قضايا وآراء

عن سلمية الثورة: إنكلترا نموذجا

حسين عبد العزيز
1300x600
1300x600
بدأت الثورة الإنكليزية عام 1688 بعزل الملك جيمس الثاني وتنصيب ابنته ماري وزوجها وليام أورانج ملك هولندا، وانتهت في العام التالي بإعلان الحقوق الذي بموجبه لم يعد الملك قادرا على تعليق القوانين وفرض الضرائب وتشريع القوانين بمفرده.

لم تكن هذه الثورة، ثورة بالمعنى الشائع، حيث لم يشارك فيها الشعب إطلاقا، إنما فقط البرلمان الممثل للبرجوازية والنبلاء، لكن أطلق عليها اسم الثورة لأنها أدت إلى إعلان الحقوق الذي شكل فاصلا تاريخيا بين حقبتين، ومنح البرلمان القدرة على تسلم زمام الأمور السياسية في البلاد تدريجيا.

ساهم هذا التحول لاحقا في تطور الديمقراطية الإنكليزية، ففي عام 1832 تم إقرار الإصلاح الانتخابي وإلى استصدار قانون التسامح الذي أنهى عهد الاضطراب الديني وشكل انتصارا للبروتستانتية.

لا يمكن بطبيعة الحال اختزال هذا الحدث (الثورة) بمجرد عزل ملك والإتيان بآخر، إن هذه السرعة والتكلفة البسيطة لهذه الثورة مرتبطة بتطور النظام السياسي الإنكليزي الذي خضع لتمفصلات تاريخية تعود إلى القرن الـ 13 مع الميثاق العظيم (الماغنا كارتا) عام 1215 الذي أعطى النبلاء امتيازات قانونية وسياسية، وبموجب هذا الميثاق على الملك القبول بأن حريته لن تكون مطلقة.

وبعد الماغنا كارتا شهدت إنكلترا في القرنين الـ 16 والـ 17 تحولات سياسية واقتصادية ودينية هامة، بدءا من ثورة رحلة الغفران 1536 ـ 1537، وهي ثورة إقطاعية قام بها النبلاء ضد الملك شارك فيها الفلاحون دعما لسادتهم، وثورة ديفونشاير وكورنوول 1549، وثورة نورفولك من العام نفسه أيضا، ثم الحروب الأهلية 1642 ـ 1651.

وكان النصف الأول من القرن الـ 17 عهد الصراع بين البرلمان والملك مع وصول عائلة ستيوارت للحكم ممثلة بجاك الأول الذي حاول أن يضفي على مُلكه حقا إلهيا كان من نتيجته احتدام الصراع مع البرلمان الذي جُمد طيلة سبع سنوات (1614 ـ 1621)، ثم ازداد الوضع سوءا في علاقة الطرفين مع اعتلاء تشارلز الأول الحكم.

وقد وصل الأمر به في صراعه مع البرلمان إلى سجن أكثر من سبعين نائبا، غير أن حاجته لموافقة البرلمان على منحه الأموال اللازمة لمحاربة إسبانيا دفعته إلى إطلاق سراح النواب والموافقة على عريضة الحقوق عام 1628، ولم تمض فترة قليلة حتى اندلع الخلاف مجددا، الأمر الذي دفع الملك إلى حل البرلمان والحكم بمفرده لمدة تزيد عن عشر سنوات (1629 ـ 1640)، ومع انعقاد البرلمان مجددا وحاجة الملك للأموال في مواجهة ثورة الأسكتلنديين، وافق على وثيقة الاحتجاج العظيم التي طالبت الملك عدم تعيين مستشارين ووزراء من دون موافقة البرلمان، واعتبرت الوثيقة قرارات مجلس العموم قوة القانون بصرف النظر عن موافقة الملك أو عدمها.

لكن الثورة البيوريتانية سرعان ما اندلعت عام 1642 بقيادة كرومل بمساندة من الجيش والبرلمان ضد الملك تشارلز الأول الذي أعدم بعد سبع سنوات في عام 1649، لتنتهي مرحلة وتبدأ أخرى في تاريخ الصراع بين الملكية والبرلمان.

هذا المسار التاريخي وما رافقه من بناء النظام السياسي تطابق مبكرا مع تحديد نموذج للشرعية مخصص لوضع حدا للحكم الملكي المطلق يقول برتران بادي، وهو الذي حال دون تحويل الثورة الإنكليزية إلى اتخاذ مسار عنيف على غرار الجارة فرنسا.

ومع كل تمفصل تاريخي كان السادة النبلاء يحصلون على صلاحيات ودور أكبر، ومنذ القرن الـ 13 اضطر الملك إلى تشكيل محاكم للعدل تابعة للدولة إلى جانب محاكم العدل التابعة للأسياد، مع الاحتفاظ للأخيرين بإدارة الشؤون المالية والعقارية، أي أن الأسياد استطاعوا تثبيت سيطرتهم الإدارية والاقتصادية قانونيا وليس فقط واقعيا، وهكذا حدث تقسيم للعمل السياسي: الأسياد يتكفلون بوظائف الحكومة المحلية في الأطراف، وبرلمان يأخذ على عاتقه تمثيل هذه الأرستقراطية في المركز، وبذلك تشكل مجال سياسي في إنكلترا عبر صلات تدريجية بالمجتمع، وهو الميل الذي يعني في الشؤون الاجتماعية إيثار الإصلاح على الثورة حسب برتراند رسل.

لخص عزمي بشارة تطور البرلمانية الإنكليزية بأنها تطورت من لعب دور مقاومة وموازنة الحكم الملك بالنيابة، إلى ممارسة الحكم كسلطة تشريعية، ثم توسع التمثيل ليصبح تدريجيا أكثر ليبرالية من حيث منح وحماية حقوق المواطن، وأكثر ديمقراطية من حيث اتساع التمثيل وحق التصويت وصلاحيات المجلس النيابي.

وهكذا ظلت إنكلترا وفية لمبادئ العصور الوسطى (الجرمانية والرومانية الجمهورية) للانسجام داخل الوحدة السياسية والاجتماعية، وكرهت دائما المنطق البوداني للسيادة، وهذه هي الأطروحة التي دافع عنها مونتسكيو الفرنسي وحاول نقلها إلى بلاده، ومفادها أن الإجراء الوقائي من الاستبداد الملكي هو من اختصاص النبالة والمؤسسات التي تراقبها وهي البرلمانات والسلطة القضائية، وهي الفكرة ذاتها التي نادى بها مواطنه توكفيل فيما بعد.

كان لغياب المركزية السياسية التي وسمت التاريخ الفرنسي، دورا في احتفاظ النظام السياسي الإنكليزي ببعد أرستقراطي يوازن عمل الدولة، وقد سمح هذا النموذج للفاعلين الاجتماعيين بالقدرة على التفاهم المباشر فيما بينهم خارج السلطة السياسية.

في كتابه الهام جدا "الأصول الاجتماعية للاستبداد والديمقراطية" يتتبع بارنغتون مور صعود الاتجاه التجاري في إنكلترا خلال القرنين الـ 14 و الـ 15، هذا الاتجاه الذي بدأ يؤسس لعلاقة جديدة بين السيد مالك الأرض والفلاح أدت إلى تحرير الفلاحين وخروجهم من دائرة الطبقة المالكة، ومع الوقت نشأت طبقة تجارية لها مصلحة في توسيع التجارة، ثم بدأت تتسع هذه الطبقة مع دخول أسياد إقطاعيين إليها بحيث أضحت قوة موازية للتاج ولها مصلحة في دفع عملية الإصلاح السياسي والاقتصادي، وحالت دون سطوة التاج وانفلات الفلاحين، ويذهب مور إلى أن الأنظمة البرلمانية وجدت أرضيتها الخصبة في البلدان التي أصبحت فيها نخبة رأسمالية جديدة قادرة على التحكم في تسويق فائض الإنتاج خارج إطار الدولة (إنكلترا).

التوازن الذي وسم التاريخ الإنكليزي بدا واضحا على مستوى الدين، فقد كان النظام السياسي متسامحا على مستوى العقيدة، ولم يكن هناك نزاع بين السلطات المدنية والسلطات الدينية، ولم تكن هناك حاجة للإطاحة بالدين، كانت المشكلة التي تواجه الملكية الإنكليزية هي القضاء على الولاء الروماني في الكنيسة، واستطاع الملك هنري الثامن في القرن الـ 16 فعل ذلك عبر تسوية جعلت منه الحاكم الأسمى للكنيسة التي سميت بالأنجليكانية، وبجعل الكنيسة حاضرة في البرلمان عبر 26 أسقفا في مجلس اللوردات يعينون من قبل الملك، وبالتالي لم تكن الأنجليكانية سوى غاليكانية راديكالية، أي كاثوليكية غير رومانية مبنية على قاعدة قومية مستقلة، لأن الملك هنري الثامن حافظ على العقائد الكاثوليكية (الأسرار المقدسة السبعة) في حين قضى على البعد السياسي للكاثوليكية المتمثل في الولاء لروما.

في عهد ابنته إليزابيت، ازدادت حركة الإصلاح قوة مع الكالفينية الطهورية، واضطرت الملكة إلى إجراء تسوية بين الكاثوليكية والكالفينية شبيهة بتسوية والدها، لكن هذه المرة كانت على مستوى العقيدة، عبر إلغائها خمسة من الأسرار المقدسة السبعة وإبقائها على سرين اثنين هما العماد والعشاء السري، واعتبار الكتاب المقدس السلطة الوحيدة فيما يتعلق بالإيمان، إنه الميل الدائم للحلول الوسط الذي يتجلى مجددا على مستوى الدين، حيث تم الاعتراف بالخطيئة الأولى وبحرية الإرادة وفق مجمع ترانت الكاثوليكي، في حين تم قبول التبرئة بواسطة الإيمان فقط دون الأعمال، البند الرئيسي عند لوثر، أما القدرية الكالفينية (القضاء والقدر) فقد تم استبعادها نهائيا، لصالح الأرمينية التي تركز على سيادة البشر في الخلاص.

وهكذا فيما كانت الأنجليكانية راديكالية على مستوى الولاء السياسي، كانت ليبرالية على مستوى العقيدة، وبهذا استطاعت الكنيسة الأنجليكانية تحييد الرؤية الكالفينية لنظام سياسي ثوري.

وقد ترتب على الراديكالية السياسية تحول تدريجي للكنيسة أو الكنائس الإنكليزية إلى كنائس وطنية، ولائها الأول والأخير لإنكلترا، فيما ترتب على الليبرالية الدينية انتشار واسع لفرق دينية ساهمت بدور كبير في الحياة العامة.

هذا التناقض بين مسالك الثورتين الإنكليزية والفرنسية دفع الفيلسوف إدموند بيرك إلى وصف الأولى بأنها تقليد للطبيعة، والثانية خروج على الطبيعة، وهكذا سيدافع ابن التنوير العاق (بيرك) عن مبدأ التوريث ويرفض كل مبادئ الثورة.
0
التعليقات (0)