قضايا وآراء

تمدُّد "الإلحاد" الجديد

عبد الرحمن أبو ذكري
1300x600
1300x600

ترتبط موجة "الإلحاد" (1) الحالية في مصر والعالم العربي بموجة عالمية أكبر ولَّدها التصاعُد غير المسبوق للنزعة الاستهلاكية، وما صحبه من تفريغ وعلمنة لمنظومات التديُّن التقليدية، التي كانت تَحول بين الإنسان وإطلاقه العنان لشهواته. وقد نتج عن هذا التفريغ أن ظهر في الغرب ما يُسميه أستاذنا المسيري - رحمه الله - بـ"العبادات الجديدة" لملء الفراغ الروحي. أكثر هذه العبادات (cults) هي في جوهرها استعادة لبعض عناصر الميراث الوثني للميثولوجيا الأوروبيَّة ما قبل المسيحية (خصوصا الميثولوجيا الأنغلوسكسونية).

وهو ميراث هائل لم تتم فحسب استعادته ميتافيزيقيّا أو سلوكيّا من خلال بعض الجيوب (في بريطانيا وأمريكا) التي لا تستطيع احتمال "الجوع الروحي" الذي يخلفه تجويف الإنسان الاستهلاكي، بل أيضا سيطرت مظاهر استعادة هذا الميراث على الثقافة والفن، وتم توظيف مقولاته بشكل كامل في بعض الأعمال الروائية التي تحوَّلت إلى إنتاج سينمائي وتلفزي ضخم، تُجسِّدهُ هوليود في سرديَّات شبه ملحميَّة شغلت العالم بأسره طوال العقدين الماضيين. وربما كان أهمها وأشهرها على الإطلاق: "هاري بوتر"، و"سيد الخواتم" (Lord of the Rings)، و"لعبة العروش" (Game of Thrones).

مثل هذه الموجات "الإلحادية" لا تنتقل بالتقليد السلوكي المباشر فحسب، بل هي أيضا عدوى سوسيومعرفية حقيقية أكثر عمقا؛ تنتقل كذلك بشكل بنيوي مع أنماط المعيشة والاستهلاك، لتُعيد السلعة/ الشيء تشكيل تصورات الإنسان عن نفسه وعن الوجود. وقد شَهِدَت مصر عدَّة موجات إلحادية خلال القرن العشرين، ربما كان أشهرها الموجة التي علا مدَّها قبل حوالي قرن كامل، مع تزايُد الاحتكاك بالجاليات الأجنبية في المدن الكبرى، ومحاولة استنساخ أنماط معيشتها على نطاق واسع؛ وتأسيس الجامعة المصريَّة، وانتشار بعثات التنصير، أضف إلى ذلك الازدهار المؤقت للنشاط الشيوعي. وهي نفسها الموجة التي أنشئت لمقاومتها عدة جمعيات؛ أشهرها قاطبة: جمعية أنصار السنة المحمدية (1926م)، وجمعية الشبان المسلمين (1927م)، وجمعية الإخوان المسلمين (1928م).

 

عندنا أحد أهم المؤشرات الدالة في مصر هو تفاقُم أزمة القمامة منذ أكثر من عشر سنوات، حتى صارت "أرقى" أحياء المحروسة مقالب قمامة، حقيقة لا مجازا


ويُمكن رصد مؤشرات هذه الحال "الإلحادية" في سلوكيات فرديَّة وجماعيَّة تنظر إليها الغالبية باعتبارها شظايا غير مترابطة؛ لا تُعبر عن شيء أكبر أو قدر أعمق من الوحدة خلف التنوع. وعندنا أن أحد أهم المؤشرات الدالة في مصر هو تفاقُم أزمة القمامة منذ أكثر من عشر سنوات، حتى صارت "أرقى" أحياء المحروسة مقالب قمامة، حقيقة لا مجازا. هذه القمامة تجسيدٌ لباقة مُترابِطةٍ من السلوكيات الاستهلاكيَّة، والتي تعكس بدورها حزمة مُتجانِسة من التصورات الوثنيَّة. وما يجعل القمامة مؤشرا هاما في مصر، وإن كان لا يحظى بنفس الأهمية في أمريكا أو بريطانيا، هو الفارق في مدى هيمنة المنظومة القانونية على المجال العام، ومدى ترشيد هذا المجال وانضباطه بسُلطة القانون، في ظل غياب المنظومات الأخلاقية المتجاوزة عنه.

 

يُمكن رصد مؤشرات هذه الحال "الإلحادية" في سلوكيات فرديَّة وجماعيَّة تنظر إليها الغالبية باعتبارها شظايا غير مترابطة؛ لا تُعبر عن شيء أكبر أو قدر أعمق من الوحدة خلف التنوع


فعلى عكس الوضع في أمريكا وبريطانيا وغيرهما من بُلدان العالم، لا يعمل القانون في مصر (إن أُنفِذَ فعلا) إلا لخدمة المتنفِّذين من أصحاب السلطة، ليجتمع غياب المنظومتين القانونية والأخلاقية عن المجال العام؛ فتسوده الفوضى والتطاحُن غير المنظم (وانتشار تلال القمامة في الشوارِع أحد تجليات ذلك)، وهو ما قد يجوز تسميته بـ"العلمنة العشوائية". لذا؛ يُمكن اعتبار أكثر مظاهر العشوائية المصرية في المجال العام علمنة غير منظَّمة، ومن ثم غير مُثمِرة ماديّا كالعلمنة الغربية.. علمنة يحض عليها اقتصاد السوق وآلياته وأخلاقياته، وتعجز الدولة بترهُّلها وفسادها عن تنظيم آثارها وتبعاتها وضبط مُخرجاتها. إذ أن العلمنة ليست مُرادفة للترشيد الناجح بالضرورة، بل قد تكون مُصاحِبة للعجز عنه بذات الدرجة. أي أن العلمنة لا تقع فقط بسبب فرض منظومات حداثيَّة وضعيَّة رشيدة على المجتمع، بل تقع جُزئيّا - وبصورة عشوائيَّة - بسبب تفكيك المنظومات التقليديَّة مع الفشل في فرض منظومات الترشيد الجديدة بقوَّة القانون (ومنها الفشل في إدارة القمامة بوصفها أهم مُخرجات نظام الاستهلاك الكبير).

ويتحمَّل الإسلاميون منذ سبعينيات القرن العشرين؛ قسطا لا بأس به من إثم انتشار النمط الاستهلاكي الغربي (ومضامينه الإلحادية)، إذ نقله أكثرهم عن دول الخليج التي هربوا إليها إبَّان الهولوكوست الناصري. وهو ما جعل ظهور الموجة الإلحادية الحالية من بين صفوف الإسلاميين أمرا متوقعا ومفهوما، بالنظر للتناقُض الصارخ بين الخطاب والسلوك. فقد أدَّى الاحتضان الخليجي للحركة الإسلامية (1960 - 1990م) إلى علمنة الخطاب "الإسلامي" بالكامل (2)، ليُعيد صياغة وعلمنة سلوك هذه الحركات في المجال العام.

 

ويتحمَّل الإسلاميون منذ سبعينيات القرن العشرين؛ قسطا لا بأس به من إثم انتشار النمط الاستهلاكي الغربي (ومضامينه الإلحادية)

ثم إن التحاق الإسلاميين بالنظام العالمي وحركتهم على هامش اقتصاده الاستهلاكي، بل ومحاولاتهم التي لا تكل لأسلمة هذا الاقتصاد المتوحِّش؛ لم تؤد فحسب لفشل "الإسلام السياسي" وسقوط أيديولوجياته الوضعية، رغم نجاحاتها المؤقتة والصغيرة؛ بل أدَّت للصد الواضح والكامل عن سبيل الله، ثم لتحطيم الحاضنة الاجتماعيَّة الهشَّة لهذه الحركات، وظهور الإلحاد بين صفوف شبابها. وهي نتيجة طبيعية لمن يدَّعي تمثيل الإسلام وهو يسجد بين يدي صنم، حتى لو كان مُخدَّرا أو غير واعٍ بطبيعة فعله ونتيجته.

أما طبيعة هذا "الإلحاد" الجديد، فهي موضوع مقالنا التالي.
-------
الهوامش:

(1) للاطلاع على بعض تعريفنا للإلحاد؛ راجع ثلاثية مقالاتنا على هذا الموقع: "دعاة السوء"، و"دين ضد الدين"، و"مسجد الضرار".

(2) لمزيد من التفاصيل في هذه المسألة؛ يُراجع مقالنا على الإنترنت: "صعود وانحسار النفوذ السلفي".

التعليقات (0)