قضايا وآراء

أهلا بكم في "مملكة القواقع"

هشام الحمامي
1300x600
1300x600

في غفلة من الزمن ياريتا ولد أحد الرجال في كوخ لأبوين معدمين بادئاً بصعوبة طفولته العسيرة /الإلهامية، ، مع الأيام يكبر الولد ويختلف أهله على المهنة التي يجب أن يتخذها في المستقبل، ، وتتطور حياته إلى الهروب مع والديه إلى حيث لا يعلم هكذا يقول الرجل العجوز لريتا ابنته العزيزة في حكاية من حكايات قبل النوم، ويكمل قائلا :لكنه بعد ذلك سيتطور به الأمر في الحياة ليصير من(الرجل الذي جاء من العدم )إلى(رجل الأقدار السعيدة)، ، كل المظاهر ياريتا كانت تدل على أن الأمر يتعلق هنا بعبقري من الطراز الأول كما قال القسيس للناس ، ، إنها ساعة من الساعات الأساسية من تاريخ تعرف الإنسان في بلادنا على نفسه وعلى الكون المحيط به، فينصب الرجل حاكماً على (مملكة القواقع )، في أيام هذا الحاكم يا ابنتي حرم الناس من كل شيء، كل شيء، حتى من الموت نفسه، انتزع منهم الموت بنفس السهولة التي انتزعت بها منهم الحياة، ، هذا ما استهل به خوزيه كاردوسو بيريس(1925-1998) الروائي البرتغالي الشهير روايته(صاحب الفخامة الديناصور) التي كتبها عام 1971 وترجمها إلى العربية عام 1994 الشاعر العراقي فاضل العزاوي(78 عاما)وصدرت في دمشق عن دار المدى، الروائي الأردني مؤنس الرزاز له رواية باسم(مذكرات ديناصور)أستخدم فيها فكرة الديناصور أيضا ليصور لنا نموذج الحاكم المستبد الطاغية كنوع من أنواع الكتابة عرف باسم(الكوميدية السوداء).

 الرواية لا تزال تسجل أعلى المبيعات وترجمت إلى معظم اللغات وكان الكاتب الكبير يتهكم فيها على ديكتاتور البرتغال الشهير أنطونيو سالازار(1889-1970)والذي حكم البرتغال 36 عاماً و36 يوم!! (1932-1968)وعاش بعدها سنتين فقط ومات مريضا عاجزا، كان سالازار نموذجاً خالدا للحاكم الطاغية المستبد الذي يختزل الدولة في شخصه ، وهو ما أدى بطبيعة الحال إلى بناء(دولة من الوهم)تفشى فيها الخراب والفساد والنفاق والانتهازية وشاع فيها وباء من أسوأ الأوبئة :(عبادة الفرد)، ، سالازار أيها الأصدقاء كان يمتلك تنظيما سريا صلبا ممتدا في كل أجهزة الدولة ومرافقها، وكان هذا التنظيم هو الإلهام اللهيم لفكرة التنظيم الطليعي التي أنشأها البكباشى في مصر سنة 1962، ، وكان هو قلب الدولة العميقة التي تقبض على مؤسسات القوة في كلتا يديها.

يحكى لنا خوزية بيريس في الرواية الأحوال السياسية في(مملكة القواقع)على لسان الرواى وبلهجة بالغة السخرية ناقلا لنا الوقائع التي تشترك فيها عشرات البلدان الخاضعة لطواغيت وديناصورات يملؤون الدنيا ، حيث يسمي الديناصور كل شيء في المملكة باسمه فهناك(شارع الديناصور/كازينو الديناصور/مصرف الديناصور/عملات الديناصور/مطار الديناصور/أكاديمية الديناصور/نادي الديناصور/قصر الديناصور)وينقل لنا مثلا يجرى كثيرا على ألسنة الناس(لا شيء يصير بدون الديناصور)ويحدثنا أيضا عن أخطر مراحل التحولات التاريخية في كل الأزمان والأوقات ، ، إنها المرحلة التي يصعد فيها بؤساء الأرياف والمدن، وعلينا أن نمعن الإمعان نفسه ونتأمل التأمل نفسه في هذه الظاهرة التاريخية المريعة وهى (ظاهرة أبناء الفلاحين والبؤساء الذين تحولوا إلى أغنياء) ليصنع منهم الديناصور طبقته السياسية التي يحكم بها وينفذ إلى أعتاب بيوت الناس، ، هذه الطبقة ومن خلال تحبيذهم لكل الفعاليات الوظيفية التي تتطلب الجلوس في ذلك النوع من المكاتب البيروقراطية القابضة التي(تتدحرج فيه الحياة طبقاً لقانون الطبيعة) يكونون أدواته وسوطه(لإرهاب الناس)كما تقول الرواية، يتطور الأمر بالديناصور إلى أن يوجه أحاديثه وأفكاره الكبرى إلى الكواكب الأخرى بحثاً عن أتباع محتملين هناك:(طاب يومك أيتها الكواكب ).   لم تكن رأس العقيد القذافي قد بلغت درجة السخونة الكافية بعد لأن يعين نفسه(ملك ملوك أفريقيا)فالرواية مكتوبة سنة 1971م وكان العقيد وقتها لازال شابا يافعا يتلمس خطى البكباشى الذى أخبره أنه يرى فيه شبابه وفتح له(باب الدخول)إلى عوالم الفخامة الديناصورية، من تعاملوا مع خليفة حفتر يقولون أنه النسخة(التايوانى)المقلدة من صاحب الفخامة(ملك ملوك أفريقيا)نفس العبط والهوس المعجون(بفضلات) السى أى أيه في سوق(الحرب على الإرهاب).

 لكن الحاكم الضخيم المهيب يصاب بجلطة في الدماغ من أثر تطرفه في استخدام الكلمات، ، وهو أصلا كان قد قام بثورة كبرى ، (ثورة تنظيف الكلمات)حيث الكلمات كلها ينبغي أن تمر عبر منشأة الحواسيب والفلترات والرقباء لتخرج بلا شوائب صافية كالينابيع شفافة كالبللور.    
                                كان الرجل في مستهل خطواته الأولى لتحقيق رسالته القدرية قد بدأ بتشكيل وعى الأمة وإدراكها التاريخي والحضاري بالشكل الذي يراه مناسباً لها تحت شعار(المعرفة هي سلطة الحاكم )وبالفعل يحدث تطورا مثيرا في لغة الناس التي عمل على تنقيتها من الشوائب والكلمات العامية المبتذلة _كما وصفها _و أحيا بدلاً منها مفردات قديمة جدا كاد أن ينساها الناس وفرضها فرضا على الشعب، أبجدية جديدة تتناسب مع التغييرات التي أحدثها وسيحدثها.. ولأن المملكة كانت فقيرة أو قل مفقورة منهوبة (نامت حراسها عن ثعالبها)فيقرر الديناصور إغناؤها بالكلمات، الكلمات ذات المنبت الأصيل والينبوع المتصاعد، واخترع لغة عامة تنبع من أعماق وجدانه المترع بالفلسفة والمعرفة فيدغدغ مشاعرهم البريئة وإذ يقول الرجل و يقول، ، وإذ الناس يرددون ويرددون
وتصاعدت الأفكار وتسامت في رأس صاحبنا فقرر مخاطبة الكواكب الأخرى بعد أن أصابه اليأس والإحباط ممن حوله من(القواقع السفلى)ورأى نفسه وهو يلقي فيهم خٌطبه العصماء المترعة بالحكمة كمن يلقي باللآلئ تحت أقدام حفنة من الأميين الذين لا يصلحون لشيء ولا يستطيعون فعل أى شيء، والقواقع السفلى التي يقصدها الكاتب في الرواية هم أبناء الشعب ، سنعلم بعدها بصدور قانون يتعلق بهؤلاء القواقع السفلية ينص القانون على (كل قوقعة بغض النظر عن جنسها وقناعاتها يمكن أن تصعد إلى طبقة الأغنياء إذا ما لعبت اليانصيب)إذ لا أمل ألبته أن يرتقي المرء خارج طبقته الاجتماعية إلا عبر(بطاقة يانصيب رابحة).                             

ستحدث معركة بين بلاد صحاب الفخامة الديناصور وبين المتمردين الأشرار و سينهزم بطبيعة الحال جيش بلاده فما كان لجيش من القواقع السفلى أن ينتصر، لكن فخامة الديناصور سرعان ما يجد للهزيمة(تبريرا لفظيا)بالغة البلاغة فحين يبلغه(القائد العام الأعلى)بنبأ الهزيمة يرد الديكتاتور بهدوء نفسي كامل أن المعارك تكون عادة بين الجيوش المسجلة نظاميا أي تلك التي تمتلك شهادات ونشيدا وطنيا وزيا موحدا، وبما أن جيش الأعداء لا ينطبق عليه هذا الوصف ، إذا فلم تحدث هزيمة ولم تحدث حرب أصلا، كانت مجرد نكسة! ، وحين يدخل عليه وزير المالية يستعرض أمامه شؤون الضرائب يأمره فخامة الديناصور بتغيير لفظ الضرائب إلى هدايا ، وحينئذ لن يتخلف عن الدفع سوى أعداء الوطن ومثل هؤلاء يجب أن تقص أجنحتهم.

يقرر البارع خوزية بيريس أن ينهي حياة صاحب الفخامة باستخدام أعتى أسلحته التي طالما استخدمها للفتك بالحياة والبشر وهو(سلاح الكلمات)إذ تخرج فجأة كلمة(تربية)من كمبيوتر المنشأة – الذي كان قد أمر بإنشائه وهو يخترع اللغة النقية –و تتمدد الكلمة وتتمدد وتأخذ بالالتفاف حول صاحب الفخامة كأفعى جبارة وتعتصر ساقيه حتى لا يعود بإمكانه الإفلات منها، ولكن الديناصور رغم انهياره وانقطاع أنفاسه لا يموت، إنه يتشبث بالحياة ويعود إليها بفضل مهارة الجراحين، يعود إليهم فخامة الديناصور: ضوء الوطن، وكيل بناء القرن، عمود النظام، الأب ومثال العائلة صاحب الرسالة الخالدة،  وتستمر الرواية على هذا الحال حتى يموت الديناصور بإصابة في الدماغ من كثرة استخدام (دماغه)لمصلحة القواقع السفلى التي لا دماغ لها . 
                             ويكتفى الراوي العجوز بهذا القدر من الحكاية قائلا لابنته: لدينا ما هو أهم من ذلك ياريتا ، لدينا الحياة نفسها.








0
التعليقات (0)

خبر عاجل