كتاب عربي 21

خمر وحشيش وتبغ ولبن

جعفر عباس
1300x600
1300x600

انعقدت في 12-26 أيار/ مايو الماضي الجمعية العمومية لهيئة الصحة العالمية في جنيف بسويسرا، ولم يسمع العالم شيئا عن مخرجاتها، إلى أن كشفت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، أن البند الرئيسي في الاجتماع كان توصية بأن تعمل الدول الأعضاء على حث الأمهات، بالتوقف عن إرضاع أطفالهم الألبان الاصطناعية المجففة، في سياق حملة منظمة لتعريف النساء بأهمية الرضاعة الطبيعية، وعلى وجه خاص في الدول الفقيرة.

ما كشفته الصحيفة، هو أن الوفد الأمريكي عارض ذلك المقترح بقوة، وهدد جمهورية إكوادور التي طرحته بمنع المعونات عنها، وبأسلوب الأم التي قالت لمُدرسة ابنتها: إذا استحقت بنتي العقاب، اضربي البنت التي تجلس بقربها، وسترعوي بنتي ولن تأتي أمرا يستوجب العقاب مرة أخرى، فهمت الدول الأخرى "الرسالة"، وأحجم ممثلوها عن مناصرة الاقتراح علنا.

وفاز الاقتراح بصعوبة بعد أن رمت روسيا بثقلها وراءه، ولكن بعد "تخفيفه" بسحب نص يدعو لتقديم العون الفني للدول الفقيرة، لتتمكن من تنظيم حملات تحث على تفادي الألبان المجففة.

في السادس من حزيران/ يونيو المنصرم، قضت محكمة بتغريم شركة فيليب موريس أكبر منتج للتبغ في العالم، ثلاثة بلايين دولار، يتم منحها لريتشارد بويكِن الذي رفع دعوى على الشركة، لأن منتجاتها سببت له أضرارا صحية، جعلته عاجزا عن العمل، وخاضعا للرعاية الطبية على مدى أكثر من ثلاثين سنة.

وبلغ حجم التعويضات التي فازت بها العديد من الولايات الأمريكية من شركات التبغ حتى يومنا هذا 246 بليون دولار، بعد أن أثبتت للمحاكم أنها (الولايات) أنفقت أموال وموارد هائلة لتقديم الخدمات الطبية لضحايا التدخين.

والشاهد هو أن الصناعات الكبرى في الولايات المتحدة، تجد الحماية والرعاية من الحكومة الأمريكية، طالما أن عائداتها ضخمة، ولو كان ذلك على حساب وسلامة ملايين الناس، داخل وخارج الأراضي الأمريكية.

وموقف الوفد الأمريكي المشين في الاجتماع العام لهيئة الصحة الأمريكية، كان دفاعا عن شركات إنتاج الألبان المجففة، على حساب صحة أجيال مستقبلية مليونية وربما مليارية.

قاومت حكومات أمريكية متعاقبة- على مدى عقود- مقترح وضع تحذير على منتجات التبغ يفيد بأنها ضارة بصحة الإنسان، ومن المؤسف أن الناس في مختلف القارات، لا يدركون كم ناضل رالف نادر من أجمل حماية المستهلكين المستضعفين، وهو يخوض عدة انتخابات رئاسية أمريكية، وهو مدرك تماما أنه لن يفوز حتى لو شاب الغراب، ولكنه نجح في تحويل حملاته الانتخابية إلى معارك ضارية ضد الشركات الصناعية الاحتكارية الكبرى ومجموعات الضغط، ونجح بالتالي في تحريك منظمات المجتمع المدني لتعمل على حماية المستهلكين.

والسؤال المطروح على جميع الحكومات هو: طالما أنه من الثابت أن استخدام التبغ يؤدي إلى الموت، فلماذا لا يتم تحريمه بقوة القانون؟

والإجابة هي أن الدول الكبرى هي أكبر منتج للتبغ، ووقف إنتاجه يؤثر سلبا على اقتصاداتها، وبالنسبة للدول الصغرى فإن عائدات مبيعات التبغ ترفد الخزائن العامة برسوم الجمارك والقيمة المضافة.

وتحضرني هنا مقولة لوزير المالية إبراهيم منعم منصور، في حكومة المارشال جعفر نميري، عندما اشتكى الناس من رفع أسعار السكر وبعض المواد الغذائية، "عطلوا منابر الفضيلة، ولا تقولوا للناس إن الخمر حرام، وسأملأ الخزينة بعائدات جمارك الخمور المحلية والمستوردة".

وتفيد مضابط الشرطة والقضاء في جميع البلدان أن تعاطي الكحول يتسبب في 70% من حوادث المرور القاتلة، وأن شارب الخمر أكثر ميلا لجرائم العنف من متعاطي المخدرات، وقد توقفت معظم الدول الغربية التي يتفشى فيها تعاطي المخدرات، عن تجريم تعاطي الحشيش بمسمياته وأصنافه المختلفة، وصارت تلاحق فقط من يتعاطون ويروجون الكوكايين والهيرويين، بل أن بلدا مثل هولندا، سمحت لبعض المنافذ ببيع الماريوانا من باب "حنانيك بعض الشر أهون من بعض"، وجففت السوق من المخدرات القوية.

حتى مدمنو المخدرات لا يرتكبون الجرائم- عادة السرقات- إلا من أجل المال لشراء المزيد من المخدرات، بينما شارب الكحول قد يرتكب جرما بحق شخص لا يعرفه لأتفه الأسباب، وفي جميع الدول التي يُباح  فيها بيع الكحول فإن نحو 40% من نزلاء السجون، فعلوا أمورا تخالف القانون وهم في حالة سكر.

ولست أزعم أن المخدرات بنت ناس مقارنة بالكحول، ولكنني اعتقد أنه لو كان قلب أي جهة حكومية على عافية الإنسان، لحظيت الخمور بنفس درجة "التشهير والتكفير" والتجريم التي تحظى بها المخدرات.

وفوق ما جاء أعلاه، فمن الثابت علميا أن تعاطي الكحول يسببكوكتيلا من السرطانات وأمراض القلب والشرايين ويفاقم مرض السكري.

ولكن هل هناك زجاجة خمر واحدة في أي مكان في العالم تحذيرا (كما علب التبغ) بأن الكحول ضارة بالصحة؟ لا. ولماذا لا؟ لأن الكحول تجارة مربحة وأكبر منتجيها هي الدول التي لديها العضلات الاقتصادية والعسكرية، التي تجعلها وصية على المجتمع الدولي.

ولو توقفت إنتاج وتسويق الويسكي في بريطانيا، والنبيذ في فرنسا، والبيرة في ألمانيا، والفودكا في روسيا، لخسرت اقتصاداتها البلايين سنويا وفقد الملايين من أهلها وظائفهم، ومن ثم فإن التحذير من خطر الكحول على الصحة والأمن صار أمرا متروكا للأطباء ورجال الشرطة.

وبالتالي يصبح مفهوما أن تعارض الولايات المتحدة أي حملة منظمة قد تؤدي إلى العزوف عن إرضاع الأطفال الألبان المجففة، وأن تحمل علب التبغ عبارات تفيد بأنها "قاتلة"، دون أن يمنعها قانون من ممارسة القتل، وأن ترعى شركات إنتاج الخمور الأفلام الناجحة والفاشلة، ماليا، نظير أن يتعاطى الممثلون منتجاتها في مشاهد مختلفة.

في عالم كهذا تصبح السلامة مسؤولية فردية، وأنت حر إذا أطعمت  أطفالك لبن معيزو أو ماميزو أو زيزو، ولك القرار لتحكم ما إذا كان "الكاس" فعلا "يوزن الراس" أم هو فأس يهتك الكبد والبنكرياس.

0
التعليقات (0)