قضايا وآراء

مقام القضاء (2-2)

يحيى اليحياوي
1300x600
1300x600

في الجزء الأول من هذه المقالة المخصصة لمقام القضاء بعد أحداث ما اصطلح على تسميته "الربيع العربي"، أوضحنا أن المسألة كانت منذ اليوم الأول مثار شد وجذب بين موقفين اثنين، شبه متنافرين:

- موقف أول ينادي بالاستقلالية التامة للمؤسسة القضائية، بنية وبنيانا، عن باقي المؤسسات، مع السمو بها إلى مرتبة سلطة قائمة الذات.. محايدة، مترفعة عن المزايدات، وبعيدة عن التشنجات التي لا تسلم منها مؤسستا الحكومة والبرلمان، باعتبارهما المؤتمنتين على السلطتين التنفيذية والتشريعية.

- وموقف ثان يرى بأن الاستقلالية التامة للمؤسسة القضائية، وإن كانت طموحا مشروعا في المدى البعيد، فإن من شأن الدفع بها اليوم إلى أقصى مدى؛ إفراز "دولة داخل الدولة" (دولة القضاء يقول البعض).. قد ينتفخ جهازها ويتغول، فيتعذر بالتالي لجمه أو ضبط سلوكه، بوجه السلطتين التنفيذية والتشريعية، كما بوجه الأفراد والجماعات على حد سواء.

هما موقفان وجيهان وإلى حد بعيد، حتى في ظل تنافرهما وتضادهما في العديد من المفاصل. بيد أنهما يحيلان (كل فيما يخصه)، على ثلاث صيغ كبرى، هي التي استأثرت باهتمام هذه الدولة أو تلك، كل وفق ظروفها وسياقها العام:

- الصيغة الأولى، وتتمثل في إبقاء الأمور كما هي عليه، أي ترك مستوى النيابة العامة بين يدي الجهاز التنفيذي (وزارات العدل في هذه الحالة)، تماما كما هو معمول به في العديد من الدول الديمقراطية، نظرا لنجاعته ومرونته كحل، أيضا لكونه يبقي المجال بعيدا عن تحكم السلطة القضائية. النيابة العامة هنا لا تتحرك من تلقاء نفسها، ولا تعمد إلى إعمال المسطرة باستقلالية ما، بل تجد نفسها مجبرة للحصول على "الضوء الأخضر" من المستوى التنفيذي المباشر المرتبطة به، والذي غالبا ما يكون وزير العدل شخصيا.

 

هما موقفان وجيهان وإلى حد بعيد، حتى في ظل تنافرهما وتضادهما في العديد من المفاصل. بيد أنهما يحيلان (كل فيما يخصه)، على ثلاث صيغ كبرى

بيد أن عيب هذا الحل أنه لا يسهم كثيرا في الدفع بمبدأ استقلالية السلطة القضائية، ويبقي جزءا من هذه الأخيرة تحت وصاية الحكومة.. لها أن تحركه متى يعن لها ذلك، ولها أن تقدم على العكس حسب ما يبدو لها ويتراءى. أضف إلى ذلك، أن كل الشكوك كانت مبررة هنا للقول بتبعية القضاء للجهاز التنفيذي، وأن أي حديث عن فصل السلط يبقى من مجال المأمول، لا من مجال واقع الحال الجاري.

- الصيغة الثانية وتتمثل في منح النيابة العامة الاستقلال الكامل عن كافة السلطات الأخرى، وجعلها تدير أمورها بنفسها، على مستوى وضع السياسات كما على مستوى تطبيقها على الأرض. وهو ما يطالب به جزء من القضاة، ويعتبرون أن من شأنه الارتقاء بالقضاء إلى مستوى سلطة مستقلة، موازية لباقي السلطات. النيابة العامة تتحول بموجب ذلك إلى سلطة قائمة، غير تابعة للمستوى الحكومي. لها أن تحرك الدعوى من تلقاء نفسها دون الحاجة إلى تأشير وزارة العدل.

بيد أن محدودية هذا الطرح أنه يحيلنا صوبا على أطروحة "دولة القضاء" المتحدث فيها أعلاه، والتي مفادها تغول سلطات النيابة العامة، وعدم قدرة الجهاز التنفيذي في ظل ذلك؛ على تحديد السياسة الجنائية مثلا التي من المفروض أن يضعها هو لا ما سواه من مستويات.

 

محدودية هذا الطرح أنه يحيلنا صوبا على أطروحة "دولة القضاء" المتحدث فيها أعلاه، والتي مفادها تغول سلطات النيابة العامة، وعدم قدرة الجهاز التنفيذي في ظل ذلك؛ على تحديد السياسة الجنائية مثلا

- الصيغة الثالثة، ومفادها الانطلاق من خلفية أن الفصل بين السلطات إنما هو فصل نظري في العديد من جوانبه، يميز في ما بين السلطات بمقياس الامتيازات والحقوق التي لكل واحدة منها لمراقبة السلطة الأخرى، بما يضمن التوازن بين هذه السلطات ليس إلا. وهو أمر لا يضمر تدخل هذه في سلطة تلك، من زاوية التجاوز على الصلاحيات والاختصاصات، بقدر ما يدفعها إلى ركوب ناصية المسؤولية والحكامة التي من المفروض أن يعمد إلى إعمالها بالسلطات مجتمعة.

وهي صيغة عملية وإلى حد بعيد، باعتبارها تعمل على ربط الاستقلالية بالمسؤولية (لا سيما فيما يتعلق بجهاز النيابة العامة)، مع جعل المسؤولية إياها تحت رقابة وتقييم المؤسسة التشريعية. سيكون من شأن ذلك -لا محالة- تكريس حكامة قطاع العدل بوجه عام، وتجنب تحكم القضاة وتغولهم على حساب باقي السلطات الموازية. إذ الأصل بالمحصلة النهائية هو أن تعمل السلطات على مراقبة بعضها البعض، والحيلولة دون تغول إحداها أو تجاوزها للسياق العام.

التعليقات (0)