قضايا وآراء

في تفكيك أساطير "النمط المجتمعي التونسي"

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
سواء اعتبرناه استعارة أم صياغة تحاول الاقتراب من المفهمة، فإن "النمط المجتمعي التونسي" كان زمن الاستبداد بلحظتيه الدستورية والتجمعية (وما زال بعد ثورة 17 كانون الأول/ ديسمبر المجيدة) من أهم الصياغات "الهلامية" المتداولة في المجال العام. وبحكم هذه الهلامية أو انعدام الضبط، كانت تلك الصياغة أيضا مثار خلاف بين الإسلاميين والعلمانيين، من جهة طبيعة النمط المجتمعي وطبيعة الفاعلين فيه أو الفلسفة السياسية التي ينبغي أن تحكمه، وهو خلاف أدارته الدولة في فترات معينة بمنطق الاستئصال والمقاربة الأمنية الشاملة، وأدارته الكثير من النخب "الحداثية" قبل الثورة وبعدها ضد "الإسلام السياسي"، بمختلف تشكيلاته المعرفية والتنظيمية، بمفردات الصراع الوجودي والتعارض المطلق وغير القابل للتجاوز.

لو شئنا الاختزال لقلنا إن الخطابات المدافعة عن "النمط المجتمعي التونسي" هي خطابات تشترك في الادعاء الحداثي، ولكنها غير متجانسة أيديولوجيا ولا في موقفها من مؤسس النمط المجتمعي ورمزه الأعلى الراحل الحبيب بورقيبة. وتُعبّر الخطابات "النمطية" عن جملة من المشاعر والمصالح التي تصاغ صياغات متعاملة أحيانا، وشعبوية أحيانا أخرى، ولكنها تتسم جميعا بالتناقض الذاتي والاستعلاء المعرفي والتحيز الأيديولوجي والمحافظة السياسية، رغم كل ادعاءاتها التقدمية والتحررية.

بعد الثورة، اضطلع الفكر"النمطي"، في كل صياغاته المكتوبة والمسموعة والمرئية، بدور محوري في ضرب الثورة واستحقاقاتها الرئيسية، أي في تعطيل أي تغيير حقيقي في مستوى إعادة توزيع السلطة والثروات المادية والرمزية. وقد ساعده في ذلك حرف الصراع عن مداراته الاقتصادية والقيمية الأصلية إلى مدارات هوياتية- ثقافوية بائسة، مما جعل العدو ينتقل من منظومة الاستبداد المعيش (أي المنظومة الدستورية- التجمعية) إلى منظومة الاستبداد المتخيل أو الموهوم (أي منظومة الاستبداد التي قد يشكلها الإسلاميون، خاصة حركة النهضة). واعتمد سدنة "النمط المجتمعي التونسي" في تحقيق ذلك على مجموعة من الأساطير التأسيسية التي مدارها ثلاث عقائد مركزية هي التالية:

1- أسطورة الاستثناء الإسلامي: أي استحالة التوفيق بين الإسلام "في ذاته" والديمقراطية ومنظومة حقوق الإنسان، وهي استحالة يتم سحبها (انطلاقا من هذه المسلمة) على كل الحركات الإسلامية التي تُثبّت بصورة صدامية وعدائية خارج أي مسار ديمقراطي واقعي أو ممكن. فالإسلامي "الجيد" لا يمكن أن يكون شريكا في صناعة الجمهورية، ولا في إدارة الشأن العام، بل ينبغي أن يكون عدو "الديمقراطيين" وضديدهم وغيريتهم المطلقة، ولذلك لا بأس إن كان موضوعا لقمع الدولة أي موضوعا حقوقيا للنخب "الحداثية". وإذا ما وُجد "إسلامي" لا يتطابق مع هذا التمثل الاستشراقي والسلطوي للإسلام، فلا مفرّ من "صناعته" وفق التمثلات النمطية ذاتها، أي لا مهرب من تثبيته "بالقوة" (رمزيا وماديا) في صورة معينة انطلاقا من التشكيك في نواياه وارتباطاته وغاياته، بل انطلاقا من التشكيك في "تونسيته" و"وطنيته"، واتخاذ ذلك التشكيك مدخلا للتحريض الممنهج عليه أمام كل الأطراف الوازنة محليا وإقليميا ودوليا، والمتخوّفة من الاستثناء التونسي الحقيقي، أي من الاحتكام إلى صناديق الاقتراع ومن الشراكة بين الإسلاميين والعلمانيين، بصرف النظر عن محصول تلك الشراكة أو ما يؤسسها حاليا.

2- أسطورة الاستثناء التونسي: وهي أسطورة تقوم على سردية التأسيس البورقيبي المطلق للدولة الوطنية، كما تقوم على اختزال حركة التحرر الوطني في شخص"الزعيم". ورغم مواقف اليسار من بورقيبة منذ حركة آفاق، فإنه كان وما زال "الابن الشرعي" للبورقيبية، كما قال أحد رموز حركة آفاق، المرحوم نور الدين بن خضر. بل إن البورقيبية قد استطاعت أن تفرض نفسها بصورة أعظم على كل الفرقاء (بمن فيهم الإسلاميون) بعد الثورة، وذلك عندما نجح التجمعيون الجدد وحلفاؤهم في اليسار الثقافي إلى تحويلها إلى "خطاب كبير"، أي إلى خطاب مهيمن يحاول كل الفاعلين الجماعيين الاقتراب منه، أو على الأقل عدم التصادم معه ومع أساطيره التأسيسية. كما تقوم أسطورة "الاستثناء التونسي" على تفوّق تونس على جوارها العربي، واختلافها الجذري عن فضائها الإسلامي واستعلائها على بعدها الإفريقي، وهو خطاب ينسف الفضاء التقليدي للانتماء التونسي، ليستبدله بفضاء جديد أساسه الانتماء المتوسطي والأصل الأمازيغي والأفق الأوروبي لتونس. ولا شك في أنّ الاستثناء التونسي مصاغا بهذه الطريقة هو مجرد استثناء "مخيالي"؛ أقرب إلى المعطى الإيماني منه إلى أية وقائع اجتماعية أو معطيات موضوعية، قابلة للإثبات التاريخي أو للإحصاء المقارني المضبوط بأرقام دقيقة. بل إنّ الاحتكام إلى التاريخ الحقيقي لا المزور والمتلاعب به، والاحتكام إلى الأرقام الموثوقة، يقولان عكس هذه الخرافة وينسفانها نسفا. ويكفي أن نقارن بين معدلات التنمية أو التمدرس في تونس وبين بعض البلدان الإفريقية الصاعدة لنقف على حقائق مؤلمة، ولكنها حقائق يكبتها الخطاب"النمطي" ويخفيها بمهارة، ولا يدفع بها إلى دائرة السجال العمومي أو يتخذها وليجة للنقد الذاتي.

3- أسطورة "العائلة الديمقراطية": وهي مجموعة من الأحزاب والأيديولوجيات التي تُذوّب اختلافاتها المرجعية انطلاقا من القاعدة الحداثية المشتركة الموهومة، كما تذوّب تلك الاختلافات بينها انطلاقا من التعارض الماهوي والنهائي مع الحركات الإسلامية. فهذه "العائلة" تكتسب شرعية وجودها أو تحاول أن تستمد تلك الشرعية من إقامة تقابل جذري بينها وبين الحركات الإسلامية باعتبارها حركات "ظلامية" و"رجعية" تهدد "الحداثة" و"الدولة المدنية". وهو تقابل يهمش كل التقابلات الأخرى، خاصة التقابل بين "القوى الديمقراطية" ودولة الاستبداد التي ظلت طوال تاريخها دولة جهوية- زبونية، رغم كل استعاراتها "الوطنية" الكاذبة. ولا شك في أن الادعاء الذاتي لبعض القوى بانحصار "الديمقراطية" فيهم؛ ينسفه أمران: أولا اعتماد هذه القوى على مرجعية سياسية كليانية واستبدادية، سواء أكانت تلك المرجعية بورقيبية أم قومية أم يسارية، وهي مرجعيات لا يمكن الزعم بأنها تمثل نماذج جيدة (تنظيرا وممارسةً) للحكم الديمقراطي المنعتق من ثلاثية "الأمّة، الحزب، الزعيم". أمّا الأمر الثاني الذي ينسف ادعاءات العائلة الديمقراطية فهو علاقاتها بدولة الاستبداد قبل الثورة (حيث كانت أغلب تلك الأحزاب مجرد ديكور تصنعه أجهزة الدولة الاستبدادية أو تطوّعه لخدمتها)، وعلاقات "الديمقراطيين" بورثة ذلك الاستبداد بعد الثورة (حيث دافعوا عن التجمعيين وعن التطبيع معهم، شرعنوا نداء تونس واعتبروه جزءا من العائلة الديمقراطية، ساعدوا هذا الحزب على إعادة المنظومة القديمة إلى السلطة وقطعوا الطريق على بدائله، بل حرضوا قبل ذلك على الانقلاب على السلطة الشرعية زمن الترويكا ودعوا صراحة وضمنا أكثر من مرة إلى تَونسة السيناريو المصري).

قد يكون المفكر وائل حلاّق محقا عندما ذهب في كتابه "الدولة المستحيلة" إلى أنّ "مفهوم الدولة الإسلامية مستحيل التحقيق، وينطوي على تناقض داخلي، وذلك بحسب أي تعريف سائد لما تمثله الدولة الحديثة"، وقد تكون هذه "الاستحالة" سببا وجيها لمعارضة النخب "الحداثية" التونسية لحركات" الإسلام السياسي"، خاصة حركة النهضة. ولكنّ وجاهة "الغايات" لا ينبغي أن تمنعنا من طرح سؤال "الوسائل" أو الأدوات. فبين الحق المبدئي وغير القابل للتفاوض في معارضة الإسلام السياسي، والتحريض عليه والطعن في شرعيته (في تونس) أو التشفي فيه (بعد الانقلاب المصري)، توجد مسافة سياسية وقيمية ينبغي على العقل "الحداثي" أو على سدنة" النمط المجتمعي التونسي" التفكير فيها. كما أنّ بين المعارضة السياسية والفكرية وإدارة تلك المعارضة بمفردات وجودية وبمعجم استئصالي يقوم على النفي المطلق؛ يوجد "مشترك مواطني" و"إرادة شعبية" ينبغي على النخب الحداثية التفكير فيهما، بعيدا عن الصور النمطية وعن الادعاءات الذاتية.

رغم أن كاتب هذا المقال يوافق أطروحة وائل حلاق باستحالة "الدولة الإسلامية"، بالمفهوم الفقهي التقليدي للإسلام، فإنه يرى أن تلك الأطروحة هي مجرد لحظة معرفية ينبغي أن تتبعها لحظات أخرى؛ تُطرح فيها بعض الأسئلة التي تتعلق بـ"إمكان الدولة الوطنية" أو الدولة- الأمة واستحالتها. فـ"النمط المجتمعي التونسي" مثلا؛ هو أسطورة تؤسس لنصاب سياسي معين قد لا يكون قادرا في هذا الزمن المُعولم على مواجهة التكتلات السياسية والاقتصادية المهيمنة، وهو ما يعني ضرورة التعامل النقدي مع الدولة- الأمة ومع جميع أساطيرها التأسيسية بحثا عن أنصبة سياسية أخرى، أنصبة لسنا مضطرين إلى إدارتها بالمرجعية القومية أو الإسلامية، كما أننا لسنا مضطرين إلى لعن البورقيبية في سبيل تحقيقها. فتشييد "نصاب امبراطوري" مغاربي مثلا (على حد طرح السياسي والمفكر التونسي نورالدين الختروشي) يتطلب تعاملا أقل شوفينية وحمائية مع شركائنا المغاربة ومع فضائنا العربي والإفريقي، كما يتطلب تعاملا أكثر نقدية مع الأساطير المؤسسة للدولة-الأمة ومع سرديتها البورقيبية أساسا. وقد لا يكون من باب المبالغة أن نقول إنّ تونس تمثل "الإقليم القاعدة" المناسب لمثل هذا المسعى الوحدوي والتحرري من تراث سايسكس بيكو وما تلاه من نكسات ونكبات، ولكن تونس لن تكون ذلك "الإقليم القاعدة" لنصاب سياسي يتجاوز الدولة-الأمة دون صعود قوى مؤمنة بالكتلة التاريخية بين الإسلاميين والعلمانيين، قوى تؤمن بأنّ تلك الكتلة لا يمكن أن تتأسس إلا على مشترك مواطني اجتماعي يكون تجاوزا جدليا لأساطير "التحديث" والعلمنة على الطريقة الفرنسية من ناحية أولى، أي لرفض أن يكون الدين جزءا من المرجعيات المنظمة للمجال العام، وتجاوزا لأساطير "الفقه السلطاني" و"أسلمة الدولة" وتجلياتهما في الحركات الإسلامية من ناحية ثانية، أي لحصر المرجعية في الدين وتسليطه قسريا على مجال حداثي غير متجانس فكريا ولا سلوكيا.
التعليقات (0)