كتاب عربي 21

أزمة رمضان السياسية في تونس

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600

من سيحكم تونس في المستقبل؟ هذا سبب الأزمة التي تتفاقم لأنه ليس هناك من يحكم تونس الآن، وهي في أعمق حالات الفشل السياسي والاقتصادي. انتخابات 2018 تفسد ما قبلها وستفسد ما بعدها إن حصلت، وهو أمر محل ريب بعد. في هذه اللحظة تبدو لي الأزمة غبية إلى حد العجز عن تحليل أسبابها؛ لأنه يعسر عليّ أن أعيد جذورها إلى الدلال الطفولي الذي يفرضه ابن الرئيس على أبيه ليصبح رئيسا، كما لو أنه يطلب لعبة في العيد. هذا السبب سخيف لكنه حقيقي، لذلك تبدو الأزمة غبية وتجعل منا مواطنين أغبياء نستحق الشفقة.

لقد قمنا بثورة وشاركنا فيها بدرجات متفاوتة، ودفعنا شهداء ليكون لنا بلد محترم، ولكننا انتهينا نكافح ضد نزوات ابن الرئيس الذي استفاق فجأة على رغباته في الرئاسة ولم يكن قبل شيئا مذكورا.

في مسار النزوات الصغيرة يتشكل مشهد سياسي جديد قد يؤدي إلى القطع النهائي مع النزوات، وتقام المؤسسات على قاعدة غير شخصانية. في هذا المسار سنعاني أياما صعبة، فالسلام أعقد من تمنياتنا بالسلام. ولكن احتمالات الانتكاس واردة أيضا، ونحن نضع أيدينا على قلوبنا ونراقب ما يجري.

 

انتهينا نكافح ضد نزوات ابن الرئيس الذي استفاق فجأة على رغباته في الرئاسة ولم يكن قبل شيئا مذكورا


رئيس الحكومة الذي كبر فجأة

جيء به من المجهول.. لم يكن إلا خبيرا زراعيا صغيرا في مكتب ملحق بالسفارة الأمريكية يروج للبذور المعدلة جينيا خارج المزارع الأمريكية العائدة إلى البيولوجي. لم يعرفه إلا أهله المقربون، وفجأة صار كاتب دولة للجماعات المحلية، وقبل أن يدفئ كرسيه قفز به الرئيس إلى رئاسة الحكومة. لا أحد كان قادرا على الاعتراض، فهو مرشح حزب النداء حزب الأغلبية طبقا لنتائج 2014. أسقط سلفه الحبيب الصيد بحجج سخيفة؛ تبين لاحقا أن مزاج ابن الرئيس لم يرتح له. طلب من يوسف الشاهد وتحت ضغط الشارع أن يقاوم الفساد، فشرع في ذلك وبدأ بشفيق جراية، أحد بارونات التهريب وتبييض الأموال. أسقط في يد ابن الرئيس، فجراية هو الممول الكبير لحزب النداء.. فقد الحزب مصدره المالي، فبدأ تعطيل الحرب على الفساد لأنها تمس بقية الممولين.

في الأثناء فتح الشاهد طريقا للنقابة، ومنحها ما لم يمنحها أي من أسلافه، لكن النقابة أسرفت في الطلب حتى انتهت العلاقة إلى قطيعة إثر إضراب التعليم الثانوي. ولكن كأس الاتحاد فاض.. لقد فكر الشاهد في مطاردة النقابيين على طريقة ابن علي. (تكوين ملفات فساد للقيادة النقابية) شعرت النقابة بالخطر، فانقلبت على الشاهد ودفعت إلى الأزمة الحالية معتمدة على شرعية رعاية الوفاق السياسي الذي منح لها سنة 2013، إثر أزمة الاغتيالات وكارتداد للانقلاب في مصر.

 

حصل لقاء غريب وغير متوقع ضد الشاهد بين النقابة التي ما فتئت تتحدث عن مقاومة الفساد وابن الرئيس الذي يعتبر أحد بارونات الفساد ورعاته


حصل لقاء غريب وغير متوقع ضد الشاهد بين النقابة التي ما فتئت تتحدث عن مقاومة الفساد وابن الرئيس الذي يعتبر أحد بارونات الفساد ورعاته. الاتحاد لا يجيب على سؤال أساسي: كيف يدخل في الحوار الأخير بحجة منع الشاهد من التفويت في المؤسسات العمومية، ويعتمد في ذلك على شق الحزب المتطرف في ليبراليته؟ هذا التناقض كشف أجندة الاتحاد المشغولة بغير حماية المؤسسات العمومية من التفويت، بل بحماية القيادة النقابية من المتابعة القانونية.

حتى اللحظة لم تتغد النقابة بالشاهد، ولكن يبدو أنه سيتعشى بها. لقد رغبت النقابة بأن تظل حكما على الجميع فوق القانون وفوق الدستور، ولكن أزمة رمضان بدأت تضعها عند حجمها. وتعليق التفاوض يوم 29 أيار/ مايو ينذر بإنهاء الوضع الشاذ الذي خرجت فيها النقابة عن السيطرة. الأيام والشهور القادمة حتى انتخابات 2018 (إذا حصلت) ستكون مجال معركة مع النقابة لتحجيمها وإلزامها بالبقاء في الوضع الذي كانت عليه قبل الثورة. لن يكون بإمكان النقابيين في المستقبل إغلاق المدرسة حتى إقالة الوزراء. هذا استنتاج متعجل بعض الشيء، ولكن المشهد السياسي القادم سيكون بنقابة ذات تأثير محدود في تشكيل المشهد. يمكن القول إنه قد انتهت دكتاتورية النقابة، وسيسجل للشاهد أنه أول من ربط بين مقاومة الفساد وإلجام النقابة التي تحميه. لقد فتح الطريق ولو لم يسر فيه طويلا.

النهضة تعلن نهاية التقهقر...

 

في أزمة رمضان خرج حزب النهضة قويا.. لقد حدد خياراته بالحفاظ على الاستقرار السياسي المفضي إلى انتخابات طبقا للدستور، وأعاد تعديل المطالب لتمر بالبرلمان، وليس بتوافقات خارجه

قالها زعيم الحزب بنبرة واثقة: انتهى الزمن الذي تلزم فيها النهضة دوما بالتراجع. لقد دأب الجميع على وضع مطالب على مكتب الغنوشي، وكان في كل مرة يتنازل عن مربع من مربعاته، رغم غرابة المطالب. في أزمة رمضان خرج حزب النهضة قويا.. لقد حدد خياراته بالحفاظ على الاستقرار السياسي المفضي إلى انتخابات طبقا للدستور، وأعاد تعديل المطالب لتمر بالبرلمان، وليس بتوافقات خارجه. من أراد إسقاط الحكومة فليذهب إلى البرلمان، حيث للحزب كتلة ثابتة لا يملكها غيره، خاصة في ظل تشتت بقية الكتل، بما فيها كتلة حزب النداء التي ليست على وفاق مع ابن الرئيس، وتتمنى الحد من نفوذه وتنعته برعاية الفساد.

خرج الحزب قويا من الأزمة، دون أن يفقد الغنوشي علاقته الأنيقة مع الرئيس. فقد منع اتخاذ قرارات دون علم الرئيس أو برغمه، وأعاد المفاوضين إلى مكتب الرئيس ليحسم، وهو ما جعل الرئيس في موقف قوة أمام حزبه وأمام النقابة خاصة، فحسم النقاش بسهولة، ومد في أنفاس الحكومة وفي التوافق القائم ومهد طريق الانتخابات (حتى الآن على الأقل).

 

المراقب الخارجي يتابع المشهد، ويتيقن يوما بعد آخر أن الاستقرار في تونس يمر عبر حزب النهضة، وأنه ضمانته الأساسية مقابل "لعب الأطفال" المكونة لبقية المشهد

الحديث مع النهضة في المستقبل سيكون من موضع آخر.. النهضة مكون رئيسي، وربما المكون الرئيسي الأثقل وزنا، والذي يمكنه أن يحكم قوانين اللعبة. انتهى الزمن الذي كانت تتوسل فيه الأكسجين للتنفس.. ستطرح أسئلة عن المستقبل، وهل ستتصدى النهضة للحكم إذا أجريت انتخابات قبل أوانها أو في موعدها. لا يبدو الحزب مستعجلا على ذلك، ولكن نتوقع أن ينخفض مستوى التحريض الإعلامي على الحزب، وهو أمر يشغله كثيرا. وربما نرى حج إعلاميين كانوا يعادون الحزب إلى مقر الحزب.. لقد صار الحزب مصدرا للمكانة والغنم، وربما بعض الخوف.

غني عن القول إن المراقب الخارجي يتابع المشهد، ويتيقن يوما بعد آخر أن الاستقرار في تونس يمر عبر حزب النهضة، وأنه ضمانته الأساسية مقابل "لعب الأطفال" المكونة لبقية المشهد. ولذلك، فإن الحزب قد يرفع نبرة الخطاب، ويبدأ في تأديب بعض الوقاحة التي كانت تحوله إلى موضوع للسخرية والتندر. وكان هذا واضحا في قول الغنوشي: انتهت تنازلات النهضة، ولا شيء يعلو فوق المصلحة الوطنية.

أزمة رمضان هي أزمة ديمقراطية ناشئة

في عالم التوافق السياسي الذي لا يُحسم بالقوة؛ لا يبدو منطقيا الحديث عن منتصر ومنهزم، لكن يمكن القول إن هناك إعادة ترتيب للمشهد تعدل فيها الأحجام وتتغير المواقع، وربما التحالفات، ولكن لا أحد من مصلحته القول إنه فاز بالغنيمة وحده.

 

هناك إعادة ترتيب للمشهد تعدل فيها الأحجام وتتغير المواقع، وربما التحالفات، ولكن لا أحد من مصلحته القول أنه فاز بالغنيمة وحده


ما حصل في رمضان هو توزيع جديد للمواقع بحسب الأحجام السياسية في لحظة محددة من مسار، ولذلك لا معنى للمغالاة في الشعور بالنصر أو بالهزيمة. ما زال خيار التوافق قائما بين أهم مكونين سياسيين للمشهد (النهضة والنداء)، والبقية ملزمة بالدوران في فلكهما أو الاشتغال معهما لا ضدهما. فالطهورية الثورية أو التنطع لم يعودا قادرين على الاستمرار، ولن ينتجا مواقع جديدة. وهذا درس خرج من الانتخابات البلدية ومن صمت الحزيبات الصغيرة أمام معركة عزل رئيس الحكومة.. فعزله، سواء تم أو لم يتم، ليس قرارها، بل قرار الحزبين القويين اللذين يمكنهما الذهاب إلى تشريعات 2018 بخطى ثابتة. توشك الديمقراطية التونسية أن تستقر رغم الصعوبات الاقتصادية الماثلة، والتي ستلزم الجميع ببدء العمل على علاجها بجدية مهما كان اسم رئيس الحكومة. قد نكتب قريبا جملة تاريخية.. لقد أنهت أزمة رمضان الطفولة السياسية وأعادت أمر البلد إلى عقلائه.

التعليقات (0)