كتاب عربي 21

الحياء السياسي المطلوب

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600

في معتقداتنا الشعبية أن المتوفى في رمضان يذهب إلى الجنة؛ لذلك تزيد محبته عند الأحياء لحظة موته. رحم الله الآنسة مي الجريبي المناضلة. فقد قضت ردحا طويلا من عمرها في السياسة من موقع المعارضة ضد الدكتاتورية، حتى أنها لم تفلح في التخلص من الموقع بعد الثورة. ارتفعت مؤشرات محبتها عند الجميع يوم نعيها، وقد كانت تعاني منذ أكثر من سنتين مرضا خبيثا أودى بها، ولم يكن أحد يأتي على ذكرها أو الدعاء إلا من قلة مقربة.


بين الداعين إلى جنازة رسمية لها وبين التجاهل الرسمي ستدخل مي ذاكرة مجروحة بنكران الجميل ومريضة في ذات الوقت باصطناع الأبطال فلا أحد يحظى فيها بحجمه الحقيقي فإما تحقير مطلق وإما اصطناع مطلق. هذا المقال ليس في رثاء مي ولكن في مواصلة نقاش حول الحياء السياسي المطلوب عند تقييم مسيرة بناء الدمقراطية في تونس وسير الفاعلين، فالحياء ضروري لوضع الناس في أحجامها ومواقعها وهذا الحجاج السياسي مطلوب الآن وهنا ليتوقف التطهر السياسي على حساب عقولنا التي لم تفقد مراجعها.


التواطؤ ضد الثورة وضد الديمقراطية


ما بالعهد من قدم. مازلنا نذكر صبيحة فض القصبة 2 .لقد تم إبرام اتفاق حل بمقتضاه الاعتصام وطرد الثوار تقريبا. حتى ذلك الفجر الحزين كان هناك من يقنعنا بأن النقابة الثورية تقود التحركات ولديها خطة تصفية النظام القديم. سلمنا لها وسرنا خلفها بلا تفضل على أحد. حتى وجدنا شخصية من أعمدة النظام القديم تقود البلد وتصفى الثورة بدم بارد. لقد عادت على كتف النقابة الثورية. وكانت مي في حزب القافزين لإنقاذ النظام. بقية الوقائع يتذكرها الجميع هيئة بن عاشور التي وضعها بن علي خططت بقية الفصول وأهمها القانون الانتخابي الذي سيكبل البلد لاحقا بهدف لم يخف في النوايا بل أعلن في الخطاب قطع الطريق على الإسلاميين العائدين.


من أجل قطع الطريق على الإسلاميين قطع طريق الثورة أولا ثم زُيِّف جوهر العملية الديمقراطية برمتها فلم نعرف حجم الأحزاب ولا قدراتها ولم نقرأ اطروحاتها التأسيسية فكل جوامع الخطاب هي إنقاذ البلد من "الخوانجية". ما زال هذا المحدد الرئيسي في سلوك كل النخب وخاصة أولئك القاعدين عن كل مشاركة وينسبون كل الإحباط والفشل والخيانات لحزب النهضة الإسلامي. وسيعتبرون هذا المقال لو تكبدوا عناء الاطلاع عليه دفاعا عن حزب النهضة الذي يشارك بكل اقتدار في التواطؤ ضد نفسه وضد الديمقراطية.

تزييف انتخابات 2011

إذا فوتنا حديث ليلة فض القصبة 2 وظهور الباجي على محفة النقابة ليحكم بواسطة لجنة بن عاشور فإنه لا يمكن أن نغفل التلاعب الخبيث بنتيجة انتخابات 2011 حيث مكث السيد كمال الجندوبي (رئيس أول هيئة انتخابية) أكثر من 100 ساعة بعد الفرز الأول ليعلن نتيجة غير صادقة. في تلك الساعات المائة تم استحضار السيناريو الجزائري وهدد الخاسرون بحمام دم مماثل حزب النهضة الذي ربح. تواطأت قيادة الحزب ضد نفسها وضد النتيجة الحقيقية الحاصلة بالصندوق ليمكن تزييف نتيجة بعض المكاتب ويدخل من لم يختره الشعب ليكتب له الدستور وكان من ضمن الداخلين بلا رصيد انتخابي السيد نجيب الشابي والآنسة مي الجريبي. طبعا وبعض نواب حزب المسار الذين عرفوا حجمهم الحقيقي من يومها فلم يتقدموا لأي انتخابات لاحقة.


صرح بهذا السيد حمادي الجبالي بعد تقاعده واتهم صراحة كمال الجندوبي بتزييف النتيجة ولكن لا أحد دفع الأمر إلى القضاء لإقامة الحجة على الجبالي أو له. لقد توافق الجميع على نصف نتيجة ديمقراطية وعلى نصف مسار وعلى نصف صدق أي أنهم عاشوا منذ تلك اللحظة باتفاق كامل على التزييف. وكانت الآنسة مي إحدى المتوافقات على التزييف بما أنه أدخلها المجلس التأسيسي لتقود معارضة حكومة لم تتشكل بعد. ماذا كان الهدف؟ نفس هدف فض القصبة2: قطع الطريق على تغول النهضة بالتهديد بورقة السيناريو الجزائري. وماذا كان يقول بن علي قبل هؤلاء؟ التخويف بالمثال الجزائري. ماذا كانوا يعارضون زمن بن علي؟ بطولات كثيرة ولكننا مازلنا هنا.

من الحياء وضع الناس مواضعهم

لعله جزء من الثقافة السياسية العربية المغرمة بالمديح وبالهجاء. فقد تم تضخيم صور شخصيات سياسية محدودة في فكرها وأدائها وليس لها مواقف حاسمة في قضايا حاسمة. وتم تحقير شخصيات أخرى لعبت أدوارا ذات أهمية في مراحل مفصلية. لقد لعبت الأيديولوجيا دورا مهما في خلق الصور بالتضخيم أو بالتحقير. ولعل تونس تتميز بخاصية تحقير الناس في قائم حياتهم ثم اصطناع هالات بطولة لهم بعد موتهم. 


كأن في بعض ما يفعلون تكفير عن ذنب محسوس.

ليس هناك مقياس حقيقي لتقييم أداء الشخصيات السياسية فضلا عن الفنية أو الرياضية. ولكن يظل الخط السياسي المنسجم حول الأفكار المعلنة للشخصية السياسية مقياسا جديرا بالتقدير. أما عندما يعلن السياسي انتماء إلى مبدأ ثم يخالفه لأن مصلحته الحينية لا تقوم على الالتزام بإعلان المبادئ المؤسس فهذا من هوان الشخصية وقلة حيائها السياسي.

إن إحدى أهم المجالات التي اختبرت فيها النخبة السياسية في تونس هي طريقة التعامل مع الإسلاميين. لقد تراوحت هذه المواقف بين الرفض المطلق لوجودهم فكرة وتنظيما وأشخاصا وأصحاب هذا الموقف صادقون فيه مرابطون عليه. ولكن هناك مواقف تعتبر الإسلاميين كتلة ناخبة فقط صالحة لتكون سلما لمجدهم الشخصي. لذلك يظهرون لهم العطف ويمارسون عليهم الشفقة وينتظرونهم في الصندوق الانتخابي لرد الجميل. وكان هذا ديدن السيد نجيب الشابي والأنسة مي المتخفية تحت جناحه. لقد سمعت للسيد نجيب أكثر من تصريح يمن فيه على الإسلاميين أنه كان محاميهم زمن المحرقة ولكن لم يسجل أبدا أن السيد نجيب أخرج إسلاميا واحدا من السجن. 
لقد تعرضت الساحة السياسة التونسية لعملية غش كبيرة قامت على خطاب ديمقراطي وممارسة استئصالية. وقد اقتضى الأمر وقتا طويلا ليتم فهم كثير من الأصوات العالية بالصراخ الديمقراطي قبل انكشاف الممارسات.

لقد حجم الصندوق أسماء كثيرة وأعطاها وزنها فلم نعد يسمع لها ركزا مثل السيد نجيب الشابي والسيد بن جعفر وكثير آخر وكانت مرحلة المجلس التأسيسي مرحلة اختبار حقيقي لأسماء كبيرة أو كانت كبيرة حتى انكشفت للناس قلة حيائها السياسي. ومازالت هذه الآلية تشتغل بدقة رغم ما يقال عن غباء الشعب الذي يظهر عزوفا عن السياسة وهو عازف في الواقع عن قليلي الحياء الذين يختبرهم كل يوم. 

ما زال هناك آخرون في الطريق إذا جلسوا إلى الإسلاميين قبلوا رؤوسهم وإذا خلوا عنهم منوا عليهم الهواء الذين يتنفسون. فيضعون أنفسهم في موضع التفضل على قوم لا حق لهم في حياة كاملة وإنما وجود بالتقسيط. سنحتاج وقتا أطول لنصل إلى علاقة ديمقراطية مع الإسلاميين تقوم على نقد ممارساتهم السياسية. وليس على النظر إليهم ككائنات جديرة بالشفقة أو جديرة بالقتل. في أثناء اشتغال الغربال الزمني يبدو أن على الإسلاميين التكلم بصوت مرتفع عن أفكارهم الحقيقية ومشاريعهم الديمقراطية إن وجدت عندهم أفكار ومشاريع للخروج من موضع من يتسول وجوده فالعيش تحت سقف المسكنة واستجداء العطف أحيانا وجه من وجوه قلة الحياء السياسي.

لقد سمحت لنا السنوات السبع بفرص اختبار كثيرة وعميقة، فلم نجد أمامنا أبطالا بل أدعياء، ولذلك فإن العواطف الإنسانية في لحظات الموت لن تخفي عنا الحقيقة. فالعاطفة رديفة للحدس والحدس فطرة لا يسهل خداعها بالخطاب؛ لذلك نقول لأبطال مزيفين: أن تعارض بن علي من أجل الديمقراطية ثم تعيش سياسيا من تزييف نتيجة أول انتخابات تشارك فيها، فهذا لا يجعل تاريخك ناصعا وتستحق الاحترام. سنظل نقدر الإنسان ونترحم ونشهد الله على النوايا، لكن السياسي المخطئ الذي عايشناه مخطئا سيموت عندنا مخطئا.

0
التعليقات (0)

خبر عاجل