهم سيُخضعون المؤمنين المخلصين لرؤيتهم، فأبدعوا في ابتكار أساليب القهر ومارسوها على الأسرى الفلسطينيين، وأغلقوا أمامهم كل نوافذ الأمل والتفاؤل، لكن أصحاب الحق لا يبالون بما يلاقون، فأبدعوا في الصبر والصمود، ولم يستسلم الأسرى لفلسفة السجان بأن يحولهم إلى كائناتٍ تشربُ وتأكلُ وتنامُ كما تفعل الأنعام، بل إن الأسرى حولوا السجن إلى واحاتٍ تُنتجُ أجمل الأزهار ويفوح عبيرها إلى خارج السجن، وكانوا أمام كل عائق يضعه الاحتلال أمام إبداعهم يزدادون إصراراً على الإبداع، فخرج ابداعهم كـ"رياحين بين مفاصل الصخر".

"رياحين بين مفاصل الصخر" هو كتاب للدكتور فايز أبو شمالة الذي عاش تجربة الأسر في السجون الصهيونية لسنوات طويلةٍ، سرد فيه إبداعات الأسرى الفلسطينيين في ما يختص بمجال الأدب وخاصة الشعر، فقد رصد الكثير من قصائدهم واعمالهم الأدبية.

لقد كتب الأسرى عن كل شيء عن الحب والوطن والأم والأب، وعن فخرهم بما فعلوا، وكتبوا عن الاشتياق والحنين للأصدقاء وأيام الطفولة وبطولاتهم وموقفهم من الأنظمة العربية والشعوب العربية، وربما لا نبالغ لو قلنا بأن أكثر شيء نال من كتابات الأسرى هو "الحرية". كيف لا؛ والحرية هي الهدف الأسمى الذي سعى الأسرى للحصول عليه قبل اعتقالهم من خلال نضالهم ضد الاحتلال، وكذلك من خلال صبرهم وتحمل الالم والعذاب في سبيلها؟

إن تشبيه فايز أبو شمالة الأسرى بـ"الرياحين" هو تشبيه موفق، حيث أنه من المعروف أن طعم الريحان مر رغم أن رائحته جميلة جداً، وهذا كناية عن أن طعم لحوم الأسرى مر في فم الأعداء، لكن رائحة الريحان جميلة عند أبناء الشعب الفلسطيني، كما أن تشبيهه للسجون على أنها صخور هو تعبير موفق ايضا، لكن نجاح الرياحين في أن تنبث بين مفاصل الصخر يضفي إلى الريحان قوة رائعة، ويقلل من هيبة الصخور.

مفاصل الصخر كناية عن أن الصخر مثل الإنسان له مفاصل، وهي هنا تعني الشقوق التي نرى فيها النباتات الصغيرة، وهذا تأكيد على الإنسان يحاول أن ينجز وأن يبدع في السجن رغم المعيقات. وبما أن الأسرى في السجن لديهم وفرة في الوقت، فهم يستثمرونه في إنجاز الكثير من الأعمال الإبداعية.

لقد فجر السجن طاقات الكثير من المعتقلين، وهنا أستشهد بما كتبه الأستاذ الدكتور نبيل خالد أبو علي في تقديمه لكتاب الدكتور فايز أبو شمالة، حيث قال: "لقد عرفتُ فايز قبل الاعتقال طالبا على مقاعد الدرس في قسم اللغة العربية بالجامعة الإسلامية منذ عام 1982 ولم تتنفس على لسانه كوامن الإبداع، ثم فاجأنا من داخل المعتقل بتحرير عملين: ديوان شعر حوافر الليل سنة1990، والانتفاصة في قواعد اللغة العربية سنة 1991. وهذا يؤكد أن المعتقل هو الذي وهبه شهوة الكتابة عن كل نص اختاره، وأمده القدرة على تلمس أحاسيس الآخرين والتعايش معها والانفعال بها.

ختاما نقول: إن إصرار الأسرى على الإبداع واستثمار الوقت ينسجم مع نصيحة قالها ذات يوم الكاتب والأديب مصطفى السباعي: "إذا حال دون نشاطك المعتاد حائل، من مرض أو سجن أو ظرف قاهر، فاستنقذ من نشاطك ما يمكن إنقاذه". فالأسرى استنفذوا طاقاتهم في الاستفادة من وقتهم، حتى أن الكثيرين منهم حصلوا على شهادات جامعية، ومنهم من حفظ القرآن والسنة النبوية والسيرة النبوية.
التعليقات (0)