قضايا وآراء

من يتحمل مسؤولية غرق "حراقة" تونس؟

نور الدين العويديدي
1300x600
1300x600
بيوت كثيرة ارتفع فيها النحيب والعويل.. وإدانات شبابية واسعة للوضع السياسي العام في البلاد.. أحزاب تقر بنصيبها من المسؤولية عما آلت إليه حالة البلاد، وأخرى تؤكد على معالجات جادة وعميقة وعاجلة لوضع الشباب.. وحكومة محرجة، تأتيها هذه الفاجعة، في وقت تتخبط فيه في أزمة سياسية حادة، تهدد بقاءها واستمرارها في الحكم.. تلك حصيلة عامة لانقلاب مركب للمهاجرين السريين، وغرق العشرات منهم في عرض البحر، قبالة جزيرة قرقنة، القريبة من مدينة صفاقس المعروفة محليا بأنها عاصمة الجنوب التونسي.

عشرات الضحايا تونسيون ومن جنسيات أخرى، وعشرات من المحظوظين تم إنقاذهم، ربما ليحاول بعضهم الهجرة كرّة أخرى، بعد أشهر أو سنوات.. وعشرات آخرون مفقودون، يرجّح أنهم قد لقوا حتفهم في مركب الموت الذي أنهى حياتهم، وكانوا يمنّون الأنفس، حتى ساعاتها الأخيرة، بالآمال العراض، وبالوصول سالمين إلى الضفة الشمالية للبحر المتوسط، لنيل نصيبهم من نعيم يتوهمونه مقيما في الضفة الشمالية.. ضفة نهبت الجنوب وفقرته ودمرت توازنه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وتتمنع اليوم في استقبال ضحاياها منه.

وككل القضايا المثيرة، اختلف التونسيون مجددا حول هذه القضية الموجعة، وتضاربت آراؤهم حول المسؤول عنها، وحول طرق الحل والعلاج.

إدانة للمنتظم السياسي

أغلب الناشطين والمدونين الشباب ذهبوا في نقاشاتهم، التي غلب عليها التوتر والغضب بعد الحادثة الأليمة، إلى تحميل الحكومة والأحزاب والوضع السياسي العام مسؤولية ما يحصل، معتبرين أن الأحزاب منشغلة في صراعاتها على تقاسم كعكة الحكم، ولا تبالي بما يعانيه الشباب من بطالة واختناق وانسداد آفاق المستقبل، ما يجعل العديد منهم لا يجد من خيار غير الهجرة السرية حلا لمشكلاتهم.

ويرى هؤلاء أن الشباب ضحية لصراعات الكبار، ولغياب رؤى ومشاريع تنموية تفتح آفاق العمل والاستقرار النفسي والاجتماعي، وهم يرددون على الدوام أن الشباب لا يتحمل مسؤولية ما يقوم به، فتصرفاته، حتى وإن بدت حمقاء لا عقل يوجهها، ناجمة عن يأسه من الوضع العام، وحرصه على الهروب من بلاد لم ير منها من خير يشجعه على الاعتزاز بها والفخر بانتمائه إليها.

ويذهب العديد من المدونين إلى أن الشباب الذي قام بالثورة لم يستفد منها أي استفادة، وأن وضع البلاد لم يتغير بعد الثورة عما كان عليه قبلها، وأن الشباب الذي يلقي بنفسه اليوم في مراكب الموت، قد يصير غدا قنبلة ملتهبة تدمر ما تحقق من إيجابيات بعد الثورة.

وللشباب من المسؤولية نصيب

بقدر ما يتحمل السياسيون والمسؤولون عن الوضع العام نصيبهم الكبير من المسؤولية، فإن الشباب ليس بريئا من المسؤولية عن حاله. فأفكار الشباب وطموحاته غير الواقعية، وحلمه بالثراء السريع من دون بذل جهد في تحقيقه، وتوهماته عن العيش في الغرب، باعتباره جنة الله على أرضه، هي السبب الذي يجعله يتهافت، تهافت الفراش على النار.. على "الحرقة"، وكأنها الحل السحري لكل الفقر والضيق والقلق والكبت والعزوبية التي يعاني منه الشباب.. فتراه يتدبر مبلغا من المال ويركب قاربا يوصله في غمضة عين إلى جنة السعادة والرضوان، حيث لا يجوع ولا يعرى، ولا يظمأ فيها ولا يضحى، كما يتوهم أو يظن.

إن شباب اليوم، مع أزمة التعليم الصارخة، الموروثة عن النظام السابق، التي جعلت المدارس تخرج أشباه الأميين العاجزين عن العمل الإداري، وحتى عن كتابة فقرة قصيرة دون سيل من أخطاء مخجلة، من ناحية، والعاجزين من ناحية أخرى عن العمل اليدوي الذي يتطلب مهارة وصبرا، ولكن مع قناعة بأنهم جامعيون وأنهم مثقفون، وأنهم يستحقون من الوطن ومسؤوليه كل الرعاية والعناية والاهتمام الخاص.. وهم يغضبون حين لا يجدون ذلك.

حين يكتشف هؤلاء الشباب أنهم باتوا على هامش الواقع، لا يملكون مؤهلا علميا للعمل، رغم تخرجهم من الجامعات، ولا طاقة لهم للصبر على الوظائف الأدنى والأكثر عسرا؛ لأنه لم يتم إعدادهم لها منذ طفولتهم ونعومة أظفارهم، يقررون الإضرار بأنفسهم وإلقائها في قوارب الموت.. فإما موت يريح من المعاناة، وإما ظفر بجنة موهومة.. جنة يكتشف أكثر الشباب بعد زمن غير بعيد أنها نوع من أنواع الجحيم.

لكن المرء لا يتعلم من المدرسة والجامعة وحدهما.. إن مؤسسة التربية والتعليم الأولى هي الأسرة.. فاللغة ومعظم القيم يكتسبها الإنسان في العائلة، والعائلة هي مؤسسة الإدماج الاجتماعي الأولى.. ولا شك أن للعائلات نصيب من المسؤولية كبير في موضوع "الحرقة" وقوارب الموت.. فإهمال الأبوين لتربية أبنائهم، ولتعويدهم منذ نعومة أظفارهم على الصبر والعمل الشاق، له نصيب كبير من المسؤولية عن الوضع الراهن.

وبسبب من التربية الأسرية الفاشلة، وبسبب من فشل التعليم في تخريج شباب قادر على الاندماج بسرعة في سوق الشغل، توجد الكثير من الوظائف الشاغرة في تونس لا تجد من يملأها، ويوجد مقابلها مئات آلاف الشباب العاطلين.. فهم إما غير مؤهلين لتلك الوظائف أو غير قادرين على الصبر على مشاقها.. وكمثال لا غير، للذكر لا للحصر: كم من عام يضيع نصيب وافر من ثمر الزيتون في تونس، ويبقى الثمر معلقا في الأشجار لا يجنيه أحد، بسبب نفور الشباب من الأعمال الشاقة ومنها جني الزيتون.

صعوبة التغيير وحاجته للزمن

يقر الجميع في تونس بصعوبة الوضع، ويعترف الكثيرون بأن الثورة التونسية لم تنجح - كما كان يؤمل فيها - في صناعة حلم للشباب، وجعله أداة من أدوات التغيير والنجاح. كما أن حجم الخراب الذي تركه النظام السابق أكبر من أن تتم معالجته في زمن محدود.. وأن الثورة، رغم تقصيرها وفقدانها بوصلة الأولويات في حالات كثيرة، لا يمكن تحميلها كامل المسؤولية على الوضع الراهن.

فلا شك أن صراعات السياسيين أثرت بشكل كبير على الوضع العام، ومنعت الحكومات المتعاقبة من التركيز على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للنهوض بها.. ولكن تلك الصراعات باتت اليوم معلومة، فهي صراعات فرضتها المناخات الدولية الرافضة لتحرر العرب واستقلال قرارهم، وفرضتها الثورة المضادة على قوى الثورة، حتى أنهكت قواها، وحرفت اهتمامها من التركيز على النهوض الاقتصادي؛ إلى التركيز على ضمان استمرار الحريات السياسية، واستمرار الحد الأدنى من روح الثورة ومنطقها في الحرية والكرامة، واستمرار نظام التداول السلمي على السلطة.

تجارة "الحرقة"

ثمة شبكات دولية ومحلية كبيرة تعمل في نطاق تهجير الشباب اليائس إلى أوروبا.. وهي شبكات تجني أموالا طائلة من وراء عمليات التهجير تلك.. فالقارب الأخير الذي غرق قبالة سواحل جزيرة قرقنة، تتضافر شهادات الناجين على أنه يضم نحو 200 مهاجر سري.. يدفع كل واحد منهم لشبكات التسفير نحو ثلاثة آلاف دينار للرأس (نحو 1200 دولار)، ما يعني أن الحصيلة تبلغ 600 ألف دينار (نحو 240 ألف دولار)، لا تخسر عليها شبكة التسفير سوى قارب بنحو 30 ألف دينار.

يجلس الناشطون في شبكات التسفير في المقاهي يصطادون الشباب.. يختارون بعناية الشباب اليائس البائس.. يقنعون واحدا أو أكثر بفكرة الهجرة.. يغرونه ويعدونه ويمنونه بالجنة.. فإذا ما لان لهم واقتنع بفكرتهم؛ وعدوه بأن يخفضوا له كلفة رحلته إذا نجح في إقناع غيره من الشباب بالفكرة.. ومن هناك تبدأ بؤر تنشأ وتكبر.. وفي اليوم الموعود يتجمع العشرات وينتهزون غفلة ويصعدون قارب الموت.. يمضون وقتا قليلا في البحر.. ويتفاجؤون أن ربانهم يتخلى عنهم، إن لم يعمد بنفسه لإغراق المركب والعودة سباحة للشاطئ.. وقد تضافرت الشهادات في الحادثة الأخيرة على أن الربان أغرق المركب عمدا وألقى بنفسه - وهو السباح الماهر الخبير - في اليم، وترك ضحاياه يصارعون الموت.

بعض العارفين يحملون بعض العاملين في الأسلاك الأمنية نصيبا من المسؤولية عن مثل تلك الجرائم.. فبعضهم شركاء في الغنيمة، يغضون الطرف عن تلك الشبكات، ويتركونها تعمل دون مضايقة، وقد ينالون من الربح نصيبا.. ربح مصبوغ بالدماء وبالأرواح التي تُزهق وبدموع الأمهات ولوعاتهن.. وبعض الأمنيين الآخرين بالتهاون والتقصير في العمل، فلا يعقل مثلا في جزيرة صغيرة أن يتجمع 200 إنسان، تونسي وأجنبي، دون أن يلفت ذلك نظر الأمن، لكن الواقع يقول إنهم في أكثر من مكان يتواعدون ويتجمعون والأمن عنهم غافل.

صحيح أن الأمن لا يمكنه أن يغطي كل متر من تراب البلاد.. لكن التونسيين يعرفون أن أمنهم كان أيام الدكتاتورية يحصي الأنفاس على الناس، ويكاد يعرف على الإنسان أكثر من نفسه.. لكن الأمن بعد الثورة، التي كسرت شوكة التغول الأمني، جعلت كثيرا من الأمنيين لا يعملون بالحماس القديم.

علاج "الحرقة"

لا يمكن أن يترك الشباب للبحار والأسماك تأكله.. لا بد من حل وعلاج.. حل وعلاج يقوم به السياسيون في الحكم فتحا للآفاق وتوفيرا للمشاريع المنتجة لمواطن الشغل.. وحل أعمق يبدأ من أجهزة الثقافة والإعلام والمدرسة..

هنا تصنع العقول، وهنا تتشكل الأذواق والرؤى والأمزجة.. وما أحوج تونس لمدرسة تخرج المؤهلين للعمل في محيطهم وفي سوق شغلهم المحلي.. وما أحوج تونس قبل ذلك وأثناءه وبعده لأجهزة إعلام وثقافة تدفع التونسيين لعلاج مشاكلهم، وتربي ذائقتهم وعقولهم على العمل والإبداع فيه، واعتبار النجاح الحقيقي إنما هو في النجاح في العمل..

أما تربية الشباب على المطلبية والشعور المرضي بالضيم و"الحقرة" والاضطهاد؛ فلا تصنع منهم إلا ضحايا، يتوزعون بين إدمان المخدرات وبين الانتحار المباشر عند العجز عن مواجهة أي مشكلة، أو الانتحار بإلقاء الأنفس في التهلكة في البحار.
التعليقات (0)